في ورش عمل الكتابة الإبداعية، نحرص كمدربين على أن نؤكد على المشاركين أن ما سيتعلمونه هو مجرد قوانين عامة وأن الإبداع يُحتم عليهم محاولة كسر هذه القواعد، أو كما يقول قاسم حداد: «أنت حين تعرف القاعدة جيدًا يمكنك أن تكسرها بشكل ممتاز»، أو كما كان يذهب قدامى العرب إلى أنك حتى تصبح شاعرًا عليك أن تحفظ ألف بيت ثم أن تنساها.

لكن إن كان هذا هو الحال في الكتابة الإبداعية أو الأدب شعرًا كان أو نثرًا إلا أنه ليس كذلك في الحياة، فالمجتمعات تريد أن تعلم أفرادها القواعد وتريد منهم أن يلتزموا بها، هذا الالتزام بالقواعد هو ما يضمن لهذه المجتمعات الاستمرارية، أو هذا ما تتوهمه على الأقل.

في كتابه سبل النعيم، الميثيولوجيا والتحول الشخصي، يورد جوزيف كامبل هذا الاستنتاج اللافت «إن السبيل لإثبات الحياة هو إثباتها من الجذور، من الأساس العفين المروع، هذا النوع من الإثبات هو الذي يجده المرء في الشعائر البدائية، وتكون بعض هذه الشعائر وحشية للغاية لا يقرأ عنها إلا نادرًا، ناهيك أن يراها بالرغم من ذلك، هي تقدم صورة مفعمة بالحيوية للعقل اليافع الشاب، الحياة شيء وحشي، وإن كنت ستعيش فعليك أن تعيش بهذه الطريقة وهذا يعني وفق تقاليد القبيلة».

نعم الحياة شيء وحشي، وكانت أكثر العقوبات قسوة في المجتمعات البدائية هو النفي، أي الطرد من حرم القبيلة، الإبعاد عن الأهل والبيت والحياة العادية، فيبتعد المطرود عن حماية القبيلة ليواجه وحوشا وظروف العالم أعزلا إلا من نفسه وهراوته.

وعلى الرغم من أن المجتمعات الحديثة قد تخلت عن القبلية كنظام اجتماعي، وانضوت تحت راية الدولة المدنية، التي أساسها القانون والعدل والمساواة، فيما يعرف بالعصر الثقافي العقلاني الذي يعتمد على العلم والمنطق، إلا أن القبيلة كمصطلح ما زال يستخدم في وصف مجموعة من الناس المتشابهين أو المتوافقين في الآراء والتوجهات وأحيانا الهوايات والممارسات، وهذا لا يبتعد كثيرًا عن فكرة القبيلة في المجتمعات البدائية، إلا أنها لا تستلزم وجود رابطة دم ولا تفترض وجود تراتبية معينة.

ويذهب الغذامي في كتابه القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة إلى أن القبلية ظاهرة ثقافية غير ظرفية، وفي تفسيره لظاهرة العودة إلى النسق القبلي في المجتمعات يورد الغذامي الخوف كسبب رئيس، أو ما نحب أن نسميه الخوف السائل مستأنسين بزيجمونت باومان، أي الخوف ببعده الأسطوري، الذي صنعته آلة الإعلام الهائلة، والآن وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تكف عن تضخيم الأحداث والتنبؤ بالمصير البائس للبشرية، من كوارث طبيعية وأوبئة وغيرها من المصائب.

هذا الخوف هو نفس خوف الإنسان البدائي، فالحياة شيء وحشي للغاية، ولا يمكن مواجهته بصفة شخصية، لذا فعندما يثار موضوع القبيلة وهذا ليس أمر سيئ بالضرورة، ويعتمد كثيرًا على النوايا المضمرة خلفه، أسأل نفسي عن مصدر الخوف الذي أشعل الفكرة، أهو خوف على المجموعة أم خوف على الفرد أم هو خوف من الفرد نفسه؟ خوف من خروجه خارج الصندوق الفكري المنغلق، وبدؤه في المطالبة بحقه الطبيعي في مواجهة الوحوش، وحوشه الخاصة.