كان الاتفاق المبدئي مع جوخة الحارثي قُبيل إجراء هذا الحوار أن يكون عن روايتها الأخيرة «حرير الغزالة» الي صدرتْ عن دار الآداب عام2021 بعد أقل من سنتين من فوز روايتها الأشهر «سيدات القمر» بجائزة «مان بوكر» العالمية. كانت العيون كلها مسلطة على جوخة وعملها الجديد متسائلة: ماذا ستكتب جوخة بعد الجائزة؟ وهل ستُلاقي روايتها الجديدة نفس الصدى الذي لاقته «سيدات القمر»؟ أم ستكون هذه الأخيرة عبئًا كبيرًا على كاتبتها؟ وحدث أنه في المسافة الزمنية القصيرة بين الاتفاق على الحوار وإجرائه فازت جوخة الحارثي بجائزة الأدب العربي في فرنسا عن الترجمة الفرنسية لرواية «سيدات القمر» في أواخر نوفمبر الماضي، وكان من الصعب محاورة جوخة دون التطرق إلى هذا الحدث الأدبي المهم، ودون طرح أسئلة كثيرة تتعلق بالجوائز والترجمة والنشر خارج المنطقة العربية، وشؤون وشجون أدبية وثقافية أخرى. والحق أن جوخة استقبلتْنا في مكتبها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس بمنتهى الترحاب، وصنعت لنا القهوة والشاي بيديها. وأجابت عن جميع أسئلتنا بلا تبرّم، وبهدوءِ من يعرف طريقه جيدًا وماذا يريد من الكتابة والأدب والحياة. وتحدثت باستفاضة عن «حرير الغزالة» ودخلت في تفاصيل خلق شخصياتها الروائية.
وخلال ساعتين من الحوار خرجنا منها بهذه الحصيلة:
• دعينا نسألك في البداية.. نشرتِ «حرير الغزالة» بعد أقل من سنتين من فوز رواية «سيدات القمر» بجائزة «مان بوكر». ألم تتهيبي نشر هذه الرواية الجديدة في هذه المدة القصيرة خصوصا أن العيون كانت مسلطة عليك. ألم تترددي في نشرها؟
- في الحقيقة تهيبت نشر جميع رواياتي، كل رواية كنت أتهيب نشرها وأتردد، وأعيد قراءتها مرات كثيرة، و«حرير الغزالة» لم أبدأ بكتابتها بعد الفوز وإنما قبل ذلك. منذ 2016 بعد أن نشرت «نارنجة» كنت قد بدأت أفكر في كتابة «حرير الغزالة» وبدأت أكتب فيها ببطء، ولما فزت كنتُ قد قطعتُ شوطا مع «حرير الغزالة». طبعا العمل تحت ضغط الفوز أصعب، ولكن رأيت أني لو استسلمت لهذا الضغط فلن أكتب شيئا وسأحقق مقولة من يزعم أن الجوائز هي بمثابة حكم إعدام للكاتب، ولم أكن أريد أن يحدث هذا لي.
• عنوان الرواية «حرير الغزالة» منحوت من اسمي بطلتَيْ الرواية حرير وغزالة وهناك بطلة ثالثة سنسأل عنها لاحقا.. لماذا «حرير الغزالة» وليس مثلًا «حرير وغزالة»؟
-كما قلتَ العنوان مركب من اسمَيْ البطلتين، وقد أحسست بأنني عندما أضيف الحرير للغزالة سأعطي إيحاء بالأجواء التي تود الرواية الإيحاء بها. لأن العنوان لا يجب أن يكون بالضرورة دقيقًا أو شافًّا.
• أيضا الأجواء العامة لرواية «حرير الغزالة» تشبه إلى حد ما أجواء «سيدات القمر» بمعنى أنها ترصد تحولات اجتماعية في المجتمع العماني، فيها أيضا سنوات متعاقبة أقرب إلى أجيال، هذا بدوره يعيدنا إلى الهم الواحد الذي يشغل الكاتب دائما، أو إلى سر الولع؛ ولع جوخة الحارثي برصد هذه التغيرات الاجتماعية في رواياتها وليس «حرير الغزالة» فقط.
- صحيح أن الهموم الفكرية التي تسيطر على الكاتب تظهر في أعماله بدرجة أو بأخرى، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن العالم الروائي يتشابه. فأرى أن عالم «حرير الغزالة» مختلف عن عالم «سيدات القمر» أو «نارنجة»، وهذا ما أشار إليه فعلا الناقد محمد زروق في مقاله «ملاعبة الدمى في حرير الغزالة»، لكن وجود هموم فكرية تشغل الكاتب هو أمر طبيعي كما قلتُ، وربما بالنسبة لي يعود إلى نشأتي في فترة الثمانينيات في عمان عندما كانت بعض أساليب الحياة القديمة لا تزال موجودة، وكانت التغيرات تحدث في ذلك الوقت، فأنا شهدتُ تغيرات كبرى في بلادي وأنا طفلة، ورأيت كيف تؤثر هذه التحولات على حياة الناس، وكيف أصبحت هذه الحياة في الألفية الجديدة تتغير تغيرا لافتا. فأظن أن هذا الموضوع يشغلني، وقد يرشح بشكل أو آخر مع مواضيع أخرى بالتأكيد في اشتغالاتي الروائية.
• هل هو نوع من الالتزام بالكتابة؟ أعني مناقشة التحولات التي حدثت في المجتمع العماني.. كتابتك مشغولة بهذا الهاجس؟
-مفهوم الالتزام لا يعنيني. سواء الالتزام الوجودي كما بينه سارتر، أو مفهوم الالتزام الماركسي عند ماركس، أو مفهوم الالتزام الديني للنص الأدبي فيما عرف بالأدب الإسلامي. أظن أن كل مفاهيم الالتزام بهذه الطريقة الأيديولوجية هي مفاهيم مقيِّدة، الالتزام الوحيد الذي أشعر به هو التزامي أمام نفسي بما أفكر وأؤمن به، بالتالي عندما أكتب لا يكون هدفي بسط أجندة سواء سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية. أريد أن تكون الحرية في الكتابة أكبر من ذلك. غير أن ما يشغل تفكيرك سيجد صداه في روايتك. وهذا أيضا يرتبط بوعي الكاتب ورؤيته للعالم. في كل رواية نستطيع أن نرى كيف يرى الكاتب العالم، ونستطيع أن نرى ملامح وعيه تتشكل من خلال كتابته.
•إذن نستطيع القول إن فترة الثمانينيات، فترة طفولة جوخة الحارثي في القرية تحديدا، هي المعين الذي لا ينضب، والذي تستخرج منه جوخة بين فترة وأخرى مادة أدبية جميلة سواء في رواية أو حتى في مجموعة قصصية مثل «صبي على السطح».. صحيح؟
-ممكن أن تكون الطفولة مَعينًا، لكن لا تنسى دور التخييل ودور ما حدث لاحقا. الآن عندما تنظر لفترة طفولتك قد لا تكون غنية بالدرجة التي قد تظهر في روايات كثيرة تكتبها لاحقا. لكن هي النواة إن شئتَ، أنت محظوظ بأنك اختبرتها وعشتها، لكن فيما بعد هناك عوامل معقدة جدا تحول هذه النواة إلى ثمرة وإلى شجرة. وأستحضر في هذا المقام أن أبطال هاروكي موراكامي دائما فتيان في سن الفتوّة، وسئل ذات مرة عن بطل روايته «أغنية نرويجية» الذي عاش تجربة شبيهة بتجربة موراكامي؛ ذهب للجامعة في الفترة نفسها التي ذهب هو فيها لنفس الجامعة، فهل هذا الفتى هو أنت؟ قال: كنت أود لو أنني عشت حياة غنية إلى هذه الدرجة. بيد أني أتفق معك أن فكرة النواة هي فكرة مهمة. هناك كتاب كثر يمتحون طوال حياتهم من أماكن نشأتهم، أمير تاج السر مثلا يعيش في قطر منذ سنوات طويلة، ولكن لم يكتب رواية واحدًة حسب علمي تدور أحداثها في قطر، كل رواياته تدور في مكان تكوينه الأول وهو السودان، وكل رواية لها فرادتها، فهذا أمر طبيعي، مادام الكاتب قادرا على اللعب بأدواته في أي منطقة سواء منطقة مكانية أو زمانية. على أنني في «نارنجة» كتبت عن فضاء مكاني مختلف تماما هو مدينة في أوروبا عندما تحدثت عن جيل الحفيدة المختلف عن جيل الجدة التي عاشت في عمان القديمة.
•رغم أن شخصيات روايات جوخة الحارثي منغرزة في البيئة العمانية إلا أن الكاتبة تتعمد اختيار قرى وهمية غير موجودة على الخريطة مثل «شعرات باط».
-من قال لك هذا؟ ابحث مجددًا في الخريطة.
* والعوافي في «سيدات القمر»؟
-العوافي متخيّلة. اخترعتُ اسمها. «شعرات باط» التي ظهرت في «حرير الغزالة» متخيلة أيضا، لكن الاسم ليس لي، لم أخترع الاسم.
•إذن «شعرات باط» هي قرية موجودة في عُمان؟
-كانت موجودة في عُمان.
•ثم تغيّر اسمها إلى «الواحة»؟
-لا. اندثرتْ. هذا ما حدث لـ«شعرات باط» الحقيقية. هُجِرتْ.
•الهدف من السؤال هو طرح ملاحظة أنك لا تتهيبين ذكر المدن العُمانية (مسقط، صحار، الخوير) وغير العُمانية ( لندن على سبيل المثال)، لكن حين يتعلق الأمر بالقُرى فإنك تكونين حذرة عادة وتلجئين إما إلى قرى غير موجودة في الواقع (كالعوافي في «سيدات القمر»)، أو مندثرة (كما تفضلتِ بالتوضيح عن «شعرات باط» في «حرير الغزالة»).
-نعم.
• لماذا؟
-مسقط ليست إلا مسقط، واضحة جدا بهويتها، لكن القرى العُمانية صحيح أن بينها اختلافات جغرافية وأحيانا اختلافات أخرى، لكن بالمجمل هي إلى حد كبير متشابهة. والحقيقة أن بعض القراء يركزون جدا على مسألة قرية أو مدينة. وبالنسبة لي فإن هذا فضاء مكاني، وليس هو المحور الأكثر أهمية في رواياتي، وإنما هو الفضاء المؤثث لما أريد تقديمه من عوالم وشخصيات. فليس مهما بالنسبة لي أن تكون «العوافي» اسمها اسم قرية موجودة فعلا في عمان. وحتى «شعرات باط» لولا أن الاسم لفت انتباهي ما كنت سأختاره. هذا لا أفكر فيه كثيرًا بقدر ما أفكر كيف يمكن أن تسهم الطبيعة الجغرافية والاجتماعية المعينة في بناء عالم الرواية.
•هناك أكثر من مراجعة تنوه بلغة «حرير الغزالة» المتقنة التي تميل إلى الشاعرية في بعض الأجزاء والمعتنى بمفرداتها وتركيب جملها وضبط إيقاعها داخل الفقرات. وهذا الكلام عن «حرير الغزالة» يمكن أن نسقطه على بقية روايات جوخة وقصصها. من أين تمتح جوخة هذه اللغة؟ وهل تشكل لها أهمية خاصة في الكتابة؟
-نعم. تشكل أهمية كبيرة جدا بالنسبة لي، لأنني إنسان كوَّنته اللغة، وبالنسبة لي اللغة هي شكل تحقق الكائن، بل أكاد أقول إنها كل شيء بالنسبة لنا نحن الكتّاب، وفي حياتي اليومية في عملي في الجامعة أتعامل مع اللغة بشكل يومي لكوني أدرّس الأدب. وعندما أقرأ رواية إذا كان كل ما تقدمه الرواية هو الحدث فقط، [دون اعتناء باللغة]، بصراحة لا أستمتع بها حتى لو كانت الأحداث شائقة. واللغة العالية ليس بالضرورة أن تكون لغة شعرية، فبعض الكتاب لغتهم غير شعرية، لكنها لغة عالية ومعتنى بها وهذا ما يمتعك كقارئ، ولذلك أحيانا تقرأ نصوصا مترجمة، لكن المترجم يكون على درجة من الرهافة بحيث ينقل في عربية جميلة ما كتبه الكاتب بلغة أخرى. اللغة طبعًا تتكون خلال سنوات التكوين وتصبح فيما بعد وكأنها بصمة للكاتب، وعندما تقرأ تعرف أنه هذه لغة رجاء عالم أو لغة الطيب صالح على سبيل المثال، وهكذا.
•بعض مراجعات «حرير الغزالة» وصفتها بأنها رواية تفاصيل ومشاعر لا رواية أحداث. ما تعليقك على هذا الوصف؟
•أظن أن هناك أحداثًا كثيرة في «حرير الغزالة»، لكن بعض القراء -وهذا حقهم- يحبون التطور الخطي أو الزمني للأحداث، أي أن تبدأ الأحداث من ألف وتنتهي إلى ياء، وهذه الطريقة أنا لا أكتب بها. فمن الطبيعي أن تختلف أذواق القراء، فبعض الناس يستمتعون بهذا الأسلوب في الكتابة، وبعضهم يفضلون الأسلوب التقليدي الذي يبدأ من أول الحدث إلى آخره. ثم إن المشاعر والأفكار هي جزء لا يتجزأ من تكوين العالم الروائي بالنسبة لي، وهي مرتبطة بالحدث. وهناك أشياء تبدو لبعض الناس في غاية التفاهة، لكنها تبدو لشخصية بعينها لأسباب خاصة بها في غاية الأهمية.
•دعينا نتحدث الآن عن بعض شخصيات الرواية ولنبدأ بالبطلتين حرير وغزالة. العلاقة بين هاتين الشخصيتين هي علاقة صداقة قوية إلا أن لكل منهما قصة مختلفة عن الأخرى، ولا تلتقيان إلا في تقاطعات بسيطة، وكأنهما روايتان لا رواية واحدة.
-هل نصادق بالضرورة من يشبهنا؟ العكس هو الصحيح، الناس ينجذبون للمختلف بدرجة أو بأخرى. فحرير وغزالة كما قلت نشأتاهما مختلفتان، لكن أظن أنهما في مرحلة عمرية معينة، ولنقل في مرحلة تاريخية معينة، تغيرت فيها – إلى حدٍّ ما- الأدوار الجندرية بالنسبة للمرأة في عُمان، سواء أعاشت هذه المرأة ظروف غزالة التي مرت بظروف أسرية معقدة في قرية نائية، غُيِّر اسمها فيما بعد، أو حرير التي عاشت في مدينة مثل صحار في ظروف مادية لنَقُلْ أنها أكثر راحة. فأظن أن نقاط التقاطع لا تشترط بالضرورة أن تكون النشأتان متشابهتَيْن، هناك عوامل أخرى في التكوين تجمع بنتين لتكونا صديقتين في مرحلة الجامعة وتستمر الصداقة بينهما فيما بعد.
•طيب ما سر تعلق غزالة أو ليلى بأمها غير الحقيقية وحبها لها أكثر من أمها الأصلية، ونحن نعرف طبعًا أن الطفلة الرضيعة لم تكن واعية أن أمها رمتها من يديها عندما وصلها نبأ وفاة والدها. الرواية لم تُرِنا من أمها فتحية أكثر من اللفّة التي طارت بغزالة ساعة الفاجعة قبل أن تتلقفها يدا سعدة.
-ربما يستشفُّ القارئ من الرواية لماذا تعلقت غزالة بسعدة. ويبدو لي في قراءتي لشخصية سعدة أنها شخصية منفتحة وحنون وفياضة بالأمومة ليس فقط على البشر، بل حتى على الحيوانات والنباتات، فهي ما يبحث عنه ويتمناه طفلٌ يبدو أنه يعاني من تعقيدات معينة في بيته، ففتحية (الأم الحقيقية) على الرغم من أنها لا تُذكر كثيرًا ولكن نستطيع أن نستشف أنها لم تقدم لابنتها غزالة ما قدمته سعدة. وإذا ما تقدمنا في الأحداث سنجد غزالة هي نفسها عندما أصبحت أُمًّا لم تشعر بأنها تستطيع أن تأتمن أمها على أطفالها وفضَّلت أن تودعهم في حضانة بدلا من أن تجعلهم في رعاية أمها، وهذا يدل على وجود إشكالية كبرى في علاقتها بهذه الأم، وفي تصورها هي لفكرة الأمومة بعد التجربة التي خاضتها مع الأم البديلة (سعدة) التي فتحت بيتها وأحضانها وحليبها لاستقبال غزالة.
•كيف تنظر جوخة إلى حبكة الرواية، فقد لفتَنا أن أكثر من مراجعة لرواية «حرير الغزالة» [تحدثت عن غياب الحبكة]. ولنأخذ مثالًا مراجعة القاصة المصرية إيناس حليم في موقع «الكتابة» التي ترى أن «حبكة الرواية بدت غائبة إلى حد كبير، كما بدتْ بعض الخيوط مبتورة، وحضور معظم الشخصيات متوارٍ أمام حضور بطلة الرواية غزالة وصديقتها حرير، ذلك التواري الذي أدى إلى رسم شخصيات منقوصة».. ما تعليقك؟
-بالنسبة للشخصيات في الرواية، كل شخصية لها مساحتها، المساحة التي يراها الكاتب. مثلا غزالة وحرير شخصيتان محوريتان استأثرتا بالسرد، الشخصيات المحيطة بهما ستأخذ مساحة أقل، [لكنها] نالت في رأيي حقها من الرسم داخل الرواية ما دام تركيزي الأساسي على غزالة وحرير. فإذا تعاملنا بمنطق أن كل شخصية يجب أن تنال حظها من العمل إذن كل الروايات الكبرى في العالم التي فيها شخصيات هامشية ستكون شخصيات «مبتورة». لا يمكن التعامل، في رأيي، بهذا المنطق مع عمل روائي يختار فيه الكاتب مَنْ مِن الشخصيات يريد أن يسلط عليها أكبر ضوء، ومن مِنها يريد أن يلقي عليه ضوءا أقل.
•لذلك إذن اخترتِ ألا تُلقي على آسية ضوءًا، وأن يكون الحديث عنها فقط من خلال الشخصيات الأخرى؟ طبعا كانت من الشخصيات المهمة في «حرير الغزالة» إلا أنها ظلت غامضة ومختفية طوال الرواية. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: لماذا أنهيتِ حضورها في الرواية مبكرًا؟
- بالعكس. آسية لم ينته حضورها أبدا، ظل حضورها إلى آخر صفحات الرواية لأن حضورها في غيابها، وهذه هي قوة حضور آسية؛ أنها شخصية غامضة، وتظهر في مواقع غير متوقعة ليس عن طريق حضورها الجسدي بالضرورة، إذ تظهر أحيانا باعتبارها صوتا في الإذاعة، وأحيانًا باعتبارها ذكرى، وتظهر أيضًا باعتبارها استيهامًا قويًّا جدا تكاد غزالة تراه أمام عينيها في نكسة علاقتها مع الفيل. هذا الغياب الذي له حضور طيفي هو في رأيي قوة غموض شخصية آسية وقوة تأثيرها على الشخصيات التي تقاطعت مصائرها معها مثل حرير وغزالة.
•هناك أيضًا شخصية مهمة في هذه الرواية لا تُنسى كتبتِ عنها: «ستنتزع بالموت كل السلطة التي لم تمنحها إياها الحياة، لن توجد على سطح الأرض جثة أسعد منها حين يلتف حولها الناس الذين لم يلتفوا حول جسدها الحي، ولو كانت الجثث تضحك لما توقفت جثتها عن القهقهة سخريةً منهم». إنها شخصية مليحة التي لم تمنحها الحياة الجمال أو الحب أو الأولاد، وهي من الشخصيات التي لاقت صدى كبيرا لدى القراء.
-صحيح. هذه شخصية بدأت تجذبني أنا نفسي بعد أن أردتُ في البداية إعطاءها مساحة ضيقة؛ كونها عمة غزالة فقط ولم أكن أخطط أن أجعلها شخصية تعبر أكثر عن نفسها. ولما تقدمتُ أكثر في الرواية حدث شيء غريب لي؛ بدأت أشعر أن هذه الشخصية تفرض نفسها عليّ، وبدأتُ أشعر أنها تقول لي: «وأنا؟! لماذا تكتبين كل هذا عن غزالة وحرير؟ وأنا؟». وسؤالها «وأنا؟» متسق تماما مع شخصيتها، فهي المرأة التي تريد أن تحضر الحضور الذي يراه الآخرون فجًّا ومستثقلا. لكن هي– كما قلتَ - حُرمتْ من أشياء كثيرة في الحياة، ونظرتْ نظرة خاصة لظروفها، واعتقدتْ بأن هناك آخرين يتحملون مسؤولية ما آلتْ إليه، فأرادت أن يُسمَع صوتها. ولذلك بدأت أهتم بها أكثر لأنها هي فرضت عليّ هذا الاهتمام، وأنا ككاتبة أصبحت أشعر بالفضول تجاهها، فحاورتُها: «طيب مليحة ماذا لديك لتقوليه لنا؟ بم تشعرين؟ ولماذا تتصرفين هذه التصرفات التي تحرج الآخرين؟. قولي لنا إذن كيف أنتِ تفكرين؟» لأنه من الواضح أنها تسبب حرجًا لابنة أخيها، وأنها تفتقر لحسّ البديهة، ولذلك منحتها بعض المساحة لتعبر عن نفسها. شخصية مليحة تستمد وجودها من المنطقة المتأرجحة بين النساء اللواتي أتيحت لهن فرصة التعليم والنساء اللواتي لم تتح لهن هذه الفرصة رغم أنهن ينتمين للفترة العمرية نفسها، بسبب المكان الذي انتميْنَ إليه. المنطقة المتأرجحة بالنسبة لهؤلاء النسوة تُشكِّل جُرحا لأن هناك نساء في عُمرهن - لمجرد نشأتهن في مدن أخرى - تعلمن وأصبح لهن ميزة التعليم وقوته، في وقت كانت المدارس قد افتتحت فيها لكن لنشأة مليحة في منطقة نائية لم تحظَ بهذه الفرصة فظل هذا جرحا بالنسبة لها. في كثير من الأحيان الشخص الذي يفشل في أن يحقق ذاته فإنه في ثقافتنا يجد آخرين ليلقي عليهم اللوم، هذه الثقافة تسمح له أحيانًا ألا يتحمل هو نفسه مسؤولية خطئه أو يحاول استدراك ما فاته، وإنما يبحث عمن يمكن أن يلقي عليه اللوم. ويتجلى هذا في الفصل الأخير ومليحة تموت، [عندما] قررت أن تموت معاقبة للأسرة التي لم تهتم بها ولم تمنحها ما تريد، وهذا شيء لافت لشخصية مثل هذه، وتستحق أن تُسمع ويكون لها صوت. ومن الطريف أنني بعد نشر الرواية، تواصلت معي فتيات لا أعرف أي شيء عن أسرهن، وأخذن يقلن لي: «مليحة تشبه فعلًا شخصية عمتي أو خالتي»، أو يخبرنني أن «أم حرير تشبه شخصية أمي، وكأنك تعرفين أمي وكتبتِ عنها». فهذا يعني أن الكاتب يستبطن الحياة والواقع، وفي الوقت نفسه لا يخضع لهذا الواقع خضوعا كبيرا، لأنه لا بد أن يثري نصّه برؤيته وخياله، ولا يكون مجرد ناقل فقط لما يحدث على أرض الواقع.
•نعم. وهذا يحيلني لسؤال أيضًا، وأظن أنه طُرِح في إحدى المراجعات: هذا الحديث المستفيض عن مليحة وهذا الرسم الدقيق لشخصيتها وشخصيات القرية لدى جوخة الحارثي لا يوازيه نفس الدقة ونفس تصوير المشاعر عندما تتحدث عن شخصيات في المدن، كمسقط على سبيل المثال. إذ نجد دقة وإبداعًا أكثر في الحديث عن الشخصيات القروية لدى جوخة أكثر من وصفها لشخصيات المدن؟
-تظن أن حرير شخصية لم توصف بدقة لأنها نشأت في صحار وعاشت كل حياتها في مسقط فيما بعد!
•لا. أعني جعل الشخصية نفسها مُصدَّقة تماما إلى الدرجة التي تتلقين فيها تعليقات أن هذه تشبه خالتي أو تشبه عمتي. بينما بعض الشخصيات في المدينة تُتلقى بشكل باهت بالمقارنة مع تلقي الشخصيات القروية.
-لا أعرف، لأنني لست مع تقسيم الشخصيات أصلا إلى قروية ومدنية، خاصةً أن المدن في عُمان، حتى عندما تكون مدينة كبيرة، يكون فيها طابع ريفي إلى حد ما، وكثير من الناس ولدوا في هذه القرى وانتقلوا فيما بعد للحياة في مسقط. فهل هم قرويون؟ هل هم مدنيون؟ المسألة في دول أخرى تكون أكثر وضوحا وحسما مما هي لدينا، القرى في عُمان إذا قارنتها الآن بقرى في دول عربية أخرى هي أشبه بالمدن من ناحية التقدم ووصول الأفكار والخدمات إلى الناس، فيما هناك قرى إلى اليوم في العالم العربي مقطوعة تماما عن العالم المديني وعن عالم الحضارة، قرى تعيش في عالم آخر تماما، بينما القرى في عُمان متصلة اتصالا وثيقا بالمدنية بدرجة أو بأخرى. لا أعرف لماذا يعتقد الناس أن هناك تقسيما حادًّا بين شخصيات المدن أو القرى، أظن أن كل شخصية تفرض طريقة تصويرها في النص سواء عاشت في قرية أو مدينة.
-•عندما سألتُ المترجم خالد عثمان مترجم «سيدات القمر» للفرنسية قال إنه رغم جمال الرواية إلا أنه لم يتوقع فوزها بهذه الجائزة نظرًا لفوزها بجائزة «مان بوكر» سابقا. ماذا عن جوخة الحارثي؟ عندما علمتِ أنك ضمن المرشحين الثمانية لهذه الجائزة هل توقعتِ الفوز؟
-لا
•لنفس السبب؟
-لا أعرف. لم أتوقع الفوز بأيٍّ من الجوائز التي رُشحتُ لها، (تضحك) لم أكن أفكر في الفوز، كان اسمي يظهر في قوائم الترشيح دون أن أعرف، أرى بقية الأسماء المرشحة وقد قرأتُ لمعظمها وأرى أن الجميع يستحق فرصة متساوية. ولكن عندما يأتي الفوز يكون شيئا جميلا لأنه في هذه الحالة يسلط الضوء على العمل الفائز، وبالتالي على الأعمال التي تنتمي للمكان الذي جاء منه هذا العمل. في الغرب لا توجد مشكلة في إعطاء الكاتب أكثر من جائزة من جهات مختلفة. في السنة التي ترشحتُ فيها للبوكر كانت الكاتبة البولندية «أولجا توكارتشوك» [مرشحة للجائزة] أيضًا، وكانت فائزة في السنة التي قبلها بالبوكر، ورغم ذلك وصلت إلى القائمة القصيرة، وقيل لي وقتها إنه لا شيء يمنع أن تفوز مرة أخرى بالبوكر عن عمل آخر. وبعدها بسنة فازت بنوبل. فليس لديهم في الغرب فكرة أن الكاتب «تكفيه» جائزة واحدة.
•وكانت تتنافس معك في الدورة نفسها التي فزتِ بها أيضا الكاتبة الفرنسية «آني إرنو» التي سبق أن فازت بالبوكر قبل ذلك.
-آني إرنو توقع الناس فوزها بسبب منجزها الكتابي كله، وهي كاتبة كبيرة ومعروفة جدا حتى للقارئ العربي لأن أعمالها تُرجمت قبل كل هذه الترشيحات. لقد أعجبتُ بكتابها «السنوات» الذي وصل للقائمة القصيرة.
•إلى أي مدى تعتقدين أن فوزك بجائزة «مان بوكر» سلط الضوء على الأدب العماني والأدباء العمانيين؟
-أعتقد أنه سلط الضوء فعلا على الأدب العماني. في المهرجانات واللقاءات الأدبية التي أذهب إليها عدا القراء العاديين أجد أن الصحفيين والمهتمين بالنشر وبالعالم الكتابي يسألونني عن الأدب العماني ويطلبون مني ترشيح أسماء لهم حتى يروا إذا كان هناك إمكانية لتقديمها إلى قرائهم. المترجمون أيضا، إذْ عرفت أن مترجمين في أكثر من دولة يبحثون عن أسماء عمانية. المشكلة في رأيي التي تعوق هذا الموضوع أنه لا يوجد استثمار مؤسساتي في عُمان يُعنى بهذا الجانب.
•كيف يكون هذا الاستثمار المؤسساتي؟
-يجب أن يُرسم الاستثمار كسياسة ثقافية تنهض بها المؤسسات. ويجب أن يقوم الإعلام بدوره ليس فقط داخل عمان، بل في الخارج أيضًا. وزارة الثقافة ووزارة الإعلام وغيرهما من الجهات عليها أن تستثمر هذا الفضول والاهتمام الموجود عند كل هؤلاء الناشرين والمترجمين والقراء تجاه الأدب العماني. أن تقوم المؤسسات بالمبادرات كما تفعل دول أخرى مجاورة لنا مثلا، لا أن تتعامل فقط مع الأمر الواقع. بعضنا هنا يتصور أن الأمور تجري في الدول الغربية، كما تجري معنا، أي أن المترجم بنفسه يُعجب بكتاب فيترجمه ثم يبحث عن دار نشر، ودار النشر تنشره له مباشرة! بينما نظام النشر لديهم معقد جدا، حتى لو كنت أنت كمترجم مهتمًا بكتاب فأنت بحاجة قبل كل شيء إلى تمويل، ولن يُنشَر أي كتاب مُترجَم قبل أن يحصل على تمويل، وهذا التمويل إما أن يكون من دار النشر أو من أي جهة أخرى. وبالنسبة لدولة خليجية كعُمان تستطيع في مسائل التمويل هذه أن تستثمر في المترجمين العالميين والمهمين الذين لديهم الرغبة وأبدوا استعدادا لأن يترجموا أعمالا عمانية ولكنهم لا يجدون التمويل. ثانيا فكرة الوكلاء الأدبيين وفكرة دور النشر التي تقتنع أن العمل مهم وأنه يستطيع أن ينافس لأن سوق المنافسة هناك صعبة. من الطبيعي أن نجد هناك كتّابًا لم ينجحوا في النشر قبل وصولهم الأربعين من العمر. والناس في إيطاليا وإسبانيا ودول أخرى يتواصلون ويسألون ما دام هناك أدب أخرج [أدباء] فازوا بجوائز عالمية فنحن نريد معرفة هذا الأدب، نريد أن نقرأه أكثر. السبيل هو الترجمة، والترجمة عمل مؤسساتي وليست عملا فرديا. وهناك أمرٌ آخر؛ ليس هناك فائدة كبرى في رأيي من ترجمة أعمال تنشر داخل عُمان. أن تكلف مترجما لترجمة عمل تنشره دار نشر توزعه داخليا فهذا بلا جدوى. لمن سيصل هذا العمل؟ في أحسن الأحوال قد يهتم بعض السياح القادمين لمسقط إذا وجدوا العمل متوفرا. ولكن القيمة تتحقق عندما تنشر في البلد التي تنشر بلغتها، إذا نشرت رواية باللغة السويدية في السويد فأنا أصل إلى القارئ السويدي في منبع داره، هو يشتري الرواية باعتبارها أدبا مترجما وصل إلى بلاده وبالتالي يستطيع أن يصل للقارئ وللمراجعات وللجوائز،ليس معنى دعم النشر أو الترجمة أنك تدفع مالا لمترجم محلي أو لدار نشر محلية وتقول ترجمت رواياتي!
• بما أن الحديث عن «حرير الغزالة» يتبادر إلى ذهني سؤال: هل استقبال القراء للرواية كان بالاحتفاء نفسه الذي قوبلت به «سيدات القمر»؟ أي هل أثر فوز « سيدات القمر» في استقبال «حرير الغزالة» وكذلك فيما يخص المراجعات التي كُتِبت عن العمل؟
-أنا كاتبة متأنية، والانفعالات الوقتية على أي عمل لا يعول عليها، أو أنها ليست مقياسا لأهمية أو جودة هذا العمل؛ لأن «سيدات القمر» استقبلت بهذه الحفاوة ومئات المقالات بعد أن فازت بالبوكر. لمّا خرجت الرواية في 2010 كتب عنها بعض النقاد واستقبلت بحفاوة على الصعيد الذي تستقبل به رواية لم تفز. ولكن عندما فازت، [واستحوذتْ] على كل هذه الاهتمام، وكُتبتْ عنها كل تلك المقالات، التي لم أستطع شخصيا أن أتابعها كلها، كان ذلك كله بسبب الفوز. فمن الطبيعي أن تحصل ضجة للعمل الفائز. «حرير الغزالة» هي كما قال سليمان «العمل ما بعد الفوز» ينظر له دائما بريبة وكأنك مدان بالضرورة لأنك تجرأت أن تصدر عملا بعد الفوز. في رأيي أن المراجعات التي رأيتُها حتى الآن إيجابية في المجمل، هل سيستمر هذا؟ هل ستتغير حظوظ الكتاب؟ أظن أن كل كتاب يحتاج وقتا كافيا. ونحن بسبب ثقافة «السوشل ميديا» لم يعد لدى الكاتب الصبر في أن يعطي فرصة للكتاب أن يعيش فترة كافية بين القراء، وأصبح كل واحد يقيس الأشياء باللحظية والوقتية: ماذا كتبوا الآن في السوشيل ميديا وماذا سيكتبون غدا. وأتصور أن هذا يظلم كثيرًا من الكتب.
•المغزى من سؤال عاصم ربما هو: هل حُمِّلت «حرير الغزالة» أكثر مما تحتمل كرواية بناء على وهج «سيدات القمر» وآمال بُنيتْ على جوخة الحارثي أكثر مما نُظِر إلى «حرير الغزالة» كنص مستقل عن مؤلفته؟
-أظن هذا شيء طبيعي، الناس بشكل عام يحاكمونك على الجائزة، ويضعونك في هذه الدائرة من الضوء، وكل دائرة من الضوء تحيط بها هالة سوداء من حولها. والكاتب الذي يجد نفسه مضطرا في تلك الدائرة عليه أن يتعامل مع الظلام الذي يحيط بهالتها أيضًا، فلا منفذ له. بالنسبة لي عندما أقرأ كاتبا اقرأ العمل، وهناك كُتّاب أعجبت كثيرا ببعض أعمالهم وهذا لم يمنع أنني لم أعجب بأعمالهم الأخرى. على الأقل بالنسبة لي أحاول ألا أقيس العمل بمدى نجاح الكاتب وبجوائزه ومكانته، فإذا كان العمل جميلًا فهو جميل، بغض النظر هل فاز بجائزة أم لا.
•هل وقعتِ عقود ترجمة لرواية «حرير الغزالة»؟
-الآن في صدد هذا الموضوع، وأنا لا أتحكم إطلاقا في عقود الترجمة، الوكيل الأدبي هو من يتولى الأمر، ولديهم [الوكلاء والناشرون الغربيون] كما قلت إجراءات كثيرة ومعقدة ولديهم موضوع قياس السوق. والآن ستُطرح رواية «نارنجة» بالإنجليزية متزامنة في أمريكا وبريطانيا في مايو 2022، وحسب نظر الوكالة الأدبية أنه عندما تطرح «نارنجة» في السوق نبدأ بإنهاء عقود ترجمة «حرير الغزالة».
•إذن فقد تلقيتِ عروضا لترجمة «حرير الغزالة» بالفعل؟
-بطبيعة الحال، نعم. الوكيل الأدبي يُخبرني عادة في المرحلة الأخيرة من المفاوضات قبيل التوقيع، ولكنه قال إننا لن نوقع أي عقد إلا بعد أن تصل ترجمة «نارنجة» أولا إلى السوق. سأوضح لك مثلا كيف تسير ترجمات رواية «نارنجة» حول العالم. إذ إن بعض دور النشر مثل السويدية والصينية والهندية والإيطالية ودور تنتمي للغات أخرى بمجرد أن طلبت ترجمة «سيدات القمر» طلبت معها توقيع عقد لـ «نارنجة». دُور نشر أخرى قالت: «سنرى كيف ستبيع «سيدات القمر» في بلداننا وكيف سيتلقاها القارئ وعلى ضوء ذلك سنوقع عقودًا لباقي الأعمال». في تركيا مثلا، دار «تيماش» المعروفة التي اشترت حقوق «سيدات القمر» قالت إن تلقي الأدب العربي في تركيا ليس جيدا وهي لا تستطيع المغامرة [بتوقيع عقد رواية أخرى معها] فاكتفت بـ«سيدات القمر»، ولكن خلال أقل من خمسة أشهر نفدت الرواية من الأسواق، فأصدرت «تيماش» طبعة ثانية من «سيدات القمر» ووقعت عقدا آخر لترجمة «نارنجة»، وأبدتْ الاهتمام بـ «حرير الغزالة». أذكر هذا كمثال كيف تشتغل عملية الترجمة والعقود. وأريد أن أذكّر أن «سيدات القمر» بعد أن تُرجمت إلى الإنجليزية حاول وكيلي الأدبي مخاطبة دور النشر الكبرى ولكنها ترددتْ خوفا أن يقول القارئ الإنجليزي إن هذه الرواية من بلد أدبه غير معروف نسبيا فلن نشتريها ولن نقرأها، حتى عندما نشرتها دار «ساند ستون برس» في 2018 لم تكن تعرف إلى أي مدى ستُوزع الرواية، وإلى أي مدى ستنجح. فأريد أن أقول إن عالم النشر وبيع الحقوق الأدبية هو عالم كبير جدا، وفي الحقيقة يتجاوزني أنا ككاتبة، والمفروض أن يتجاوز الكاتب، لأن هناك مؤسسات وظيفتُها أن تعمل على هذا الموضوع؛ الوكالات الأدبية، المؤسسات الداعمة، المهرجانات الأدبية، دور النشر، معارض النشر للكتاب في العالم، هي التي تشتغل على الجانب التسويقي للكاتب، وهو [الكاتب] كفاية عليه يكتب (تضحك).
•بعد أن قرأتِ «سيدات القمر» وقد تُرجِمت للإنجليزية وأصبحتْ «أجرام سماوية» هل شعرتِ بخيانة النص المترجم؟ وأقصد الخيانة هنا بالمعنى الإيجابي. هل دُهشتِ بعوالم جديدة، بنص جديد وكأنك تقرئينه لأول مرة؟
-حاولتُ منذ وقت مبكر ان أتخلى عن اعتداد الكاتب بلغته، لأن هذه لغتك، ولما تنقل إلى لغة أخرى لا تصبح الكلمات كلماتك، وإنما كلمات المترجم الذي هو ابتكرها لينقل فيها لغتك أنت. فتحتاج أن تتخلى عن هذا الاعتداد أن هذه لغتي وأن تتقبل أن كل لغة لها منطقها الخاص. الذي لفت انتباهي عندما قرأت «Celestial Bodies» أن فيها شخصيات كثيرة! وهذه الملاحظة لم تلفت انتباهي إطلاقا بالعربية ولكنها لفتت انتباهي عندما قرأتها أول مرة بالإنجليزية قبل أن تنشر، عندما رأيت أسماء الشخصيات باللغة الأخرى قلت: «واجد أسماء في هذي الرواية». ولأنني لا أقرأ غير الإنجليزية، لا أقرأ مثلا الفرنسية والسنهالية والبرتغالية لم يعد أمامي إلا الثقة بالمترجم، وهذا ليس خيارا للكاتب الذي يجب أن يثق باختيار دار النشر التي في كل مرة ترسل سيرة ذاتية مطولة لكل مترجم تختاره، وغالبا يكونون مترجمين جيدين واختيروا بعناية ولا تملك إلا أن تثق بهم.
•البعض قالوا إن ثيمة الاستشراق الموجودة في «سيدات القمر» هي التي صنعت الكثير من الدهشة لدى القارئ الغربي.. ما تعليقك أنتِ؟
-تعليقي أن هذا الكلام هو على النقيض تمامًا من الكلام الذي قالته لجنة تحكيم مان بوكر في حيثيات تفويزها لـ«سيدات القمر»، حيث قالت إنها رواية «تتحدى الصور النمطية للشرق» وهو أيضا عكس الكلام الذي قاله الناشرون وكتّاب المقالات عن الرواية في كثير من المراجعات باللغات الأخرى، كالكرواتية مثلًا، واليونانية،والبرازيلية، كلهم كانوا يقولون إن تصورنا للشرق كان مختلفًا تماما، وأن الرواية تتحدى هذا الشرق النمطي. ولكن تعودنا في عالمنا العربي أن تُثار الاتهامات لأي رواية تنجح.
•هل أضاف لك العدد الكبير من القراء الذين صنعتهم «سيدات القمر» عبئا آخر وأنتِ تكتبين الأعمال الجديدة؟
-نعم ولا. نعم، لأن فكرة الكتابة لقارئ محدد أسهل بالنسبة للكاتب من فكرة الكتابة لقراء من كل الأديان والثقافات واللغات إلخ. ولا، لأنه إذا استسلم الكاتب لهذا الإحساس فسيفقد حريته. طيب أنا عندي في «حرير الغزالة» شخصية عامل بناء من الهند وهي شخصية بغيضة في هذا العمل لأنه يتعرض للطفلتين، فهل عليّ أن أفكر بالقارئ الهندي الذي قد «يزعل» إذا تصادف أن الشخصية الموجودة من بلاده بغيضة؟ لا. الجواب هو لا، لا يجب أن أفكر بهذا إطلاقا. لماذا؟ لأن هذا فيه قيود كبيرة على حرية الكاتب، ولأن القارئ الذي يفكر بهذه الطريقة لا يفهم الأدب ولا يدرك أن الشخصيات في الرواية هي ليست التمثيلات الوحيدة للثقافات والشعوب في الواقع. إنها شخصيات روائية لا نماذج ممثلة لثقافات أو أديان أو بلدان. وأفضل مثال أريد أن أقوله في هذا الموضوع إن الكاتبة النيجيرية «تشيماماندا» قيل لها إن بعض الرجال في نيجيريا غاضبون لأن الشخصية الرئيسية في روايتها رجل متسلط ومعاملته سيئة لزوجته، فماذا قالت؟ أظن ان إجابتها تمثلنا كلنا [نحن الكتّاب] إذ قالت بسخرية: فعلا؟ الآن فهمت لماذا يجب أن أحاسب كل الرجال الأمريكيين لأن القاتل في «سلسلة القاتل المتسلسل» أمريكي. فإسقاط شخصية معينة من بلد معين كنموذج مُمثِّل لهذا البلد سيمنعنا من قراءة آداب العالم بانفتاح، وسيمنعنا من الاستمتاع بأي أدب عالمي إذا فكرنا أن هذا الأدب هو مجرد تمثيل لنموذج موجود في هذه الثقافة.
•أود أن أسألك عن الترجمة الفرنسية لـ«سيدات القمر» التي فازت بجائزة الأدب العربي في فرنسا. بما أن المترجم عربي هو المصري خالد عثمان، هل تواصل معك أثناء عملية الترجمة؟ هل سأل عن أي مصطلحات؟ هل صار أي نوع من التواصل بينكما قبل إتمام عملية الترجمة؟
-لا. وحسب ما أتذكر لم يحدث تواصل مع أي من المترجمين الذين ترجم معظمهم من العربية مباشرة، إلا المترجم الهندي، والمترجمة التي تترجم الرواية الآن إلى الألمانية، وبعض المترجمين الذين طلبتْ منهم دور النشر أن يكتبوا مقدمة لترجماتهم مثل الترجمة اليونانية. في هذه الحالة أنا طلبتُ أن أطلع على هذه المقدمة، وقُدمتْ لي المقدمة باللغة الإنجليزية لأنهم لا يستطيعون تقديمها بالعربية، فقرأتها وأبديت ملاحظاتي. أما في الترجمة نفسها فبرغم أن معظم الترجمات تمت عن العربية مباشرة إلا أنه «لحسن حظي» لم يتواصل معي المترجمون، وإلا كنت مُنيت بكارثة في وقتي.
•بمن في ذلك مارلين بوث؟
-لا. مارلين بوث لا. لأنها تترجم إلى الإنجليزية التي أقرأها فهي تتواصل معي في كل فصل. حتى في ترجمتها لـ«نارنجة» كانت هناك ملاحظات ثلاثية بيني وبينها وبين الوكيل الأدبي، ثم أصبحت رباعية بإضافة المحرر في دار النشر إلينا، في المراحل الأخيرة طبعا. فضل الترجمة لها بنسبة 100% لكن أقصد الملاحظات. طبعا حتى لو كنت أعرف لغات أكثر من المستحيل أن أجد الوقت والطاقة لمتابعة جميع الترجمات.
وخلال ساعتين من الحوار خرجنا منها بهذه الحصيلة:
• دعينا نسألك في البداية.. نشرتِ «حرير الغزالة» بعد أقل من سنتين من فوز رواية «سيدات القمر» بجائزة «مان بوكر». ألم تتهيبي نشر هذه الرواية الجديدة في هذه المدة القصيرة خصوصا أن العيون كانت مسلطة عليك. ألم تترددي في نشرها؟
- في الحقيقة تهيبت نشر جميع رواياتي، كل رواية كنت أتهيب نشرها وأتردد، وأعيد قراءتها مرات كثيرة، و«حرير الغزالة» لم أبدأ بكتابتها بعد الفوز وإنما قبل ذلك. منذ 2016 بعد أن نشرت «نارنجة» كنت قد بدأت أفكر في كتابة «حرير الغزالة» وبدأت أكتب فيها ببطء، ولما فزت كنتُ قد قطعتُ شوطا مع «حرير الغزالة». طبعا العمل تحت ضغط الفوز أصعب، ولكن رأيت أني لو استسلمت لهذا الضغط فلن أكتب شيئا وسأحقق مقولة من يزعم أن الجوائز هي بمثابة حكم إعدام للكاتب، ولم أكن أريد أن يحدث هذا لي.
• عنوان الرواية «حرير الغزالة» منحوت من اسمي بطلتَيْ الرواية حرير وغزالة وهناك بطلة ثالثة سنسأل عنها لاحقا.. لماذا «حرير الغزالة» وليس مثلًا «حرير وغزالة»؟
-كما قلتَ العنوان مركب من اسمَيْ البطلتين، وقد أحسست بأنني عندما أضيف الحرير للغزالة سأعطي إيحاء بالأجواء التي تود الرواية الإيحاء بها. لأن العنوان لا يجب أن يكون بالضرورة دقيقًا أو شافًّا.
• أيضا الأجواء العامة لرواية «حرير الغزالة» تشبه إلى حد ما أجواء «سيدات القمر» بمعنى أنها ترصد تحولات اجتماعية في المجتمع العماني، فيها أيضا سنوات متعاقبة أقرب إلى أجيال، هذا بدوره يعيدنا إلى الهم الواحد الذي يشغل الكاتب دائما، أو إلى سر الولع؛ ولع جوخة الحارثي برصد هذه التغيرات الاجتماعية في رواياتها وليس «حرير الغزالة» فقط.
- صحيح أن الهموم الفكرية التي تسيطر على الكاتب تظهر في أعماله بدرجة أو بأخرى، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن العالم الروائي يتشابه. فأرى أن عالم «حرير الغزالة» مختلف عن عالم «سيدات القمر» أو «نارنجة»، وهذا ما أشار إليه فعلا الناقد محمد زروق في مقاله «ملاعبة الدمى في حرير الغزالة»، لكن وجود هموم فكرية تشغل الكاتب هو أمر طبيعي كما قلتُ، وربما بالنسبة لي يعود إلى نشأتي في فترة الثمانينيات في عمان عندما كانت بعض أساليب الحياة القديمة لا تزال موجودة، وكانت التغيرات تحدث في ذلك الوقت، فأنا شهدتُ تغيرات كبرى في بلادي وأنا طفلة، ورأيت كيف تؤثر هذه التحولات على حياة الناس، وكيف أصبحت هذه الحياة في الألفية الجديدة تتغير تغيرا لافتا. فأظن أن هذا الموضوع يشغلني، وقد يرشح بشكل أو آخر مع مواضيع أخرى بالتأكيد في اشتغالاتي الروائية.
• هل هو نوع من الالتزام بالكتابة؟ أعني مناقشة التحولات التي حدثت في المجتمع العماني.. كتابتك مشغولة بهذا الهاجس؟
-مفهوم الالتزام لا يعنيني. سواء الالتزام الوجودي كما بينه سارتر، أو مفهوم الالتزام الماركسي عند ماركس، أو مفهوم الالتزام الديني للنص الأدبي فيما عرف بالأدب الإسلامي. أظن أن كل مفاهيم الالتزام بهذه الطريقة الأيديولوجية هي مفاهيم مقيِّدة، الالتزام الوحيد الذي أشعر به هو التزامي أمام نفسي بما أفكر وأؤمن به، بالتالي عندما أكتب لا يكون هدفي بسط أجندة سواء سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية. أريد أن تكون الحرية في الكتابة أكبر من ذلك. غير أن ما يشغل تفكيرك سيجد صداه في روايتك. وهذا أيضا يرتبط بوعي الكاتب ورؤيته للعالم. في كل رواية نستطيع أن نرى كيف يرى الكاتب العالم، ونستطيع أن نرى ملامح وعيه تتشكل من خلال كتابته.
•إذن نستطيع القول إن فترة الثمانينيات، فترة طفولة جوخة الحارثي في القرية تحديدا، هي المعين الذي لا ينضب، والذي تستخرج منه جوخة بين فترة وأخرى مادة أدبية جميلة سواء في رواية أو حتى في مجموعة قصصية مثل «صبي على السطح».. صحيح؟
-ممكن أن تكون الطفولة مَعينًا، لكن لا تنسى دور التخييل ودور ما حدث لاحقا. الآن عندما تنظر لفترة طفولتك قد لا تكون غنية بالدرجة التي قد تظهر في روايات كثيرة تكتبها لاحقا. لكن هي النواة إن شئتَ، أنت محظوظ بأنك اختبرتها وعشتها، لكن فيما بعد هناك عوامل معقدة جدا تحول هذه النواة إلى ثمرة وإلى شجرة. وأستحضر في هذا المقام أن أبطال هاروكي موراكامي دائما فتيان في سن الفتوّة، وسئل ذات مرة عن بطل روايته «أغنية نرويجية» الذي عاش تجربة شبيهة بتجربة موراكامي؛ ذهب للجامعة في الفترة نفسها التي ذهب هو فيها لنفس الجامعة، فهل هذا الفتى هو أنت؟ قال: كنت أود لو أنني عشت حياة غنية إلى هذه الدرجة. بيد أني أتفق معك أن فكرة النواة هي فكرة مهمة. هناك كتاب كثر يمتحون طوال حياتهم من أماكن نشأتهم، أمير تاج السر مثلا يعيش في قطر منذ سنوات طويلة، ولكن لم يكتب رواية واحدًة حسب علمي تدور أحداثها في قطر، كل رواياته تدور في مكان تكوينه الأول وهو السودان، وكل رواية لها فرادتها، فهذا أمر طبيعي، مادام الكاتب قادرا على اللعب بأدواته في أي منطقة سواء منطقة مكانية أو زمانية. على أنني في «نارنجة» كتبت عن فضاء مكاني مختلف تماما هو مدينة في أوروبا عندما تحدثت عن جيل الحفيدة المختلف عن جيل الجدة التي عاشت في عمان القديمة.
•رغم أن شخصيات روايات جوخة الحارثي منغرزة في البيئة العمانية إلا أن الكاتبة تتعمد اختيار قرى وهمية غير موجودة على الخريطة مثل «شعرات باط».
-من قال لك هذا؟ ابحث مجددًا في الخريطة.
* والعوافي في «سيدات القمر»؟
-العوافي متخيّلة. اخترعتُ اسمها. «شعرات باط» التي ظهرت في «حرير الغزالة» متخيلة أيضا، لكن الاسم ليس لي، لم أخترع الاسم.
•إذن «شعرات باط» هي قرية موجودة في عُمان؟
-كانت موجودة في عُمان.
•ثم تغيّر اسمها إلى «الواحة»؟
-لا. اندثرتْ. هذا ما حدث لـ«شعرات باط» الحقيقية. هُجِرتْ.
•الهدف من السؤال هو طرح ملاحظة أنك لا تتهيبين ذكر المدن العُمانية (مسقط، صحار، الخوير) وغير العُمانية ( لندن على سبيل المثال)، لكن حين يتعلق الأمر بالقُرى فإنك تكونين حذرة عادة وتلجئين إما إلى قرى غير موجودة في الواقع (كالعوافي في «سيدات القمر»)، أو مندثرة (كما تفضلتِ بالتوضيح عن «شعرات باط» في «حرير الغزالة»).
-نعم.
• لماذا؟
-مسقط ليست إلا مسقط، واضحة جدا بهويتها، لكن القرى العُمانية صحيح أن بينها اختلافات جغرافية وأحيانا اختلافات أخرى، لكن بالمجمل هي إلى حد كبير متشابهة. والحقيقة أن بعض القراء يركزون جدا على مسألة قرية أو مدينة. وبالنسبة لي فإن هذا فضاء مكاني، وليس هو المحور الأكثر أهمية في رواياتي، وإنما هو الفضاء المؤثث لما أريد تقديمه من عوالم وشخصيات. فليس مهما بالنسبة لي أن تكون «العوافي» اسمها اسم قرية موجودة فعلا في عمان. وحتى «شعرات باط» لولا أن الاسم لفت انتباهي ما كنت سأختاره. هذا لا أفكر فيه كثيرًا بقدر ما أفكر كيف يمكن أن تسهم الطبيعة الجغرافية والاجتماعية المعينة في بناء عالم الرواية.
•هناك أكثر من مراجعة تنوه بلغة «حرير الغزالة» المتقنة التي تميل إلى الشاعرية في بعض الأجزاء والمعتنى بمفرداتها وتركيب جملها وضبط إيقاعها داخل الفقرات. وهذا الكلام عن «حرير الغزالة» يمكن أن نسقطه على بقية روايات جوخة وقصصها. من أين تمتح جوخة هذه اللغة؟ وهل تشكل لها أهمية خاصة في الكتابة؟
-نعم. تشكل أهمية كبيرة جدا بالنسبة لي، لأنني إنسان كوَّنته اللغة، وبالنسبة لي اللغة هي شكل تحقق الكائن، بل أكاد أقول إنها كل شيء بالنسبة لنا نحن الكتّاب، وفي حياتي اليومية في عملي في الجامعة أتعامل مع اللغة بشكل يومي لكوني أدرّس الأدب. وعندما أقرأ رواية إذا كان كل ما تقدمه الرواية هو الحدث فقط، [دون اعتناء باللغة]، بصراحة لا أستمتع بها حتى لو كانت الأحداث شائقة. واللغة العالية ليس بالضرورة أن تكون لغة شعرية، فبعض الكتاب لغتهم غير شعرية، لكنها لغة عالية ومعتنى بها وهذا ما يمتعك كقارئ، ولذلك أحيانا تقرأ نصوصا مترجمة، لكن المترجم يكون على درجة من الرهافة بحيث ينقل في عربية جميلة ما كتبه الكاتب بلغة أخرى. اللغة طبعًا تتكون خلال سنوات التكوين وتصبح فيما بعد وكأنها بصمة للكاتب، وعندما تقرأ تعرف أنه هذه لغة رجاء عالم أو لغة الطيب صالح على سبيل المثال، وهكذا.
•بعض مراجعات «حرير الغزالة» وصفتها بأنها رواية تفاصيل ومشاعر لا رواية أحداث. ما تعليقك على هذا الوصف؟
•أظن أن هناك أحداثًا كثيرة في «حرير الغزالة»، لكن بعض القراء -وهذا حقهم- يحبون التطور الخطي أو الزمني للأحداث، أي أن تبدأ الأحداث من ألف وتنتهي إلى ياء، وهذه الطريقة أنا لا أكتب بها. فمن الطبيعي أن تختلف أذواق القراء، فبعض الناس يستمتعون بهذا الأسلوب في الكتابة، وبعضهم يفضلون الأسلوب التقليدي الذي يبدأ من أول الحدث إلى آخره. ثم إن المشاعر والأفكار هي جزء لا يتجزأ من تكوين العالم الروائي بالنسبة لي، وهي مرتبطة بالحدث. وهناك أشياء تبدو لبعض الناس في غاية التفاهة، لكنها تبدو لشخصية بعينها لأسباب خاصة بها في غاية الأهمية.
•دعينا نتحدث الآن عن بعض شخصيات الرواية ولنبدأ بالبطلتين حرير وغزالة. العلاقة بين هاتين الشخصيتين هي علاقة صداقة قوية إلا أن لكل منهما قصة مختلفة عن الأخرى، ولا تلتقيان إلا في تقاطعات بسيطة، وكأنهما روايتان لا رواية واحدة.
-هل نصادق بالضرورة من يشبهنا؟ العكس هو الصحيح، الناس ينجذبون للمختلف بدرجة أو بأخرى. فحرير وغزالة كما قلت نشأتاهما مختلفتان، لكن أظن أنهما في مرحلة عمرية معينة، ولنقل في مرحلة تاريخية معينة، تغيرت فيها – إلى حدٍّ ما- الأدوار الجندرية بالنسبة للمرأة في عُمان، سواء أعاشت هذه المرأة ظروف غزالة التي مرت بظروف أسرية معقدة في قرية نائية، غُيِّر اسمها فيما بعد، أو حرير التي عاشت في مدينة مثل صحار في ظروف مادية لنَقُلْ أنها أكثر راحة. فأظن أن نقاط التقاطع لا تشترط بالضرورة أن تكون النشأتان متشابهتَيْن، هناك عوامل أخرى في التكوين تجمع بنتين لتكونا صديقتين في مرحلة الجامعة وتستمر الصداقة بينهما فيما بعد.
•طيب ما سر تعلق غزالة أو ليلى بأمها غير الحقيقية وحبها لها أكثر من أمها الأصلية، ونحن نعرف طبعًا أن الطفلة الرضيعة لم تكن واعية أن أمها رمتها من يديها عندما وصلها نبأ وفاة والدها. الرواية لم تُرِنا من أمها فتحية أكثر من اللفّة التي طارت بغزالة ساعة الفاجعة قبل أن تتلقفها يدا سعدة.
-ربما يستشفُّ القارئ من الرواية لماذا تعلقت غزالة بسعدة. ويبدو لي في قراءتي لشخصية سعدة أنها شخصية منفتحة وحنون وفياضة بالأمومة ليس فقط على البشر، بل حتى على الحيوانات والنباتات، فهي ما يبحث عنه ويتمناه طفلٌ يبدو أنه يعاني من تعقيدات معينة في بيته، ففتحية (الأم الحقيقية) على الرغم من أنها لا تُذكر كثيرًا ولكن نستطيع أن نستشف أنها لم تقدم لابنتها غزالة ما قدمته سعدة. وإذا ما تقدمنا في الأحداث سنجد غزالة هي نفسها عندما أصبحت أُمًّا لم تشعر بأنها تستطيع أن تأتمن أمها على أطفالها وفضَّلت أن تودعهم في حضانة بدلا من أن تجعلهم في رعاية أمها، وهذا يدل على وجود إشكالية كبرى في علاقتها بهذه الأم، وفي تصورها هي لفكرة الأمومة بعد التجربة التي خاضتها مع الأم البديلة (سعدة) التي فتحت بيتها وأحضانها وحليبها لاستقبال غزالة.
•كيف تنظر جوخة إلى حبكة الرواية، فقد لفتَنا أن أكثر من مراجعة لرواية «حرير الغزالة» [تحدثت عن غياب الحبكة]. ولنأخذ مثالًا مراجعة القاصة المصرية إيناس حليم في موقع «الكتابة» التي ترى أن «حبكة الرواية بدت غائبة إلى حد كبير، كما بدتْ بعض الخيوط مبتورة، وحضور معظم الشخصيات متوارٍ أمام حضور بطلة الرواية غزالة وصديقتها حرير، ذلك التواري الذي أدى إلى رسم شخصيات منقوصة».. ما تعليقك؟
-بالنسبة للشخصيات في الرواية، كل شخصية لها مساحتها، المساحة التي يراها الكاتب. مثلا غزالة وحرير شخصيتان محوريتان استأثرتا بالسرد، الشخصيات المحيطة بهما ستأخذ مساحة أقل، [لكنها] نالت في رأيي حقها من الرسم داخل الرواية ما دام تركيزي الأساسي على غزالة وحرير. فإذا تعاملنا بمنطق أن كل شخصية يجب أن تنال حظها من العمل إذن كل الروايات الكبرى في العالم التي فيها شخصيات هامشية ستكون شخصيات «مبتورة». لا يمكن التعامل، في رأيي، بهذا المنطق مع عمل روائي يختار فيه الكاتب مَنْ مِن الشخصيات يريد أن يسلط عليها أكبر ضوء، ومن مِنها يريد أن يلقي عليه ضوءا أقل.
•لذلك إذن اخترتِ ألا تُلقي على آسية ضوءًا، وأن يكون الحديث عنها فقط من خلال الشخصيات الأخرى؟ طبعا كانت من الشخصيات المهمة في «حرير الغزالة» إلا أنها ظلت غامضة ومختفية طوال الرواية. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: لماذا أنهيتِ حضورها في الرواية مبكرًا؟
- بالعكس. آسية لم ينته حضورها أبدا، ظل حضورها إلى آخر صفحات الرواية لأن حضورها في غيابها، وهذه هي قوة حضور آسية؛ أنها شخصية غامضة، وتظهر في مواقع غير متوقعة ليس عن طريق حضورها الجسدي بالضرورة، إذ تظهر أحيانا باعتبارها صوتا في الإذاعة، وأحيانًا باعتبارها ذكرى، وتظهر أيضًا باعتبارها استيهامًا قويًّا جدا تكاد غزالة تراه أمام عينيها في نكسة علاقتها مع الفيل. هذا الغياب الذي له حضور طيفي هو في رأيي قوة غموض شخصية آسية وقوة تأثيرها على الشخصيات التي تقاطعت مصائرها معها مثل حرير وغزالة.
•هناك أيضًا شخصية مهمة في هذه الرواية لا تُنسى كتبتِ عنها: «ستنتزع بالموت كل السلطة التي لم تمنحها إياها الحياة، لن توجد على سطح الأرض جثة أسعد منها حين يلتف حولها الناس الذين لم يلتفوا حول جسدها الحي، ولو كانت الجثث تضحك لما توقفت جثتها عن القهقهة سخريةً منهم». إنها شخصية مليحة التي لم تمنحها الحياة الجمال أو الحب أو الأولاد، وهي من الشخصيات التي لاقت صدى كبيرا لدى القراء.
-صحيح. هذه شخصية بدأت تجذبني أنا نفسي بعد أن أردتُ في البداية إعطاءها مساحة ضيقة؛ كونها عمة غزالة فقط ولم أكن أخطط أن أجعلها شخصية تعبر أكثر عن نفسها. ولما تقدمتُ أكثر في الرواية حدث شيء غريب لي؛ بدأت أشعر أن هذه الشخصية تفرض نفسها عليّ، وبدأتُ أشعر أنها تقول لي: «وأنا؟! لماذا تكتبين كل هذا عن غزالة وحرير؟ وأنا؟». وسؤالها «وأنا؟» متسق تماما مع شخصيتها، فهي المرأة التي تريد أن تحضر الحضور الذي يراه الآخرون فجًّا ومستثقلا. لكن هي– كما قلتَ - حُرمتْ من أشياء كثيرة في الحياة، ونظرتْ نظرة خاصة لظروفها، واعتقدتْ بأن هناك آخرين يتحملون مسؤولية ما آلتْ إليه، فأرادت أن يُسمَع صوتها. ولذلك بدأت أهتم بها أكثر لأنها هي فرضت عليّ هذا الاهتمام، وأنا ككاتبة أصبحت أشعر بالفضول تجاهها، فحاورتُها: «طيب مليحة ماذا لديك لتقوليه لنا؟ بم تشعرين؟ ولماذا تتصرفين هذه التصرفات التي تحرج الآخرين؟. قولي لنا إذن كيف أنتِ تفكرين؟» لأنه من الواضح أنها تسبب حرجًا لابنة أخيها، وأنها تفتقر لحسّ البديهة، ولذلك منحتها بعض المساحة لتعبر عن نفسها. شخصية مليحة تستمد وجودها من المنطقة المتأرجحة بين النساء اللواتي أتيحت لهن فرصة التعليم والنساء اللواتي لم تتح لهن هذه الفرصة رغم أنهن ينتمين للفترة العمرية نفسها، بسبب المكان الذي انتميْنَ إليه. المنطقة المتأرجحة بالنسبة لهؤلاء النسوة تُشكِّل جُرحا لأن هناك نساء في عُمرهن - لمجرد نشأتهن في مدن أخرى - تعلمن وأصبح لهن ميزة التعليم وقوته، في وقت كانت المدارس قد افتتحت فيها لكن لنشأة مليحة في منطقة نائية لم تحظَ بهذه الفرصة فظل هذا جرحا بالنسبة لها. في كثير من الأحيان الشخص الذي يفشل في أن يحقق ذاته فإنه في ثقافتنا يجد آخرين ليلقي عليهم اللوم، هذه الثقافة تسمح له أحيانًا ألا يتحمل هو نفسه مسؤولية خطئه أو يحاول استدراك ما فاته، وإنما يبحث عمن يمكن أن يلقي عليه اللوم. ويتجلى هذا في الفصل الأخير ومليحة تموت، [عندما] قررت أن تموت معاقبة للأسرة التي لم تهتم بها ولم تمنحها ما تريد، وهذا شيء لافت لشخصية مثل هذه، وتستحق أن تُسمع ويكون لها صوت. ومن الطريف أنني بعد نشر الرواية، تواصلت معي فتيات لا أعرف أي شيء عن أسرهن، وأخذن يقلن لي: «مليحة تشبه فعلًا شخصية عمتي أو خالتي»، أو يخبرنني أن «أم حرير تشبه شخصية أمي، وكأنك تعرفين أمي وكتبتِ عنها». فهذا يعني أن الكاتب يستبطن الحياة والواقع، وفي الوقت نفسه لا يخضع لهذا الواقع خضوعا كبيرا، لأنه لا بد أن يثري نصّه برؤيته وخياله، ولا يكون مجرد ناقل فقط لما يحدث على أرض الواقع.
•نعم. وهذا يحيلني لسؤال أيضًا، وأظن أنه طُرِح في إحدى المراجعات: هذا الحديث المستفيض عن مليحة وهذا الرسم الدقيق لشخصيتها وشخصيات القرية لدى جوخة الحارثي لا يوازيه نفس الدقة ونفس تصوير المشاعر عندما تتحدث عن شخصيات في المدن، كمسقط على سبيل المثال. إذ نجد دقة وإبداعًا أكثر في الحديث عن الشخصيات القروية لدى جوخة أكثر من وصفها لشخصيات المدن؟
-تظن أن حرير شخصية لم توصف بدقة لأنها نشأت في صحار وعاشت كل حياتها في مسقط فيما بعد!
•لا. أعني جعل الشخصية نفسها مُصدَّقة تماما إلى الدرجة التي تتلقين فيها تعليقات أن هذه تشبه خالتي أو تشبه عمتي. بينما بعض الشخصيات في المدينة تُتلقى بشكل باهت بالمقارنة مع تلقي الشخصيات القروية.
-لا أعرف، لأنني لست مع تقسيم الشخصيات أصلا إلى قروية ومدنية، خاصةً أن المدن في عُمان، حتى عندما تكون مدينة كبيرة، يكون فيها طابع ريفي إلى حد ما، وكثير من الناس ولدوا في هذه القرى وانتقلوا فيما بعد للحياة في مسقط. فهل هم قرويون؟ هل هم مدنيون؟ المسألة في دول أخرى تكون أكثر وضوحا وحسما مما هي لدينا، القرى في عُمان إذا قارنتها الآن بقرى في دول عربية أخرى هي أشبه بالمدن من ناحية التقدم ووصول الأفكار والخدمات إلى الناس، فيما هناك قرى إلى اليوم في العالم العربي مقطوعة تماما عن العالم المديني وعن عالم الحضارة، قرى تعيش في عالم آخر تماما، بينما القرى في عُمان متصلة اتصالا وثيقا بالمدنية بدرجة أو بأخرى. لا أعرف لماذا يعتقد الناس أن هناك تقسيما حادًّا بين شخصيات المدن أو القرى، أظن أن كل شخصية تفرض طريقة تصويرها في النص سواء عاشت في قرية أو مدينة.
-•عندما سألتُ المترجم خالد عثمان مترجم «سيدات القمر» للفرنسية قال إنه رغم جمال الرواية إلا أنه لم يتوقع فوزها بهذه الجائزة نظرًا لفوزها بجائزة «مان بوكر» سابقا. ماذا عن جوخة الحارثي؟ عندما علمتِ أنك ضمن المرشحين الثمانية لهذه الجائزة هل توقعتِ الفوز؟
-لا
•لنفس السبب؟
-لا أعرف. لم أتوقع الفوز بأيٍّ من الجوائز التي رُشحتُ لها، (تضحك) لم أكن أفكر في الفوز، كان اسمي يظهر في قوائم الترشيح دون أن أعرف، أرى بقية الأسماء المرشحة وقد قرأتُ لمعظمها وأرى أن الجميع يستحق فرصة متساوية. ولكن عندما يأتي الفوز يكون شيئا جميلا لأنه في هذه الحالة يسلط الضوء على العمل الفائز، وبالتالي على الأعمال التي تنتمي للمكان الذي جاء منه هذا العمل. في الغرب لا توجد مشكلة في إعطاء الكاتب أكثر من جائزة من جهات مختلفة. في السنة التي ترشحتُ فيها للبوكر كانت الكاتبة البولندية «أولجا توكارتشوك» [مرشحة للجائزة] أيضًا، وكانت فائزة في السنة التي قبلها بالبوكر، ورغم ذلك وصلت إلى القائمة القصيرة، وقيل لي وقتها إنه لا شيء يمنع أن تفوز مرة أخرى بالبوكر عن عمل آخر. وبعدها بسنة فازت بنوبل. فليس لديهم في الغرب فكرة أن الكاتب «تكفيه» جائزة واحدة.
•وكانت تتنافس معك في الدورة نفسها التي فزتِ بها أيضا الكاتبة الفرنسية «آني إرنو» التي سبق أن فازت بالبوكر قبل ذلك.
-آني إرنو توقع الناس فوزها بسبب منجزها الكتابي كله، وهي كاتبة كبيرة ومعروفة جدا حتى للقارئ العربي لأن أعمالها تُرجمت قبل كل هذه الترشيحات. لقد أعجبتُ بكتابها «السنوات» الذي وصل للقائمة القصيرة.
•إلى أي مدى تعتقدين أن فوزك بجائزة «مان بوكر» سلط الضوء على الأدب العماني والأدباء العمانيين؟
-أعتقد أنه سلط الضوء فعلا على الأدب العماني. في المهرجانات واللقاءات الأدبية التي أذهب إليها عدا القراء العاديين أجد أن الصحفيين والمهتمين بالنشر وبالعالم الكتابي يسألونني عن الأدب العماني ويطلبون مني ترشيح أسماء لهم حتى يروا إذا كان هناك إمكانية لتقديمها إلى قرائهم. المترجمون أيضا، إذْ عرفت أن مترجمين في أكثر من دولة يبحثون عن أسماء عمانية. المشكلة في رأيي التي تعوق هذا الموضوع أنه لا يوجد استثمار مؤسساتي في عُمان يُعنى بهذا الجانب.
•كيف يكون هذا الاستثمار المؤسساتي؟
-يجب أن يُرسم الاستثمار كسياسة ثقافية تنهض بها المؤسسات. ويجب أن يقوم الإعلام بدوره ليس فقط داخل عمان، بل في الخارج أيضًا. وزارة الثقافة ووزارة الإعلام وغيرهما من الجهات عليها أن تستثمر هذا الفضول والاهتمام الموجود عند كل هؤلاء الناشرين والمترجمين والقراء تجاه الأدب العماني. أن تقوم المؤسسات بالمبادرات كما تفعل دول أخرى مجاورة لنا مثلا، لا أن تتعامل فقط مع الأمر الواقع. بعضنا هنا يتصور أن الأمور تجري في الدول الغربية، كما تجري معنا، أي أن المترجم بنفسه يُعجب بكتاب فيترجمه ثم يبحث عن دار نشر، ودار النشر تنشره له مباشرة! بينما نظام النشر لديهم معقد جدا، حتى لو كنت أنت كمترجم مهتمًا بكتاب فأنت بحاجة قبل كل شيء إلى تمويل، ولن يُنشَر أي كتاب مُترجَم قبل أن يحصل على تمويل، وهذا التمويل إما أن يكون من دار النشر أو من أي جهة أخرى. وبالنسبة لدولة خليجية كعُمان تستطيع في مسائل التمويل هذه أن تستثمر في المترجمين العالميين والمهمين الذين لديهم الرغبة وأبدوا استعدادا لأن يترجموا أعمالا عمانية ولكنهم لا يجدون التمويل. ثانيا فكرة الوكلاء الأدبيين وفكرة دور النشر التي تقتنع أن العمل مهم وأنه يستطيع أن ينافس لأن سوق المنافسة هناك صعبة. من الطبيعي أن نجد هناك كتّابًا لم ينجحوا في النشر قبل وصولهم الأربعين من العمر. والناس في إيطاليا وإسبانيا ودول أخرى يتواصلون ويسألون ما دام هناك أدب أخرج [أدباء] فازوا بجوائز عالمية فنحن نريد معرفة هذا الأدب، نريد أن نقرأه أكثر. السبيل هو الترجمة، والترجمة عمل مؤسساتي وليست عملا فرديا. وهناك أمرٌ آخر؛ ليس هناك فائدة كبرى في رأيي من ترجمة أعمال تنشر داخل عُمان. أن تكلف مترجما لترجمة عمل تنشره دار نشر توزعه داخليا فهذا بلا جدوى. لمن سيصل هذا العمل؟ في أحسن الأحوال قد يهتم بعض السياح القادمين لمسقط إذا وجدوا العمل متوفرا. ولكن القيمة تتحقق عندما تنشر في البلد التي تنشر بلغتها، إذا نشرت رواية باللغة السويدية في السويد فأنا أصل إلى القارئ السويدي في منبع داره، هو يشتري الرواية باعتبارها أدبا مترجما وصل إلى بلاده وبالتالي يستطيع أن يصل للقارئ وللمراجعات وللجوائز،ليس معنى دعم النشر أو الترجمة أنك تدفع مالا لمترجم محلي أو لدار نشر محلية وتقول ترجمت رواياتي!
• بما أن الحديث عن «حرير الغزالة» يتبادر إلى ذهني سؤال: هل استقبال القراء للرواية كان بالاحتفاء نفسه الذي قوبلت به «سيدات القمر»؟ أي هل أثر فوز « سيدات القمر» في استقبال «حرير الغزالة» وكذلك فيما يخص المراجعات التي كُتِبت عن العمل؟
-أنا كاتبة متأنية، والانفعالات الوقتية على أي عمل لا يعول عليها، أو أنها ليست مقياسا لأهمية أو جودة هذا العمل؛ لأن «سيدات القمر» استقبلت بهذه الحفاوة ومئات المقالات بعد أن فازت بالبوكر. لمّا خرجت الرواية في 2010 كتب عنها بعض النقاد واستقبلت بحفاوة على الصعيد الذي تستقبل به رواية لم تفز. ولكن عندما فازت، [واستحوذتْ] على كل هذه الاهتمام، وكُتبتْ عنها كل تلك المقالات، التي لم أستطع شخصيا أن أتابعها كلها، كان ذلك كله بسبب الفوز. فمن الطبيعي أن تحصل ضجة للعمل الفائز. «حرير الغزالة» هي كما قال سليمان «العمل ما بعد الفوز» ينظر له دائما بريبة وكأنك مدان بالضرورة لأنك تجرأت أن تصدر عملا بعد الفوز. في رأيي أن المراجعات التي رأيتُها حتى الآن إيجابية في المجمل، هل سيستمر هذا؟ هل ستتغير حظوظ الكتاب؟ أظن أن كل كتاب يحتاج وقتا كافيا. ونحن بسبب ثقافة «السوشل ميديا» لم يعد لدى الكاتب الصبر في أن يعطي فرصة للكتاب أن يعيش فترة كافية بين القراء، وأصبح كل واحد يقيس الأشياء باللحظية والوقتية: ماذا كتبوا الآن في السوشيل ميديا وماذا سيكتبون غدا. وأتصور أن هذا يظلم كثيرًا من الكتب.
•المغزى من سؤال عاصم ربما هو: هل حُمِّلت «حرير الغزالة» أكثر مما تحتمل كرواية بناء على وهج «سيدات القمر» وآمال بُنيتْ على جوخة الحارثي أكثر مما نُظِر إلى «حرير الغزالة» كنص مستقل عن مؤلفته؟
-أظن هذا شيء طبيعي، الناس بشكل عام يحاكمونك على الجائزة، ويضعونك في هذه الدائرة من الضوء، وكل دائرة من الضوء تحيط بها هالة سوداء من حولها. والكاتب الذي يجد نفسه مضطرا في تلك الدائرة عليه أن يتعامل مع الظلام الذي يحيط بهالتها أيضًا، فلا منفذ له. بالنسبة لي عندما أقرأ كاتبا اقرأ العمل، وهناك كُتّاب أعجبت كثيرا ببعض أعمالهم وهذا لم يمنع أنني لم أعجب بأعمالهم الأخرى. على الأقل بالنسبة لي أحاول ألا أقيس العمل بمدى نجاح الكاتب وبجوائزه ومكانته، فإذا كان العمل جميلًا فهو جميل، بغض النظر هل فاز بجائزة أم لا.
•هل وقعتِ عقود ترجمة لرواية «حرير الغزالة»؟
-الآن في صدد هذا الموضوع، وأنا لا أتحكم إطلاقا في عقود الترجمة، الوكيل الأدبي هو من يتولى الأمر، ولديهم [الوكلاء والناشرون الغربيون] كما قلت إجراءات كثيرة ومعقدة ولديهم موضوع قياس السوق. والآن ستُطرح رواية «نارنجة» بالإنجليزية متزامنة في أمريكا وبريطانيا في مايو 2022، وحسب نظر الوكالة الأدبية أنه عندما تطرح «نارنجة» في السوق نبدأ بإنهاء عقود ترجمة «حرير الغزالة».
•إذن فقد تلقيتِ عروضا لترجمة «حرير الغزالة» بالفعل؟
-بطبيعة الحال، نعم. الوكيل الأدبي يُخبرني عادة في المرحلة الأخيرة من المفاوضات قبيل التوقيع، ولكنه قال إننا لن نوقع أي عقد إلا بعد أن تصل ترجمة «نارنجة» أولا إلى السوق. سأوضح لك مثلا كيف تسير ترجمات رواية «نارنجة» حول العالم. إذ إن بعض دور النشر مثل السويدية والصينية والهندية والإيطالية ودور تنتمي للغات أخرى بمجرد أن طلبت ترجمة «سيدات القمر» طلبت معها توقيع عقد لـ «نارنجة». دُور نشر أخرى قالت: «سنرى كيف ستبيع «سيدات القمر» في بلداننا وكيف سيتلقاها القارئ وعلى ضوء ذلك سنوقع عقودًا لباقي الأعمال». في تركيا مثلا، دار «تيماش» المعروفة التي اشترت حقوق «سيدات القمر» قالت إن تلقي الأدب العربي في تركيا ليس جيدا وهي لا تستطيع المغامرة [بتوقيع عقد رواية أخرى معها] فاكتفت بـ«سيدات القمر»، ولكن خلال أقل من خمسة أشهر نفدت الرواية من الأسواق، فأصدرت «تيماش» طبعة ثانية من «سيدات القمر» ووقعت عقدا آخر لترجمة «نارنجة»، وأبدتْ الاهتمام بـ «حرير الغزالة». أذكر هذا كمثال كيف تشتغل عملية الترجمة والعقود. وأريد أن أذكّر أن «سيدات القمر» بعد أن تُرجمت إلى الإنجليزية حاول وكيلي الأدبي مخاطبة دور النشر الكبرى ولكنها ترددتْ خوفا أن يقول القارئ الإنجليزي إن هذه الرواية من بلد أدبه غير معروف نسبيا فلن نشتريها ولن نقرأها، حتى عندما نشرتها دار «ساند ستون برس» في 2018 لم تكن تعرف إلى أي مدى ستُوزع الرواية، وإلى أي مدى ستنجح. فأريد أن أقول إن عالم النشر وبيع الحقوق الأدبية هو عالم كبير جدا، وفي الحقيقة يتجاوزني أنا ككاتبة، والمفروض أن يتجاوز الكاتب، لأن هناك مؤسسات وظيفتُها أن تعمل على هذا الموضوع؛ الوكالات الأدبية، المؤسسات الداعمة، المهرجانات الأدبية، دور النشر، معارض النشر للكتاب في العالم، هي التي تشتغل على الجانب التسويقي للكاتب، وهو [الكاتب] كفاية عليه يكتب (تضحك).
•بعد أن قرأتِ «سيدات القمر» وقد تُرجِمت للإنجليزية وأصبحتْ «أجرام سماوية» هل شعرتِ بخيانة النص المترجم؟ وأقصد الخيانة هنا بالمعنى الإيجابي. هل دُهشتِ بعوالم جديدة، بنص جديد وكأنك تقرئينه لأول مرة؟
-حاولتُ منذ وقت مبكر ان أتخلى عن اعتداد الكاتب بلغته، لأن هذه لغتك، ولما تنقل إلى لغة أخرى لا تصبح الكلمات كلماتك، وإنما كلمات المترجم الذي هو ابتكرها لينقل فيها لغتك أنت. فتحتاج أن تتخلى عن هذا الاعتداد أن هذه لغتي وأن تتقبل أن كل لغة لها منطقها الخاص. الذي لفت انتباهي عندما قرأت «Celestial Bodies» أن فيها شخصيات كثيرة! وهذه الملاحظة لم تلفت انتباهي إطلاقا بالعربية ولكنها لفتت انتباهي عندما قرأتها أول مرة بالإنجليزية قبل أن تنشر، عندما رأيت أسماء الشخصيات باللغة الأخرى قلت: «واجد أسماء في هذي الرواية». ولأنني لا أقرأ غير الإنجليزية، لا أقرأ مثلا الفرنسية والسنهالية والبرتغالية لم يعد أمامي إلا الثقة بالمترجم، وهذا ليس خيارا للكاتب الذي يجب أن يثق باختيار دار النشر التي في كل مرة ترسل سيرة ذاتية مطولة لكل مترجم تختاره، وغالبا يكونون مترجمين جيدين واختيروا بعناية ولا تملك إلا أن تثق بهم.
•البعض قالوا إن ثيمة الاستشراق الموجودة في «سيدات القمر» هي التي صنعت الكثير من الدهشة لدى القارئ الغربي.. ما تعليقك أنتِ؟
-تعليقي أن هذا الكلام هو على النقيض تمامًا من الكلام الذي قالته لجنة تحكيم مان بوكر في حيثيات تفويزها لـ«سيدات القمر»، حيث قالت إنها رواية «تتحدى الصور النمطية للشرق» وهو أيضا عكس الكلام الذي قاله الناشرون وكتّاب المقالات عن الرواية في كثير من المراجعات باللغات الأخرى، كالكرواتية مثلًا، واليونانية،والبرازيلية، كلهم كانوا يقولون إن تصورنا للشرق كان مختلفًا تماما، وأن الرواية تتحدى هذا الشرق النمطي. ولكن تعودنا في عالمنا العربي أن تُثار الاتهامات لأي رواية تنجح.
•هل أضاف لك العدد الكبير من القراء الذين صنعتهم «سيدات القمر» عبئا آخر وأنتِ تكتبين الأعمال الجديدة؟
-نعم ولا. نعم، لأن فكرة الكتابة لقارئ محدد أسهل بالنسبة للكاتب من فكرة الكتابة لقراء من كل الأديان والثقافات واللغات إلخ. ولا، لأنه إذا استسلم الكاتب لهذا الإحساس فسيفقد حريته. طيب أنا عندي في «حرير الغزالة» شخصية عامل بناء من الهند وهي شخصية بغيضة في هذا العمل لأنه يتعرض للطفلتين، فهل عليّ أن أفكر بالقارئ الهندي الذي قد «يزعل» إذا تصادف أن الشخصية الموجودة من بلاده بغيضة؟ لا. الجواب هو لا، لا يجب أن أفكر بهذا إطلاقا. لماذا؟ لأن هذا فيه قيود كبيرة على حرية الكاتب، ولأن القارئ الذي يفكر بهذه الطريقة لا يفهم الأدب ولا يدرك أن الشخصيات في الرواية هي ليست التمثيلات الوحيدة للثقافات والشعوب في الواقع. إنها شخصيات روائية لا نماذج ممثلة لثقافات أو أديان أو بلدان. وأفضل مثال أريد أن أقوله في هذا الموضوع إن الكاتبة النيجيرية «تشيماماندا» قيل لها إن بعض الرجال في نيجيريا غاضبون لأن الشخصية الرئيسية في روايتها رجل متسلط ومعاملته سيئة لزوجته، فماذا قالت؟ أظن ان إجابتها تمثلنا كلنا [نحن الكتّاب] إذ قالت بسخرية: فعلا؟ الآن فهمت لماذا يجب أن أحاسب كل الرجال الأمريكيين لأن القاتل في «سلسلة القاتل المتسلسل» أمريكي. فإسقاط شخصية معينة من بلد معين كنموذج مُمثِّل لهذا البلد سيمنعنا من قراءة آداب العالم بانفتاح، وسيمنعنا من الاستمتاع بأي أدب عالمي إذا فكرنا أن هذا الأدب هو مجرد تمثيل لنموذج موجود في هذه الثقافة.
•أود أن أسألك عن الترجمة الفرنسية لـ«سيدات القمر» التي فازت بجائزة الأدب العربي في فرنسا. بما أن المترجم عربي هو المصري خالد عثمان، هل تواصل معك أثناء عملية الترجمة؟ هل سأل عن أي مصطلحات؟ هل صار أي نوع من التواصل بينكما قبل إتمام عملية الترجمة؟
-لا. وحسب ما أتذكر لم يحدث تواصل مع أي من المترجمين الذين ترجم معظمهم من العربية مباشرة، إلا المترجم الهندي، والمترجمة التي تترجم الرواية الآن إلى الألمانية، وبعض المترجمين الذين طلبتْ منهم دور النشر أن يكتبوا مقدمة لترجماتهم مثل الترجمة اليونانية. في هذه الحالة أنا طلبتُ أن أطلع على هذه المقدمة، وقُدمتْ لي المقدمة باللغة الإنجليزية لأنهم لا يستطيعون تقديمها بالعربية، فقرأتها وأبديت ملاحظاتي. أما في الترجمة نفسها فبرغم أن معظم الترجمات تمت عن العربية مباشرة إلا أنه «لحسن حظي» لم يتواصل معي المترجمون، وإلا كنت مُنيت بكارثة في وقتي.
•بمن في ذلك مارلين بوث؟
-لا. مارلين بوث لا. لأنها تترجم إلى الإنجليزية التي أقرأها فهي تتواصل معي في كل فصل. حتى في ترجمتها لـ«نارنجة» كانت هناك ملاحظات ثلاثية بيني وبينها وبين الوكيل الأدبي، ثم أصبحت رباعية بإضافة المحرر في دار النشر إلينا، في المراحل الأخيرة طبعا. فضل الترجمة لها بنسبة 100% لكن أقصد الملاحظات. طبعا حتى لو كنت أعرف لغات أكثر من المستحيل أن أجد الوقت والطاقة لمتابعة جميع الترجمات.