النزعة الانطباعية للبشر كثيرا ما تعكس سرديات وظنونا تظل مركوزة في أوهامهم إلى درجة قد تصبح فيها تلك الانطباعات، لدى البعض، مع مر الأيام والسنين، كما لو أنها حقائق! ومن أهم المؤثرات في تلك النزعة الانطباعية؛ أن ألفة الإنسان للحياة التي يعيشها كثيرا ما تنحو به إلى إسقاط أمثلتها على الآخرين، فيقع فريسة للتشويش المستمر أن ما يمر به من حياة ألفها هي عين ما ينبغي أن يكون عليه غيره! وفي حين أن تجارب الحياة الذاتية للإنسان وأطوارها تحتمل أن تكون مقياسا موضوعيا بالنسبة إلى صاحبها، إذ بوسع الإنسان أن يتصور أطوار حياة عاشها ثم قطع معها، سواءً كانت حياةً طيبةً أم غير طيبة، إلا أن نسيان الإنسان لأحواله الماضية هو الذي ما يجعله يغلب حياته الحاضرة ليقيسها على الآخرين.
يمكن القول: إنه طالما ظل الإنسان انطباعيا، على ذلك النحو (وأغلب البشر انطباعيون على ذلك النحو)، فإن قابلية ذلك الاستعداد الانطباعي لأن يكون خلفية يتم بها تنميط البشر بما يتجاوز الانطباع إلى ذاكرة جماعية مستقاة من محيطه ستكون أكثر تشويشا لتلك الرؤية الانطباعية، لأن عادة إلغاء التفكير والتأمل في ظل ضغط ذاكرة جماعية قاهرة، ستكون حاجبة له عن أي تفكير مستقل.
لقد خلق الله البشر بقدرات متفاوتة، وكذلك خلقهم ببنيات ذهنية وخيالية متفاوتة، لكن سلطة إسقاط حياتهم انطباعيا على حيوات الآخرين، بمختلف ألوان هذه الحياة، مرةً كانت أم حلوة، تجعلهم أحيانا كثيرة يتوهمون في الآخرين ما ليس فيهم، وهكذا، فقط، تظل سلطة الإسقاط الذهنية عاجزة عن التخييل المستقل، فكثيرين جدا اليوم هناك من لهم استعداد لتصنيف بلاد بعينها وفق انطباع شائع، قد لا يكون حقيقةً، لكن سلطة الإسقاط تصوره على ذلك النحو الحاجب للرؤية المستقلة للأمور؟!
لنا أن نتصور، مثلا، أن حياة المدن التي ألفناها لطول العيش فيها تجعلنا عاجزين حتى عن تخيل حياة الناس في البادية، فيما أهل البادية ينظرون النظرة ذاتها إلى أهل المدن؟! ولعل ما هو أكثر عجبا أننا، أحيانا، قد لا نكون قادرين على تصور انطباع إنسان أضحى لشدة وطأة نمط حياة ضاغط عليه عاجزا عن تصديق حتى ما قد يراه رأي العين! فالحياة التي نألفها تلون مشاعرنا وتسقطها على الآخرين، لذلك سنجد أن ظاهرة تبدل الأحوال في البشر هي شكل من أشكال «اللفت» القدري إلى الجزء الآخر للحياة من موقعك الذي كنت عليه.
وفي زحمة الإلف مع الحياة تكتسب منظوراتنا الانطباعية لحيوات الآخرين هالة أكبر وتنحو بالبعض، لاسيما في المجتمعات الأكثر مادية، إلى تقدير متجاوز لذاته، فيظن الأشياء هي الأشياء، لكن الحقيقة هي أن ذلك الفرد بتجاوزه لنفسه، غرورا، لا يمكنه أن يلتفت إلى الحقيقة إلا بالصدمة، لأن أمثال هذا الشخص يصبح مشلول التفكير بتعامله مع ظواهر الأشياء لا حقائقها. فتلك النظرة الانطباعية حين تشل تفكيرك تحصرك في سجون الذات وأوهامها، وذات الإنسان أكبر مستودع للأوهام! إن غرور أوهامنا على الظن أن نموذج حياة ما، مقياس لحيوات آخرين تتم معايرة حياتهم وفق أمثلة تلك الحياة النموذج، أو التي يتم تصويرها كنموذج عبر صورة الإعلام والسينما، هو للأسف من النماذج التي سوقتها وسائط الإعلام لكنها في الحقيقة شكل من أشكال الاختيار المادي القصدي للحداثة، بمعنى أن الانشداد للمال وللجمال والقوة (وهي أكثر ما يلهث وراءها صانعو الميديا العالمية) لا يعكسان فقط ذائقة وخيارا وإنما يعكسان كذلك أوتوقراطية إيحائية ناعمة، تجعل الفرد الحديث أسير سجون تلك الميديا التي لا ينظر فيها إلا إلى نماذج الجمال والقوة والمال فقط ، بحيث يقع في نفسه أن مفردات كالقبح النسبي والضعف والفقر ليست من مفردات الحياة برسم إيحاءات الصور الإعلامية التي تظل مع الفرد الحديث في بيته عبر قنوات التلفزة ساعات طويلة.
إن أخطر ما تنطوي عليه النظرة الانطباعية التي تغلّب نموذجها لطريقة الحياة بطريقة تزدري غيرها من النماذج؛ هي أنها ضحية ذلك الإيحاء الأوتوقراطي المتراكم في خزين اللاشعور من نتاج طرق غير طبيعية في تقديم صور مقتطعة من الحياة على أنها الحياة كلها، بل الحياة التي لا ينبغي أن يعيش الإنسان حياة سواها، فالحياة الحقيقية ليست وردية أو كما تصورها السينما!
محمد جميل أحمد كاتب من السودان
يمكن القول: إنه طالما ظل الإنسان انطباعيا، على ذلك النحو (وأغلب البشر انطباعيون على ذلك النحو)، فإن قابلية ذلك الاستعداد الانطباعي لأن يكون خلفية يتم بها تنميط البشر بما يتجاوز الانطباع إلى ذاكرة جماعية مستقاة من محيطه ستكون أكثر تشويشا لتلك الرؤية الانطباعية، لأن عادة إلغاء التفكير والتأمل في ظل ضغط ذاكرة جماعية قاهرة، ستكون حاجبة له عن أي تفكير مستقل.
لقد خلق الله البشر بقدرات متفاوتة، وكذلك خلقهم ببنيات ذهنية وخيالية متفاوتة، لكن سلطة إسقاط حياتهم انطباعيا على حيوات الآخرين، بمختلف ألوان هذه الحياة، مرةً كانت أم حلوة، تجعلهم أحيانا كثيرة يتوهمون في الآخرين ما ليس فيهم، وهكذا، فقط، تظل سلطة الإسقاط الذهنية عاجزة عن التخييل المستقل، فكثيرين جدا اليوم هناك من لهم استعداد لتصنيف بلاد بعينها وفق انطباع شائع، قد لا يكون حقيقةً، لكن سلطة الإسقاط تصوره على ذلك النحو الحاجب للرؤية المستقلة للأمور؟!
لنا أن نتصور، مثلا، أن حياة المدن التي ألفناها لطول العيش فيها تجعلنا عاجزين حتى عن تخيل حياة الناس في البادية، فيما أهل البادية ينظرون النظرة ذاتها إلى أهل المدن؟! ولعل ما هو أكثر عجبا أننا، أحيانا، قد لا نكون قادرين على تصور انطباع إنسان أضحى لشدة وطأة نمط حياة ضاغط عليه عاجزا عن تصديق حتى ما قد يراه رأي العين! فالحياة التي نألفها تلون مشاعرنا وتسقطها على الآخرين، لذلك سنجد أن ظاهرة تبدل الأحوال في البشر هي شكل من أشكال «اللفت» القدري إلى الجزء الآخر للحياة من موقعك الذي كنت عليه.
وفي زحمة الإلف مع الحياة تكتسب منظوراتنا الانطباعية لحيوات الآخرين هالة أكبر وتنحو بالبعض، لاسيما في المجتمعات الأكثر مادية، إلى تقدير متجاوز لذاته، فيظن الأشياء هي الأشياء، لكن الحقيقة هي أن ذلك الفرد بتجاوزه لنفسه، غرورا، لا يمكنه أن يلتفت إلى الحقيقة إلا بالصدمة، لأن أمثال هذا الشخص يصبح مشلول التفكير بتعامله مع ظواهر الأشياء لا حقائقها. فتلك النظرة الانطباعية حين تشل تفكيرك تحصرك في سجون الذات وأوهامها، وذات الإنسان أكبر مستودع للأوهام! إن غرور أوهامنا على الظن أن نموذج حياة ما، مقياس لحيوات آخرين تتم معايرة حياتهم وفق أمثلة تلك الحياة النموذج، أو التي يتم تصويرها كنموذج عبر صورة الإعلام والسينما، هو للأسف من النماذج التي سوقتها وسائط الإعلام لكنها في الحقيقة شكل من أشكال الاختيار المادي القصدي للحداثة، بمعنى أن الانشداد للمال وللجمال والقوة (وهي أكثر ما يلهث وراءها صانعو الميديا العالمية) لا يعكسان فقط ذائقة وخيارا وإنما يعكسان كذلك أوتوقراطية إيحائية ناعمة، تجعل الفرد الحديث أسير سجون تلك الميديا التي لا ينظر فيها إلا إلى نماذج الجمال والقوة والمال فقط ، بحيث يقع في نفسه أن مفردات كالقبح النسبي والضعف والفقر ليست من مفردات الحياة برسم إيحاءات الصور الإعلامية التي تظل مع الفرد الحديث في بيته عبر قنوات التلفزة ساعات طويلة.
إن أخطر ما تنطوي عليه النظرة الانطباعية التي تغلّب نموذجها لطريقة الحياة بطريقة تزدري غيرها من النماذج؛ هي أنها ضحية ذلك الإيحاء الأوتوقراطي المتراكم في خزين اللاشعور من نتاج طرق غير طبيعية في تقديم صور مقتطعة من الحياة على أنها الحياة كلها، بل الحياة التي لا ينبغي أن يعيش الإنسان حياة سواها، فالحياة الحقيقية ليست وردية أو كما تصورها السينما!
محمد جميل أحمد كاتب من السودان