يحاول أنطونيو داماسيو في الفصل السابع من كتابه "الترتيب الغريب للأشياء" (2018) أن يجيب عن سؤال مهم يخص الحياة، المشاعر، وصناعة الثقافة، ألا وهو: لماذا تُهمل العواطف في ثقافتنا المعاصرة، بالرغم من أن الحياة غير ممكنة بدونها. إنها أساس الاستتباب الداخلي (أجد أن المصطلح العربي هنا أدق من الانجليزي Homeostasis أراهن أن داماسيو سيشاطرني الرأي إذ أعرب مرارا عن عدم رضاه عن المصطلح الذي يوحي بالانتقال من حالة إلى أخرى، بينما المفردة الأدق لوصف هذه الظاهرة يجب أن تحمل معنى الاتزان وهو ما تنجح المفردة العربية في تصويره). نقول إن المشاعر تساهم في الاستتباب الداخلي، مثل عدم الارتياح الذي تشعر به تحت وطأة درجات الحرارة المرتفعة والذي ينبؤك بضرورة خفض حرارة جسمك. إنها وسيلة نجاة مهمة، فالخوف وسيلة نجاة، والقلق (ضمن الحدود الطبيعية) يجعلك متحفزا ما يُعينك على التحضير للمناسبات المهمة مثل الاختبارات أو الاجتماعات وغيرها، والتأكد من أنك جاهز لها. مشاعر الحزن التي ترافق توديع شخص مقرب، تعلمك أن لا تفرط في أصدقائك وأحبائك، أنه ما يدفعك للتبرع بكليتك، أو القفز إلى البحر لإنقاذهم، وغيرها من ردود الفعل التي نسبغ عليها نعوت النُبل والإيثار.
يقترح داماسيو إجابتين محتملتين لسؤاله حول إهمال المشاعر في الثقافة المعاصرة: أولا لأنها تتطلب اهتماما قليلا من قِبلنا، وطريقة التعامل معها في الغالب آلية تماما. السبب الآخر يتمثل في سوء السمعة التي اكتسبتها نظرا لارتباطها بعواطف سلبية مدمرة.
الترتيب الغريب للأشياء يُشير إلى تأصل المشاعر باعتبارها أدوات أقدم للبقاء. تلتها القدرة على ترجمة هذه المشاعر عبر اللغة، عبر الأفكار. وبالتالي - وعلى نحو عجيب - القدرة على تغيير تلك العواطف من خلال التفكير بها ومنطقتها.
يؤكد المُهتمون أنه يمكن اقتفاء جذور العلاج المعرفي السلوكي إلى الفلسفة الرواقية. تحديدا من فكرة أنه بالإمكان تسخير الأدوات المنطقية لتحديد "المعتقدات الخاطئة" التي تؤدي إلى "المشاعر المدمرة". مواجهة هذه الانطباعات المشوهة بالأدلة التي تفندها، تؤثر وتغير المشاعر. تتغير طريقة تعاملنا مع المواقف إذا ما تغيرت معتقداتنا الخاطئة، على نحو لا يؤدي لمشاعر مدمرة مثل الاكتئاب والقلق.
ينطلق علماء النفس والمعالجون النفسانيون من مبدأ أساسي وهو أن أفكارنا ومعتقداتنا تؤثر في تلقينا للتجارب. يتوافق هذا مع رأي فلاسفة الإدراك الحسي، حول كون عملية التلقي الحسية ليست عملية سلبية، بمعنى أن ذاكرتنا، انتباهنا، تدريبنا الحسي، تؤثر على الطريقة التي ندرك بها العالم.
من هنا يأتي اهتمامي الشخصي بالتشوهات المعرفية التي يهتم بها المعالجين النفسيين خصوصا من يعتمدون العلاج المعرفي السلوكي. أُريد التأكيد هنا أن خلفيتي في مجال علم النفس محدودة، وأن اهتمامي بالموضوع ينبع من اهتمامي بتحديد أنماط التفكير المعيبة، والتعرف على أثرها في عملية الإدراك الحسي.
دعونا نستعرض الآن أهم التشوهات المعرفية التي يمكن أن تلاحظها في نفسك أو في الآخرين من حولك وفقا لموقع "علم النفس الإيجابي" positivepsychology.com:
الترشيح: التركيز على الوجه السلبي للتجربة أو الحدث وتجاهل الوجه الإيجابي مهما كانت وفيرة.
التفكير التضخيمي أو التقليلي: توقع الأسوأ في تجربة أو حدث، والمبالغة في تخيل تبعاته السيئة، والتقليل من النتائج الإيجابية له. مثلا الشعور بأن خطأ منك في مشروع محدد قد يؤدي لتبعات كارثية مثل طردك من العمل. أو التقليل من أهمية إنجاز حققته، أو من شأن سمة شخصية محببة فيك.
التفكير القطبي: التفكير في المسائل باعتبارها "إما أو" أبيض أو أسود. مثلا: كل شيء أو لا شيء إطلاقا. فيما يتم تجاهل تعقيد الأمور. مثل التفكير بأن فشلك كطالب في مادة ما، أو عدم إتقانك لمهارة محددة، ما هو إلا تجلٍ واضح لكونك محدودا أو فاشلا بالمطلق.
مغالطة الجزاء السماوي: توقع أن تكافئ التضحيات، وأن ترى فورا نتيجة أفعالك الحسنة، وعدم قبول حقيقة أن تضحياتك قد تذهب هباء.
مغالطات التحكم: افتراض أنك تتحمل شخصيا خطأ ما يحدث، وأنه خطأك دائما، أو افتراض أنه خطأ الآخرين دائما، وأنهم المُلامون على الأشياء السيئة التي تحدث لك. كافتراض أن فضاضة شخص ما تجاهك تعود لشيء فعلته أو لسمة فيك، أو بالمقابل أنك لا تتحمل مسؤولية أي حادث سيء فعدم اجتيازك الاختبار لا يعود لكونك غير مستعد له، بل لكون المعلم منحاز ضدك مثلا.
أن تكون على حق دائما: الخطأ غير مقبول، أهمية أن تكون على حق تفوق أي اعتبارات أُخرى. كأن تُصر على قول الحقيقة دون مراعاة مشاعر الآخرين، أو النظر في تبعات تلك الصراحة المفرطة. شكل آخر من هذا التشوه المعرفي يتمثل في العناد وعدم الاستسلام لحقيقة أن المرأ قد يخطأ أحيانا، وهو أمر مقبول، لا يسترعي أي لوم للذات أو شعور بالذنب.
مغالطة العدالة: افتراض أن الحياة يجب أن تكون عادلة. إن الانغماس في مثالية كهذه يؤدي للاستياء والغضب. علينا أن نفهم أن الأمور أحيانا تسير في الاتجاه الذي نهواه، وأحيانا لا تسير في الاتجاه الذي نرجو، مهما يكن الأمر غير عادل من وجهة نظرنا.
التشخيص: افتراض أنك المسؤول دائما. وأن أفعالك - مهما تكن بسيطة - لها تبعات خطيرة، وهي مسؤولة عن إفساد الأشياء الأكبر. مثلا ربط فشل اجتماع ما بكونك قد تأخرت بضع دقائق عنه، والاعتقاد بأنه لولا تأخرك لكان اجتماعا مثمرا بلا ريب.
التعميم المفرط: استخلاص تعميمات بناءً على تجربة وحيدة. وإطلاق الأحكام الفضفاضة. كأن تستنتج أن عدم قبولك للعمل في مكان ما يعني أنك لن تُقبل في أي مكان آخر. ترتبط هذه المغالطة أيضا بإطلاق الأحكام، كأن تحكم على شخص بأنه فض لمجرد أنه أساء التعبير مرة.
القفز إلى الاستنتاجات: الحكم على المسائل دون توفر الأدلة الكافية للخروج باستدلال موثوق، أو دون توفر أدلة على الإطلاق. كأن نكون مقتنعين بأن شخصا ما لا يبغضنا لمجرد أننا نشعر بذلك.
المنطَقة العاطفية: افتراض أن الأمر صحيح، لمجرد أنك تشعر به. كأن تفترض بأنك شخص غير جذاب لمجرد أنك في مزاج يُشعرك بذلك. في إغفال تام للظروف المحيطة بتلك اللحظة.
مغالطة التغيير: توقع أن يتغير الآخرون. عبر هذه المغالطة، يربط الشخص سعادته بالآخرين، ويرى أن تغيرهم وفق رؤيته ضروري لسعادته الشخصية.
ما يجب أن يكون: التشبث بشكل صارم من أشكال السلوك وعدم الخروج عنه، وتوقع التزام الآخرين به أيضا. والحكم على النفس وعلى الآخرين إذا ما كُسرت قواعد السلوك هذه. تتخيل مثلا أن على موظفي خدمة الزبائن أن يقدموا المساعدة، وأن يكون لطيفين معك. كسر هذه القاعدة، كأن تصادف موظفا غير عابئ بمساعدتك، أو فض معك تدفعك لاستياء عارم وغضب، لأن الأمور - بالنسبة لك - لا يجب أن تكون على هذا النحو. أو شعورك بالذنب إذا ما فعلت ما تريد فعله مقابل ما يجب عليك فعله؛ لأن في ذلك تضييع للوقت. أو إذا ما أنفقت النقود على شيء غير ضروري؛ لأنه سلوك غير مسؤول وفق قواعدك.
هذه إذا بعض التشوهات المعرفية التي يمكن تحديدها ومعالجتها سواء عبر الجهد الذاتي أو تدخل الخبراء. فالمشاعر المدمرة وإن كان يصعب تحديدها والتعامل معها إلا أن هذا ممكن. لا أود التطرق إلى الجزء العلاجي، والنصائح التصحيحية، ليس لأن الحديث يطول فحسب، بل لأهمية أن يُترك شيء كهذا للمختصين.
• نوف السعيدي كاتب وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
يقترح داماسيو إجابتين محتملتين لسؤاله حول إهمال المشاعر في الثقافة المعاصرة: أولا لأنها تتطلب اهتماما قليلا من قِبلنا، وطريقة التعامل معها في الغالب آلية تماما. السبب الآخر يتمثل في سوء السمعة التي اكتسبتها نظرا لارتباطها بعواطف سلبية مدمرة.
الترتيب الغريب للأشياء يُشير إلى تأصل المشاعر باعتبارها أدوات أقدم للبقاء. تلتها القدرة على ترجمة هذه المشاعر عبر اللغة، عبر الأفكار. وبالتالي - وعلى نحو عجيب - القدرة على تغيير تلك العواطف من خلال التفكير بها ومنطقتها.
يؤكد المُهتمون أنه يمكن اقتفاء جذور العلاج المعرفي السلوكي إلى الفلسفة الرواقية. تحديدا من فكرة أنه بالإمكان تسخير الأدوات المنطقية لتحديد "المعتقدات الخاطئة" التي تؤدي إلى "المشاعر المدمرة". مواجهة هذه الانطباعات المشوهة بالأدلة التي تفندها، تؤثر وتغير المشاعر. تتغير طريقة تعاملنا مع المواقف إذا ما تغيرت معتقداتنا الخاطئة، على نحو لا يؤدي لمشاعر مدمرة مثل الاكتئاب والقلق.
ينطلق علماء النفس والمعالجون النفسانيون من مبدأ أساسي وهو أن أفكارنا ومعتقداتنا تؤثر في تلقينا للتجارب. يتوافق هذا مع رأي فلاسفة الإدراك الحسي، حول كون عملية التلقي الحسية ليست عملية سلبية، بمعنى أن ذاكرتنا، انتباهنا، تدريبنا الحسي، تؤثر على الطريقة التي ندرك بها العالم.
من هنا يأتي اهتمامي الشخصي بالتشوهات المعرفية التي يهتم بها المعالجين النفسيين خصوصا من يعتمدون العلاج المعرفي السلوكي. أُريد التأكيد هنا أن خلفيتي في مجال علم النفس محدودة، وأن اهتمامي بالموضوع ينبع من اهتمامي بتحديد أنماط التفكير المعيبة، والتعرف على أثرها في عملية الإدراك الحسي.
دعونا نستعرض الآن أهم التشوهات المعرفية التي يمكن أن تلاحظها في نفسك أو في الآخرين من حولك وفقا لموقع "علم النفس الإيجابي" positivepsychology.com:
الترشيح: التركيز على الوجه السلبي للتجربة أو الحدث وتجاهل الوجه الإيجابي مهما كانت وفيرة.
التفكير التضخيمي أو التقليلي: توقع الأسوأ في تجربة أو حدث، والمبالغة في تخيل تبعاته السيئة، والتقليل من النتائج الإيجابية له. مثلا الشعور بأن خطأ منك في مشروع محدد قد يؤدي لتبعات كارثية مثل طردك من العمل. أو التقليل من أهمية إنجاز حققته، أو من شأن سمة شخصية محببة فيك.
التفكير القطبي: التفكير في المسائل باعتبارها "إما أو" أبيض أو أسود. مثلا: كل شيء أو لا شيء إطلاقا. فيما يتم تجاهل تعقيد الأمور. مثل التفكير بأن فشلك كطالب في مادة ما، أو عدم إتقانك لمهارة محددة، ما هو إلا تجلٍ واضح لكونك محدودا أو فاشلا بالمطلق.
مغالطة الجزاء السماوي: توقع أن تكافئ التضحيات، وأن ترى فورا نتيجة أفعالك الحسنة، وعدم قبول حقيقة أن تضحياتك قد تذهب هباء.
مغالطات التحكم: افتراض أنك تتحمل شخصيا خطأ ما يحدث، وأنه خطأك دائما، أو افتراض أنه خطأ الآخرين دائما، وأنهم المُلامون على الأشياء السيئة التي تحدث لك. كافتراض أن فضاضة شخص ما تجاهك تعود لشيء فعلته أو لسمة فيك، أو بالمقابل أنك لا تتحمل مسؤولية أي حادث سيء فعدم اجتيازك الاختبار لا يعود لكونك غير مستعد له، بل لكون المعلم منحاز ضدك مثلا.
أن تكون على حق دائما: الخطأ غير مقبول، أهمية أن تكون على حق تفوق أي اعتبارات أُخرى. كأن تُصر على قول الحقيقة دون مراعاة مشاعر الآخرين، أو النظر في تبعات تلك الصراحة المفرطة. شكل آخر من هذا التشوه المعرفي يتمثل في العناد وعدم الاستسلام لحقيقة أن المرأ قد يخطأ أحيانا، وهو أمر مقبول، لا يسترعي أي لوم للذات أو شعور بالذنب.
مغالطة العدالة: افتراض أن الحياة يجب أن تكون عادلة. إن الانغماس في مثالية كهذه يؤدي للاستياء والغضب. علينا أن نفهم أن الأمور أحيانا تسير في الاتجاه الذي نهواه، وأحيانا لا تسير في الاتجاه الذي نرجو، مهما يكن الأمر غير عادل من وجهة نظرنا.
التشخيص: افتراض أنك المسؤول دائما. وأن أفعالك - مهما تكن بسيطة - لها تبعات خطيرة، وهي مسؤولة عن إفساد الأشياء الأكبر. مثلا ربط فشل اجتماع ما بكونك قد تأخرت بضع دقائق عنه، والاعتقاد بأنه لولا تأخرك لكان اجتماعا مثمرا بلا ريب.
التعميم المفرط: استخلاص تعميمات بناءً على تجربة وحيدة. وإطلاق الأحكام الفضفاضة. كأن تستنتج أن عدم قبولك للعمل في مكان ما يعني أنك لن تُقبل في أي مكان آخر. ترتبط هذه المغالطة أيضا بإطلاق الأحكام، كأن تحكم على شخص بأنه فض لمجرد أنه أساء التعبير مرة.
القفز إلى الاستنتاجات: الحكم على المسائل دون توفر الأدلة الكافية للخروج باستدلال موثوق، أو دون توفر أدلة على الإطلاق. كأن نكون مقتنعين بأن شخصا ما لا يبغضنا لمجرد أننا نشعر بذلك.
المنطَقة العاطفية: افتراض أن الأمر صحيح، لمجرد أنك تشعر به. كأن تفترض بأنك شخص غير جذاب لمجرد أنك في مزاج يُشعرك بذلك. في إغفال تام للظروف المحيطة بتلك اللحظة.
مغالطة التغيير: توقع أن يتغير الآخرون. عبر هذه المغالطة، يربط الشخص سعادته بالآخرين، ويرى أن تغيرهم وفق رؤيته ضروري لسعادته الشخصية.
ما يجب أن يكون: التشبث بشكل صارم من أشكال السلوك وعدم الخروج عنه، وتوقع التزام الآخرين به أيضا. والحكم على النفس وعلى الآخرين إذا ما كُسرت قواعد السلوك هذه. تتخيل مثلا أن على موظفي خدمة الزبائن أن يقدموا المساعدة، وأن يكون لطيفين معك. كسر هذه القاعدة، كأن تصادف موظفا غير عابئ بمساعدتك، أو فض معك تدفعك لاستياء عارم وغضب، لأن الأمور - بالنسبة لك - لا يجب أن تكون على هذا النحو. أو شعورك بالذنب إذا ما فعلت ما تريد فعله مقابل ما يجب عليك فعله؛ لأن في ذلك تضييع للوقت. أو إذا ما أنفقت النقود على شيء غير ضروري؛ لأنه سلوك غير مسؤول وفق قواعدك.
هذه إذا بعض التشوهات المعرفية التي يمكن تحديدها ومعالجتها سواء عبر الجهد الذاتي أو تدخل الخبراء. فالمشاعر المدمرة وإن كان يصعب تحديدها والتعامل معها إلا أن هذا ممكن. لا أود التطرق إلى الجزء العلاجي، والنصائح التصحيحية، ليس لأن الحديث يطول فحسب، بل لأهمية أن يُترك شيء كهذا للمختصين.
• نوف السعيدي كاتب وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم