جذور الموسيقى والغناء خارطة جينية للعلاقات والصلات التي نسجها هذا الشعب أو ذاك مع الشعوب والثقافات الأخرى عبر القرون. وتزداد هذه الصلات بين الشعوب وتتعمق في وقتنا هذا في ظل وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والتعليم الحديث الذي يتجه نحو استعمال عدد محدود من اللغات حول العالم، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف اللغات المحلية، وعليه تواجه موسيقات الشعوب التي تتعرض لغتها للتهميش تحديات حقيقية تهدد أنماطها الموسيقية بالانقراض أو بالجمود والتحول إلى موسيقى متحفية أو سياحية، وبالتالي خسارة قرار الاستمرار في صياغة وبلورة توجهات الثقافة الموسيقية المعاصرة.

إن التغيير لا بد منه، وتوثيق الموسيقى المحلية وحده ليس ضمانا لاستمرار دورها ومكانتها، والأفضل إلى جانب ذلك تطبيق استراتيجية الحماية بالمشاركة والتفاعل مع التحولات الثقافية الكبرى والمساهمة في صياغة الفن العالمي المعاصر. ورغم الحديث المتواصل عن أهمية التنوع الثقافي في الموسيقى إلا أنه يتوقف في غالب الأحيان عن الاهتمام بصميم اللغة الموسيقية المحلية وقوالبها الفنية وآلاتها. لذلك، يمكن ملاحظة توجه الممارسون في الموسيقات المعاصرة نحو تهميش خصوصيات نسب الدرجات النغمية، وتوحيد دوزان الآلات الموسيقية اعتماداً على معايير نظام موسيقي واحد، مع شيوع استعمال الآلات ثابتة الدوزان بكثرة في الموسيقات الأقل حظوة من العلوم الموسيقية وصناعة الآلات. والموسيقى التقليدية العُمانية للأسف تقع في دائرة هذا التحدي، لهذا المحافظة عليها تستوجب في نظري أخذ ذلك بعين المعرفة العلمية والتطبيقية، ومواجهة تحدي نقل مهاراتها وثقافتها الشفهية إلى العلوم الموسيقية والمهارات الأدائية الحديثة.

واللغة والشعر والموسيقى ثلاثي متضافر، والإيقاع عنصر فني بين الشعر والموسيقى، وهو يلعب دورا حيويا في تعميق أثر النص واللحن، ولأهمية ذلك ربما سبق علم الإيقاع علم الموسيقى عند العرب، وتذكر بعض المصادر أن مؤسس علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي له أكثر من كتاب مفقود في هذا السياق.

فالمهم أن ما بين الشعر والموسيقى والغناء صلات لا يمكن فكها على مستوى الشكل أو المضمون الفني رغم محاولات الاستقلال الحاصلة لكل منهما عن الآخر، وما يبذل من جهود لفك الارتباط بين الشعر والموسيقى، بحيث أصبح للموسيقى مؤلفاتها الخاصة التي لا يدخل فيها الغناء، وكذلك لم يعد الشعراء ينشدون أشعارهم، ويكتفون بالإلقاء.

والشعراء العُمانيون كانوا- وربما لا يزالون في المجالس الخاصة- يلقون قصائدهم ملحنة، بطريقة متوارثة جميلة وفريدة، أتمنى إحياءها وعمل مهرجان خاص بهذه الطريقة الفريدة التي ظل العُمانيون محافظين عليها ويتوارثون ألحانها جيلا بعد آخر، فهذا الإنشاد القديم هو أحد أصول الغناء العربي.

وقد تغير معنى المصطلح حديثا وانحصر في غناء القصائد الدينية، وهذا النوع من الغناء يسمى الآن إنشاد، ولكن لا فرق من وجهة نظر موسيقية بين المصطلحين. ورغم محاولات هؤلاء المنشدين الاعتماد على مهارات الأداء الصوتي وتجنب الآلات الموسيقية الوترية والزامرة، إلا أنهم حديثاً يستعملون آلة الأورج الكهربائية في التسجيلات لضبط الدوزان وتجنب النشاز، ثم يخفون صوت هذه الآلة الموسيقية أو يخفظونها في المكساجات بعد إتمام الأداء الغنائي، بهدف إبراز الأصوات الغنائية والآلات الإيقاعية المختارة.

وعلاقة الشعراء والمغنيين أصحاب الأصوات الحسنة والعازفين الماهرين النابهين علاقة قديمة، وأخبار وقصص الشعراء والمغنيات والمغنيين تملأ كتب التراث العربي، وفي مقدمتها كتاب الأغاني الشهير، ولا تزال هذه العلاقة مستمرة بطبيعة الحال. ومن بين الأسماء المذكورة في صدر الإسلام المغنية شيرين أو سيرين التي اختلفت فيها الروايات وتناقضت، فبينما يذكر مثلا: جورج فارمر صاحب كتاب تاريخ الموسيقى العربية، وغيره من المصادر والمراجع، أن «شيرين جارية مغنية لحسان بن ثابت شاعر النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- ومادحه»، يتساءل الدكتور ناصر الدين الأسدي في كتابه القيان والغناء في العصر الجاهلي: «هل سيرين هي قينة حسان؟ أو لعلها قينة أخرى، فقد ذكر ابن الطحان (نقلا عن كتاب الأغاني) أن من قيان العصر الجاهلي قينتين: للحضرمي هما سيرين وصاحبتها».. ومن المثير للاهتمام إن اسم «سيرين» في اللغة العربية الشحرية بظفار عُمان تعني غصون.

. مسلم الكثيري موسيقي وباحث عماني