بعد قضائه أكثر من 30 عامًا في السجن، ألغت المحكمة الجنائية في ولاية تينيسي الأمريكية رسميًا حكم الإعدام الصادر بحق مُتهم في قضية قتل بعد أن قبلت المحكمة اعتباره مُعاقًا ذهنيًا وبالتالي فإن إعدامه فِعلٌ غير دستوري، وتقرر أن تُعقد جلسة استماع لإعادة الحكم في وقت لاحق.
كان قد حُكم على بيرفيس باين بالإعدام لارتكابه جريمة قتل بحق امرأة وابنتها، إذ وُجد المُتهم مُذنبا بناء على الأدلة التالية: الوجود في مسرح الجريمة، والهروب عند قدوم الشرطة. لكن باين يدعي أن الأمر ليس كما يبدو. فعندما سمع باين أصواتًا قادمة من شقة الضحية، هرع ليرى ما يحدث، كان حينها أن وجد الضحية غارقة في دمائها، حاول انتزاع السكين من صدرها (إذ كانت هذه هي الفكرة الأولى التي خطرت بذهنه: المُساعدة). عندما قدمت الشرطة، نظر المتهم إلى نفسه وأدرك أنه في موقف مثير للريبة، إذ كان ملطخا بالدماء، يحمل أداة الجريمة في يده. ما كان من باين إلا أن هرب، مما عُد دليلا قويا ضد براءته.
قبل أن ندخل في صُلب هذا المقال الذي يُعنى بتعريف الإعاقة الذهنية وتحديدها، دعوني أُشير لأمرٍ أخير. تم تسخير الصورة النمطية للرجال السود في هذه القضية - كون الضحية امرأة بيضاء، والمُتهم رجل أسود. وبالرغم من خلو سجل المُتهم من أي تاريخ عنيف، أو جنايات سابقة، وبالرغم من عدم وجود أي دافع للجريمة، إلا أنه أُدين مع ذلك.
والآن، لنعد إلى سؤالنا الأساسي: كيف قررت المحكمة سابقا أن باين لا يُعد معاقا ذهنيا، وكيف تغير حُكمها؟ بعض الولايات الأمريكية تعتبر اختبارات الذكاء هي الفيصل. وتأخذ الرقم 70 كحد يفصل بين كون الإنسان مُعاقا من عدمه. في فلوريدا مثلا، إذا ما كانت نتيجة المرء 70 فهو مُعاق، لكن ليس71. في حالة باين، أحرز في بعض الاختبارات درجة 78، وهي بعيدة عن الحد المُعتمد (70)، ولكن - يقول المُدافعون عنه - اختبارات الذكاء تفقد قيمتها مع الوقت، وتحتاج إلى المعايرة المستمرة، وأن درجة 78 قد تبدو عالية، ولكنه عندما خضع لاختبار مُعاير وُجد أن درجة باين تقع ضمن طيف الإعاقة.
حين نتحدث عن ظروف طبيعية، فوضع حدٍ كمي صارم قد يكون مفهوما، أما عند الحديث عن ظرف استثنائي كالاتهام بالقتل، فهذه قصة أخرى. فحتى وإن لم يقع المرء ضمن طيف الإعاقة الذهنية، إلا أن القدرات العقلية المتدنية لها أثر سلبي عند الاستجواب، أو محاولة الدفاع عن النفس ضد المزاعم الموجهة. فالذين يعانون من هذا النوع من التحديات على الأغلب غير قادرين على اتخاذ القرارات السليمة، مثل التصرف السليم إذا ما وجدوا نفسهم في مسرح الجريمة، أو إدراك ما قد يعنيه هروبهم إذا فروا عند قدوم الشرطة. هم أيضا لا يملكون اللغة أو الذكاء للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات، وهم فوق ذلك قد يصرحون بما لا يُصب في مصلحتهم. أمر مهم أيضا يتمثل في الاستراتيجيات التي يتبنونها كأشخاص محدودي القدرة. بمعنى آخر، شخص مثل باين والذي رغم دأبه فشل في إنهاء المدرسة - حسب شهادة معلميه -، والذي يرى من هم أصغر سنا يتقدمون في الحياة على نحو أسرع منه، عليه ليستمر في ممارسة الحياة العادية أن يلبس «عباءة الكفاءة»، ويتظاهر بأنه يفهم ما لا يفهمه، وهو أمر لعله ليس بتلك الخطورة عندما يحاول إقناع أحدهم أنه قادر على العمل، ولكنه في غاية الخطورة عندما يتعلق بفهم حقوقك المدنية عند الاعتقال والاستجواب. هذه المشاكل في استخدام المنطق، والضعف اللغوي، والقدرات المتدنية في الحكم على الأمور، تجعلهم في موقع حرج يسترعي معاملة خاصة (المزيد عن هذا في تقرير تاشا ليملي على Scientific American).
علينا أن نعترف أننا مولعون بالأرقام. إنها مختزلة وأنيقة. نراها كلغة موضوعية للقياس والمقارنة، نستند إليها كأدلة رفيعة للحكم والتكميم. نُشير إليها مُزيحين المسؤولية عن كواهلنا «هذا ما تقوله الأرقام!». يصعب علينا أن نُعرّف ما هو الذكاء، ولكن يسهل علينا القول إن 78 أكبر من 70. لكن هذا الاستسهال، هذه الثقة العمياء في الأرقام، قد تتسبب في التحيز، في إطلاق الأحكام الخاطئة، وفي إدانة الأبرياء. إنها تُعاضد فكرتنا عن «تفاهة الشر» كانسة بالغبار تحت السجادة، لإنهاء اليوم كيفما اتفق.
لكن الأرقام لا تتحدث عن نفسها، إنها تحتاج لأن تُوضع في سياق ما. يُجادل البعض أن اختبارات الذكاء أساسا طُورت لغرض الكشف عن الطلبة الذين يفتقرون (تماما أو إلى حد ما) للقدرات الذهنية الأساسية للتعلم. وقد طُورت بهدف تحديد من يحتاجون إلى مُساعدة إضافية في عملية التعلم. وبذلك لا تكون أدوات لقياس الذكاء فعليا. بالطبع اختبارات الذكاء تطورت اليوم لاستخدامات أخرى، لكنها عانت طويلا - وتعاني اليوم - من الاستخدام الخاطئ. الانتباه للغرض الذي تطور له نماذج البيانات وأدوات التقييم والقياس، أمر ضروري. الاستخدام غير الحريص لها خارج النِطاق الذي طُورت له يُفقدها صلاحيتها، ويُجردها من قيمتها ومعناها. والانتباه لشروط استخدامها - كالمُعايرة المستمرة - لا يمكن الاستهانة به.
لا يجدر استسهال تحكيم قياسات كمية لظواهر ومفاهيم يصعب علينا حتى تعريفها، أشياء مثل الذكاء. إذ تُرافقها مستويات من التعقيد في التعريف، في طرق القياس، في ظروف القياس، وفي شروط الاستخدام. وهذا الوهم بالقدرة على قياس أي شيء تماما كما نقيس درجات الحرارة قد لا يكون ممكنا إطلاقا.
نوف السعيدي كاتبة عمانية وباحثة في مجال فلسفة العلوم
كان قد حُكم على بيرفيس باين بالإعدام لارتكابه جريمة قتل بحق امرأة وابنتها، إذ وُجد المُتهم مُذنبا بناء على الأدلة التالية: الوجود في مسرح الجريمة، والهروب عند قدوم الشرطة. لكن باين يدعي أن الأمر ليس كما يبدو. فعندما سمع باين أصواتًا قادمة من شقة الضحية، هرع ليرى ما يحدث، كان حينها أن وجد الضحية غارقة في دمائها، حاول انتزاع السكين من صدرها (إذ كانت هذه هي الفكرة الأولى التي خطرت بذهنه: المُساعدة). عندما قدمت الشرطة، نظر المتهم إلى نفسه وأدرك أنه في موقف مثير للريبة، إذ كان ملطخا بالدماء، يحمل أداة الجريمة في يده. ما كان من باين إلا أن هرب، مما عُد دليلا قويا ضد براءته.
قبل أن ندخل في صُلب هذا المقال الذي يُعنى بتعريف الإعاقة الذهنية وتحديدها، دعوني أُشير لأمرٍ أخير. تم تسخير الصورة النمطية للرجال السود في هذه القضية - كون الضحية امرأة بيضاء، والمُتهم رجل أسود. وبالرغم من خلو سجل المُتهم من أي تاريخ عنيف، أو جنايات سابقة، وبالرغم من عدم وجود أي دافع للجريمة، إلا أنه أُدين مع ذلك.
والآن، لنعد إلى سؤالنا الأساسي: كيف قررت المحكمة سابقا أن باين لا يُعد معاقا ذهنيا، وكيف تغير حُكمها؟ بعض الولايات الأمريكية تعتبر اختبارات الذكاء هي الفيصل. وتأخذ الرقم 70 كحد يفصل بين كون الإنسان مُعاقا من عدمه. في فلوريدا مثلا، إذا ما كانت نتيجة المرء 70 فهو مُعاق، لكن ليس71. في حالة باين، أحرز في بعض الاختبارات درجة 78، وهي بعيدة عن الحد المُعتمد (70)، ولكن - يقول المُدافعون عنه - اختبارات الذكاء تفقد قيمتها مع الوقت، وتحتاج إلى المعايرة المستمرة، وأن درجة 78 قد تبدو عالية، ولكنه عندما خضع لاختبار مُعاير وُجد أن درجة باين تقع ضمن طيف الإعاقة.
حين نتحدث عن ظروف طبيعية، فوضع حدٍ كمي صارم قد يكون مفهوما، أما عند الحديث عن ظرف استثنائي كالاتهام بالقتل، فهذه قصة أخرى. فحتى وإن لم يقع المرء ضمن طيف الإعاقة الذهنية، إلا أن القدرات العقلية المتدنية لها أثر سلبي عند الاستجواب، أو محاولة الدفاع عن النفس ضد المزاعم الموجهة. فالذين يعانون من هذا النوع من التحديات على الأغلب غير قادرين على اتخاذ القرارات السليمة، مثل التصرف السليم إذا ما وجدوا نفسهم في مسرح الجريمة، أو إدراك ما قد يعنيه هروبهم إذا فروا عند قدوم الشرطة. هم أيضا لا يملكون اللغة أو الذكاء للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات، وهم فوق ذلك قد يصرحون بما لا يُصب في مصلحتهم. أمر مهم أيضا يتمثل في الاستراتيجيات التي يتبنونها كأشخاص محدودي القدرة. بمعنى آخر، شخص مثل باين والذي رغم دأبه فشل في إنهاء المدرسة - حسب شهادة معلميه -، والذي يرى من هم أصغر سنا يتقدمون في الحياة على نحو أسرع منه، عليه ليستمر في ممارسة الحياة العادية أن يلبس «عباءة الكفاءة»، ويتظاهر بأنه يفهم ما لا يفهمه، وهو أمر لعله ليس بتلك الخطورة عندما يحاول إقناع أحدهم أنه قادر على العمل، ولكنه في غاية الخطورة عندما يتعلق بفهم حقوقك المدنية عند الاعتقال والاستجواب. هذه المشاكل في استخدام المنطق، والضعف اللغوي، والقدرات المتدنية في الحكم على الأمور، تجعلهم في موقع حرج يسترعي معاملة خاصة (المزيد عن هذا في تقرير تاشا ليملي على Scientific American).
علينا أن نعترف أننا مولعون بالأرقام. إنها مختزلة وأنيقة. نراها كلغة موضوعية للقياس والمقارنة، نستند إليها كأدلة رفيعة للحكم والتكميم. نُشير إليها مُزيحين المسؤولية عن كواهلنا «هذا ما تقوله الأرقام!». يصعب علينا أن نُعرّف ما هو الذكاء، ولكن يسهل علينا القول إن 78 أكبر من 70. لكن هذا الاستسهال، هذه الثقة العمياء في الأرقام، قد تتسبب في التحيز، في إطلاق الأحكام الخاطئة، وفي إدانة الأبرياء. إنها تُعاضد فكرتنا عن «تفاهة الشر» كانسة بالغبار تحت السجادة، لإنهاء اليوم كيفما اتفق.
لكن الأرقام لا تتحدث عن نفسها، إنها تحتاج لأن تُوضع في سياق ما. يُجادل البعض أن اختبارات الذكاء أساسا طُورت لغرض الكشف عن الطلبة الذين يفتقرون (تماما أو إلى حد ما) للقدرات الذهنية الأساسية للتعلم. وقد طُورت بهدف تحديد من يحتاجون إلى مُساعدة إضافية في عملية التعلم. وبذلك لا تكون أدوات لقياس الذكاء فعليا. بالطبع اختبارات الذكاء تطورت اليوم لاستخدامات أخرى، لكنها عانت طويلا - وتعاني اليوم - من الاستخدام الخاطئ. الانتباه للغرض الذي تطور له نماذج البيانات وأدوات التقييم والقياس، أمر ضروري. الاستخدام غير الحريص لها خارج النِطاق الذي طُورت له يُفقدها صلاحيتها، ويُجردها من قيمتها ومعناها. والانتباه لشروط استخدامها - كالمُعايرة المستمرة - لا يمكن الاستهانة به.
لا يجدر استسهال تحكيم قياسات كمية لظواهر ومفاهيم يصعب علينا حتى تعريفها، أشياء مثل الذكاء. إذ تُرافقها مستويات من التعقيد في التعريف، في طرق القياس، في ظروف القياس، وفي شروط الاستخدام. وهذا الوهم بالقدرة على قياس أي شيء تماما كما نقيس درجات الحرارة قد لا يكون ممكنا إطلاقا.
نوف السعيدي كاتبة عمانية وباحثة في مجال فلسفة العلوم