حدّثني المخرج العراقي المقيم في مالمو السويدية الفنان كريم رشيد، في لقاء جمعني مؤخرا في القاهرة، عن عرض مسرحي موجّه للأطفال من ذوي الفئة العمرية 3 إلى 5 سنوات قدّمه في مالمو حمل عنوان «الكلّ لديهم ساعات، لا أحد لديه وقت» طرح خلاله تساؤلات ذات طابع فلسفي بأشكال، وبنى درامية تتناسب مع مداركهم، وقد فوجئ حين لا حظ أن الأطفال تفاعلوا مع تلك التساؤلات، التي هي ذاتها التي يطرحها الكبار، بل ذهبوا بتلك التساؤلات إلى مديات أبعد، وكانت تجربة ناجحة جعلتني أقارن بين الأساليب التعليمية، والتربوية المتّبعة في الغرب، مع الأساليب التقليدية التي نتّبعها في تربية أطفالنا، وهي أساليب لم تعد تتماشى مع طرق التربية الحديثة، كونها تعتمد على التلقين، والضغط النفسي، ولم يزل القائمون على التربية عندنا ينظرون للطفل ككائن قاصر!، في وقت ينظر به لنفسه «شخصية متكاملة» هذه الشخصيّة «تمتلك طاقات إبداعية تدفعها إلى تجديد نفسها باستمرار»، كما يقول الشاعر الراحل سليمان العيسى، والطفل، بطبيعته، يحبّ من يعزّز لديه ثقته بنفسه، ويتضايق من الذي يتعاطى معه كصغير، وساذج، وذي قدرات محدودة، لذا سرعان ما يملّ من عملية التلقين المدرسي، ويبحث عن كلّ ما يعوّضه عن ذلك، وكثيرا ما يجد ضالّته في الألعاب الإلكترونية، والبرامج التي تبثّها قنوات التواصل الاجتماعي، بدون رقيب، وحسيب، وهنا تكمن الخطورة، فعقل الطفل بدون حصانة، ويلتقط ما يرى ويسمع بسرعة، ويجعل منها مسلّمات في حياته، في حالة عدم وجود من يوجهه من أفراد أسرته، فترك عقل الطفل فريسة لغزو تلك البرامج سينعكس عليه سلبا في المستقبل، و«من شبّ على شيء شاب عليه»، كما يقول المثل السائر، وتكون مهمّة الإصلاح أصعب، وفي هذا الصدد، يرى فريدريك دوجلاس «إنه لمن الأسهل صناعة أطفال أقوياء على إصلاح رجال محطّمين «فـالطفل» أبو الرجل» كما يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردورث، بمعنى أنّ لسنوات الطفولة تأثيرا كبيرا على سلوكيّات الإنسان عندما يكبر، والطفل يستهويه التشبّه بالكبار، وتقليدهم، ولم يكن سيتّجه لتلك البرامج لولا أنّه شاهد الكبار مستغرقين بتلك العوالم، فقلّدهم في ذلك، وأوّل تلك المساوئ أنّ تلك البرامج تؤثّر على سلوكيّاته، كونها تأتي من مجتمعات لها ثقافة مختلفة، وتمتصّ طاقته الإبداعيّة، وتعطّل من مواهبه، فلا تجعلنا نساعده في احتضانها، ومساعدة أزهارها على التفتح، ونحن لا نريد لأطفالنا النشأة بشكل عشوائي، مثل نباتات تتفتح بذورها في البراري، فتمدّ جذورها حيث تجد ما يجعلها تستمر في الحياة، دون تشذيب، ورعاية، فالجيل الجديد صار يقضّي ساعات طويلة مع الهواتف الذكيّة، والبرامج المتاحة دون رقابة من الأسرة، ومن المؤسف، أنّه نشأ متعلّقا بالبرامج التي توفّرها وسائل التواصل، والمعروف أنه تقف خلفها مؤسسات لها أهداف شتّى وغايات تجاريّة، ومن الطبيعي أن تترك أثرا سلبيا على عقل الطفل، ومن ثمّ المجتمع، وهذه الظاهرة تفشّت ليس في مجتمعنا العماني فقط، بل في دول العالم، كما أشار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- خلال لقاء جلالته بشيوخ ولايات محافظتي الداخلية والوسطى صباح أمس الأول بحصن الشموخ بولاية منح، وتأكيد جلالته على تربية الأبناء التي ينبغي ألّا تتمّ عبر شبكات التواصل، منبّها إلى الاستغلال الخاطئ للتقنية التي وجدت لخدمة البشرية، ومن نتائجها السلبية تأثيرها على تربية النشء، والترابط الأسري.

لذا لا بدّ من العودة في التربية إلى أصول المجتمع العماني المتمسّك بقيمه، وثوابته، وطرائقه، قبل أن تجهز وسائل التواصل على مبادئه الأصيلة، وينبغي دفع الخطر المتمثّل في اكتساب عادات دخيلة، والتأكيد على دور الأسرة، وعلى الجهات المسؤولة العمل على تحقيق هذه الرؤية، ووضع استراتيجيات فاعلة لتنشئة الطفل، وخطط بعيدة المدى، يقول كونفوشيوس: «إذا كانت خطتك لعام واحد فازرع الأرز، وإذا كانت خطتك لعشرة أعوام فازرع الأشجار، وإذا كانت خطتك لمائة عام فقم بتعليم الأطفال»، وهذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المؤسسات التربوية، والأسرة، والمجتمع.

___________________________

.عبدالرزاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي نائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي