نُطالع في هذا المقال أهم كتاب حول سلوك العلم، كُتِب في القرن العشرين، ألا وهو كتاب توماس كُون "بنية الثورات العلمية«. هذا الكتاب نجح في هدم فكرتنا التقليدية عن العلم، وعن الطرق التجريبية «empirical methods» وكل ما يحيق بالسلوك العلمي، والعلماء من أساطير وخرافات. يفعل «كُون» ذلك عبر دراسته لتاريخ العلم، مجيبا عن الأسئلة الفلسفية التي تخص التقدم في العلوم. يدّعي «كُون» أن العلم -على عكس طرح النظريات الفلسفية حول العلوم- لا يحكمه المنطق والسعي الحثيث للمعرفة كما هو شائع، بل تحكمه ثورات يحل فيها «الباراديم» paradigm محل آخر.
«الباراديم» والعلم العادي
يمكن تعريف «الباراديم» على أنه مجموعة الأساسيات والادعاءات حول العالم وطرق جمع وتحليل البيانات وعادات ممارسة العلم.
خلال فترة «العلم العادي» ينغمس العالِم في ممارسة العلم دون مساءلة هذه الأساسيات والجدال حولها، بل إن وظيفة العالِم هي ضمّ أكبر قدر ممكن من الملاحظات والحالات تحت مظلة الباراديم في عملية يُسميها «كُون» حل الأحاجي puzzle-solving.
الميزة الأساسية لهذه المرحلة أنها تنظم العلم العلمي، وتسمح للعلماء بالبحث دون التشكيك في صحة الطرق والأدوات، أو جدوى بحثهم.
إن هذه المرحلة تنتقل بالعمل الفردي ليكون عملا مؤسسيا، سامحة بتبادل وتراكم المعرفة، فبمجرد أن يتفق العلماء مثلا -وهو المثال الذي أورده جودفري-سميث في كتابه «النظرية والواقع»- نقول إنه بمجرد أن يتفق العلماء على أن المكون الأساسي للجينات لدى الحيوانات والنباتات هو الـDNA، ويمكنهم بعد ذلك التركي على البحث في دور كل جين في التحكم بصفات معينة، وماذا يعنيه تعطيل أحد هذه الجينات، أو شذوذها.
يرى كُون أنه في غياب باراديم مسيطر، يصعب على العلماء أن يذهبوا عميقا في محاولة فهم الظواهر.
الأزمات والاستجابة لها
إن وجود حالات شذوذ anomalies تتعارض مع البراديم المسيطر غير كافٍ لإحداث الأزمات. عندما يواجه العالِم العادي معضلة من هذا النوع، فإنه يبحث -بلا هوادة- عن حل لأحجيته، إنه يفترض أحيانا أن هناك خطأ في الأدوات، لكنه لا يفترض خطأ الباراديم.
صحيح أن الافتراضات تُثبَت أو تُدحَض طوال الوقت في ظل العلم العادي، لكن رفْض الباراديم بالكامل أمر أكثر تعقيدا.
لا تحدث الثورات إلا بتحقق شرطين: (1) وجود حالات هائلة من الشذوذ لا يمكن تفسيرها وفق البرادايم المسيطر، (2) ووجود باراديم آخر أقدر على تفسير هذه الحالات.
لا ينتهي العالِم برفض باراديم مسيطر لمجرد وجود حالات شذوذ أو شواهد مناقضة، كما لا يحكم على باراديم جديد بالالتجاء إلى العالِم، بل يتم الحكم بمقارنة البراديم الجديد بالبراديم المسيطر، ومقارنة كل منهما بالطبيعة، حتى أن البعض يذهب لتفسير طرح «كُون» لحد القول بأن مثل هذه الثورات هو أمر غير عقلاني بالمرة.
رأي آخر مثير للجدل يُعزى لنظرية «كُون» حول العِلم، وهو «الدوغمائية»، ذلك الإيمان المُطلق الذي يتحلى به العالِم العادي بإطار العمل الذي يأتي به الباراديم، وكل ما يتعلق به من مفاهيم.
ويدّعي كُون أن تسليم طلبة العلم بالنظريات لا يعود للبراهين، وإنما للثقة في سلطة المعلمين والكتب التي يدرسونها.
النظر إلى العالم بعيون جديدة
عند حدوث الثورات العلمية وتغير الباراديم، تتغير نظرة العالِم إلى العالَم. «فما كان يبدو بطًا في عالَم العالِم قبل الثورة، يبدو أرانب فيما بعد». التصورات المسبقة في نظر كُون شرط للإدراك الحسي. فتجارب كثيرة تثبت أن ملاحظة صفات ما يعرض علينا، تعتمد لحد بعيد على تجاربنا وما دُربنا عليه. وفي غياب التدريب فما ننظر إليه ليس سوى فوضى! وبالمثل فإن ملاحظة ما لا يمكن أن تعد برهانًا، لا يمكن حتى أن تُفهم وتُؤول إلا ضمن شبكة التصورات التي يأتي بها البراديم، فالملاحظة «نفسها» التي يرصدها الفلكي الذي يرى أن الأرض هي المركز، تُقرأ بشكل مختلف عندما تكون الشمس هي المركز. وهكذا فنحن لا نفهم العالم كما هو، بل إننا نضع أشياء العالم في نظرياتنا، ونفهمها وفق هذا النسيج الذي صنعناه. إننا كل مرة نعيد فهم العالم بالنسبة للنظريات التي نضعها حوله، ولا سبيل -وفق هذا الطرح- في معرفة أشياء العالم كما هي، لأن العالم «بحد ذاته» ليس المرجع، لا يمكن أن يكون المرجع، حيث لا وجود لمرجع ثابت.
إن المرجع هو الباراديم الذي يأتي بنظرياته وأدواته، وطرائقه، ويخبرنا أين ننظر في العالَم وماذا نتوقع أن نرى.
و«عندما تتغير البراديمات، فإن العالم نفسه يتغير معها، فالعلماء الذين يقودهم براديم جديد يتبنون أدوات جديدة وينظرون في أمكنة جديدة، وربما يكون الأكثر أهمية من ذلك أن العلماء يرون خلال الثورات أشياء جديدة ومختلفة عندما ينظرون، وبأدواتهم المألوفة، في أمكنة كانوا قد نظروا إليها من قبل، ويبدو الأمر كما لو أن المتَّحد المهني قد انتقل فجأة إلى كوكب آخر تُرى فيه الأشياء المألوفة في ضوء مختلف، وتُرى معها أيضا أشياء غير مألوفة» (إسماعيل (2007)، ص 205)
ماذا بعد؟
إذا اتفقنا على أن هذه هي الطريقة التي يسير بها العلم ويحرز تقدمه، علينا أن نسأل أنفسنا هل هذه هي الطريقة التي يجب أن يكون عليها؟ ثم هناك سؤال آخر يخص الثقة بالعلم، كيف يمكن أن نثق بالعلم في غياب نقد الأفكار المسيطرة؟ وسؤال آخر حول الدور المعرفي الذي يلعبه، كيف نضمن أن يظل العلم طريقتنا في الوصول إلى الحقيقة أو مقاربتها على الأقل إن لم تكن هذه وظيفته -باعتبار الوضع القائم، وفق طرح «كُون»-؟ وهناك الشق الإجرائي للمسألة، إذا كان دعم الأبحاث العلمية يتجه لتعزيز فكرة ما، إذا كانت الأموال تضخ باتجاه التوسع والتعمق في نظرية سائدة لظاهرة، فما مصير النظريات المعارضة والأفكار المضادة؟
___________
* نوف السعيدية .. كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
«الباراديم» والعلم العادي
يمكن تعريف «الباراديم» على أنه مجموعة الأساسيات والادعاءات حول العالم وطرق جمع وتحليل البيانات وعادات ممارسة العلم.
خلال فترة «العلم العادي» ينغمس العالِم في ممارسة العلم دون مساءلة هذه الأساسيات والجدال حولها، بل إن وظيفة العالِم هي ضمّ أكبر قدر ممكن من الملاحظات والحالات تحت مظلة الباراديم في عملية يُسميها «كُون» حل الأحاجي puzzle-solving.
الميزة الأساسية لهذه المرحلة أنها تنظم العلم العلمي، وتسمح للعلماء بالبحث دون التشكيك في صحة الطرق والأدوات، أو جدوى بحثهم.
إن هذه المرحلة تنتقل بالعمل الفردي ليكون عملا مؤسسيا، سامحة بتبادل وتراكم المعرفة، فبمجرد أن يتفق العلماء مثلا -وهو المثال الذي أورده جودفري-سميث في كتابه «النظرية والواقع»- نقول إنه بمجرد أن يتفق العلماء على أن المكون الأساسي للجينات لدى الحيوانات والنباتات هو الـDNA، ويمكنهم بعد ذلك التركي على البحث في دور كل جين في التحكم بصفات معينة، وماذا يعنيه تعطيل أحد هذه الجينات، أو شذوذها.
يرى كُون أنه في غياب باراديم مسيطر، يصعب على العلماء أن يذهبوا عميقا في محاولة فهم الظواهر.
الأزمات والاستجابة لها
إن وجود حالات شذوذ anomalies تتعارض مع البراديم المسيطر غير كافٍ لإحداث الأزمات. عندما يواجه العالِم العادي معضلة من هذا النوع، فإنه يبحث -بلا هوادة- عن حل لأحجيته، إنه يفترض أحيانا أن هناك خطأ في الأدوات، لكنه لا يفترض خطأ الباراديم.
صحيح أن الافتراضات تُثبَت أو تُدحَض طوال الوقت في ظل العلم العادي، لكن رفْض الباراديم بالكامل أمر أكثر تعقيدا.
لا تحدث الثورات إلا بتحقق شرطين: (1) وجود حالات هائلة من الشذوذ لا يمكن تفسيرها وفق البرادايم المسيطر، (2) ووجود باراديم آخر أقدر على تفسير هذه الحالات.
لا ينتهي العالِم برفض باراديم مسيطر لمجرد وجود حالات شذوذ أو شواهد مناقضة، كما لا يحكم على باراديم جديد بالالتجاء إلى العالِم، بل يتم الحكم بمقارنة البراديم الجديد بالبراديم المسيطر، ومقارنة كل منهما بالطبيعة، حتى أن البعض يذهب لتفسير طرح «كُون» لحد القول بأن مثل هذه الثورات هو أمر غير عقلاني بالمرة.
رأي آخر مثير للجدل يُعزى لنظرية «كُون» حول العِلم، وهو «الدوغمائية»، ذلك الإيمان المُطلق الذي يتحلى به العالِم العادي بإطار العمل الذي يأتي به الباراديم، وكل ما يتعلق به من مفاهيم.
ويدّعي كُون أن تسليم طلبة العلم بالنظريات لا يعود للبراهين، وإنما للثقة في سلطة المعلمين والكتب التي يدرسونها.
النظر إلى العالم بعيون جديدة
عند حدوث الثورات العلمية وتغير الباراديم، تتغير نظرة العالِم إلى العالَم. «فما كان يبدو بطًا في عالَم العالِم قبل الثورة، يبدو أرانب فيما بعد». التصورات المسبقة في نظر كُون شرط للإدراك الحسي. فتجارب كثيرة تثبت أن ملاحظة صفات ما يعرض علينا، تعتمد لحد بعيد على تجاربنا وما دُربنا عليه. وفي غياب التدريب فما ننظر إليه ليس سوى فوضى! وبالمثل فإن ملاحظة ما لا يمكن أن تعد برهانًا، لا يمكن حتى أن تُفهم وتُؤول إلا ضمن شبكة التصورات التي يأتي بها البراديم، فالملاحظة «نفسها» التي يرصدها الفلكي الذي يرى أن الأرض هي المركز، تُقرأ بشكل مختلف عندما تكون الشمس هي المركز. وهكذا فنحن لا نفهم العالم كما هو، بل إننا نضع أشياء العالم في نظرياتنا، ونفهمها وفق هذا النسيج الذي صنعناه. إننا كل مرة نعيد فهم العالم بالنسبة للنظريات التي نضعها حوله، ولا سبيل -وفق هذا الطرح- في معرفة أشياء العالم كما هي، لأن العالم «بحد ذاته» ليس المرجع، لا يمكن أن يكون المرجع، حيث لا وجود لمرجع ثابت.
إن المرجع هو الباراديم الذي يأتي بنظرياته وأدواته، وطرائقه، ويخبرنا أين ننظر في العالَم وماذا نتوقع أن نرى.
و«عندما تتغير البراديمات، فإن العالم نفسه يتغير معها، فالعلماء الذين يقودهم براديم جديد يتبنون أدوات جديدة وينظرون في أمكنة جديدة، وربما يكون الأكثر أهمية من ذلك أن العلماء يرون خلال الثورات أشياء جديدة ومختلفة عندما ينظرون، وبأدواتهم المألوفة، في أمكنة كانوا قد نظروا إليها من قبل، ويبدو الأمر كما لو أن المتَّحد المهني قد انتقل فجأة إلى كوكب آخر تُرى فيه الأشياء المألوفة في ضوء مختلف، وتُرى معها أيضا أشياء غير مألوفة» (إسماعيل (2007)، ص 205)
ماذا بعد؟
إذا اتفقنا على أن هذه هي الطريقة التي يسير بها العلم ويحرز تقدمه، علينا أن نسأل أنفسنا هل هذه هي الطريقة التي يجب أن يكون عليها؟ ثم هناك سؤال آخر يخص الثقة بالعلم، كيف يمكن أن نثق بالعلم في غياب نقد الأفكار المسيطرة؟ وسؤال آخر حول الدور المعرفي الذي يلعبه، كيف نضمن أن يظل العلم طريقتنا في الوصول إلى الحقيقة أو مقاربتها على الأقل إن لم تكن هذه وظيفته -باعتبار الوضع القائم، وفق طرح «كُون»-؟ وهناك الشق الإجرائي للمسألة، إذا كان دعم الأبحاث العلمية يتجه لتعزيز فكرة ما، إذا كانت الأموال تضخ باتجاه التوسع والتعمق في نظرية سائدة لظاهرة، فما مصير النظريات المعارضة والأفكار المضادة؟
___________
* نوف السعيدية .. كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم