سالم الرحبي

يزدحم تاريخ الثقافة العربية يومًا بعد يوم بسير الشخصيات المهمشة التي دخلت إلى الحياة الثقافية من أبواب متعددة كالأدب والفكر والفن والسينما، وحتى العمل السياسي «باعتبار أن السياسة نشاط يؤثر ويتأثر بالخطاب الثقافي ويتفاعل مع واقعه في أي مجتمع». فهناك القليل من الأسماء التي نعرفها والكثير ممن نجهلها جاءت إلى الحياة لتدور في هذا الفلك الشرس للصناعة الثقافية ثم غادرته من بوابة خلفية بعد عمر من النكران والتهميش، تضافر فيه غمط المؤسسة مع إهمال الجماهير. في حين يضج الإعلام والصحافة اليومية احتفاء وتكريما بأسماء لا تتميز عن غيرها سوى بما حظيت به من فرص وروافع اجتماعية وسياسية لا علاقة لها بالقيمة الفنية لتجاربها الإبداعية التي انخرطت فيها، في حقول وأمشاج الثقافة المختلفة. هذا فضلًا عن صعود الأسماء التي لا يتردد القارئ والمتابع الحصيف للنشرات الإعلامية في وصفها بـ«المنفوخة».

ليس الإهمال بظاهرة جديدة أو غريبة على الحياة العامة في التاريخ العربي القريب أو البعيد، إنما عنفها واستشراؤها اليوم ناتج عن الشروط الجديدة التي يفرزها أسلوب الحياة المعاصرة حول إمكانية الوصول والنفاذ إلى شريحة أوسع، إنها في الغالب شروط القيمة الإعلامية للعمل الإبداعي، أي بمعنى أدق: شروط السوق، مع انسحاب وتراجع تلقائي لأهمية القيمة الفنية للتجربة كمرتكز للصيت الأدبي ومعيار أساس للجدارة والاستحقاق. ولكن بمجرد ربط الأدب بالدعاية سنجد أنفسنا أمام مفارقة مثيرة بالعودة إلى تاريخ الشعر العربي القديم، منذ الجاهلية حتى أواخر ليالي الدولة العباسية، حيث كان الأدب ذاته، متمثلًا في الشعر، هو وسيلة الدعاية الأبلغ (وأنا لست هنا بصدد الوقوف على المفترق الأخلاقي في علاقة الشاعر العربي القديم بالسلطة)، الأمر الذي عزز عملية التجاذب بين الشاعر والخليفة، ونأي الشاعر بنفسه خارج هذه المماحكة كان سيهدد حياته كما في حالة الشعراء الصعاليك والمتصوفة، أو أنه في أكثر الظروف هوانًا سيمحي أثره الشعري من مدونة الشعر العربية الزاخرة بالتناقضات. أما اليوم، وقد خرج الشاعر من دائرة اهتمام السلطة، أو بمعنى أصح أن الشعر لم يعد فاعلًا سياسيًا كما كان في الماضي، متخليًا عن منابر السلطة ليكسب نفسه في العمق، فإنه يدخل في مماحكة من نوع جديد مع الإعلام والصحافة ودور النشر، التي هي معظمها ينطلق من جهة السلطة ودائر في فلكها، في أغلب الأقطار العربية.

ومن المهم بمكان التنويه إلى أن هذه الظاهرة في صورتها العالمية تأخذ نماذج مقاربة لنماذج العربية، أي أنها ليست ظاهرة محصورة في حياتنا الثقافية في العالم العربي وحسب، خاصة مع طغيان دور الأداة الإعلامية وتوغلها في شتى أنحاء السوق الأدبية والفنية حول العالم، بحيث يواصل الإعلام صناعة الرمز الأدبي، على غرار صناعته للرموز السياسية، مما يرفعها في أبهة حصينة ضد أي نقد أو شبهة خارجية. لكن الزمن وحده كفيلٌ غالبًا بتعرية الأوهام وكشف الجوانب الحرجة في سيرة الرمز الأدبي التي قد تطعن مباشرة في حقيقة «المجد الأدبي» الذي أشرف على بنائه، وقد يطول هذا الزمن أو يقصر تبعًا لما يُقيضه من الفرص التاريخية لجلاء الحقيقة. ففي أغسطس من العام المنصرم هز تحقيق صحفي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية أوساط المجتمع الثقافي في الغرب: «أستاذ الترويج الذاتي: الرسائل تكشف كيف» كافح فيليب روث لتحصيل الجوائز»1. مثّل المقال صدمة فكرية وعاطفية لدى شريحة واسعة من قراء الكاتب الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للآداب، إذ تناول المقال أساليب الاستفزاز والإغراء التي انتهجها الكاتب الأمريكي من خلال الرجوع إلى أرشيف محادثاته ورسائله مع الناشرين ولجان التحكيم، وذلك من أجل تكريس صورته الأدبية في سبيل الحصول على المزيد من الاعترافات والألقاب. المفاجأة التي طرحت علامات استفهام كثيرة، وخلقت معها مناخًا من الريبة والاشتباه لدى شريحة واسعة من القراء حول كثير من نجوم الثقافة العالمية الذين شهد تاريخهم المهنيّ صعودًا صارخًا في حقب معينة دون تفسير واضح.

لكن ظاهرة «الانتفاخ الثقافي» مقابل الإهمال ستكون بالطبع ذات وطأة أقسى وأعنف في حالتنا العربية حيث يغيب دور المؤسسات الثقافية ومراكز البحث والجامعات في التقصي الموضوعي لآثار التجارب الجديرة وإنصافها، وحيث تُطلق جوائز الدولة التشجيعية وتمنح الأوسمة بناءً على الأسلوب التقليدي لاستقطاب السلطة للمثقف، أو يترك الأمر -في أحسن الأحوال - لأمزجة وأهواء الشارع المتقلبة وفقًا لآخر منجزات الموضة الأدبية والفنية، التي هي مجددًا صنيعة ودعاية إعلامية. لذا نجد أدونيس مثلًا، وهو أحد ألمع رموز الحداثة الشعرية والفكرية في العالم العربي، وبالرغم مما يحظى به من اعتراف نخبوي وشعبي (نسبيًا)، يصرّح بالقول في أحد حواراته التلفزيونية بأنه لا معنى فنيًا للجماهيرية في الشعر. كما يلمح أدونيس في حوار آخر بأن الجماهير قد تكون عبئًا على «انتعاش» الشعر في الأعماق: «حسنًا يفعل العرب، اليوم، ينصرفون عن الشعر ويذهبون إلى الرواية. إنهم في ذلك «ينعشونه» خلافًا لما يُظن: يتيحون له أن يربح في العمق ما يخسر على السطح». ليس هذا رأي أدونيس فحسب بل هو اعتقاد راسخ لدى كثير من المعاصرين المنهمكين في العمل الإبداعي دون خوف أو رجاء من توقعات المتلقي، منادين دائمًا بأنهم «لن يسمحوا للحياة بأن تتدخل في الفن»... والغريب أن يكون فيلب روث نفسه هو صاحب هذا النداء!

إن محاولة تفكيك علاقة الشارع بالآداب والفنون من أجل اكتشاف توقعات الجماهير تتطلب الولوج في دهاليز نفسية معقدة وخاصة، وأظن أن هذا السبب ذاته يجعل من عملية صناعة «المجد الأدبي» أكثر تعقيدًا مقارنة بما يتطلبه التسويق لأي مشروع تجاري آخر، حيث تكون متطلبات المستهلكين مدروسة وواضحة مسبقًا. إلا أن الدفع بعملية الصناعة الأدبية لعالم التسويق أصبحت مخيفة بقدر ما هي ضرورة من ضرورات الثقافة العصرية.

A master of self-promotion: letters reveal how Philip Roth ‘hustled’ for prizes, Dalya Alberge, The Guardian, 29 Aug 2021.

سالم الرحبي كاتب وشاعر عماني