لا حاجة البتة للعودة إلى الدراسات والنظريات التي تناولت وفسرت الدور المهم للتربية بمختلف مؤسساتها في صياغة شخصية الفرد وتكوين سمات هذه الشخصية وملامحها وفق مؤشرات محددة أهمها القوة والتأثير والإبداع والإيجابية أو في الجانب المقابل التذبذب والسلبية وانعدام التأثير وما يتبعها من سمات في الغالب تصنع شخصية باهتة مأزومة ومريضة تعاني من خلل نفسي عميق.

لسنا في حاجة فعلًا لوضع افتراضات متعددة، إذا التفتنا إلى ناحية مهمة تتصل بطبيعة البيت -المكان- البيئة التي جاء منها الفرد، هل كانت محفزة أو مُحبطة، بيئة أُعطي فيها فرصة اختيار القرار وتكوين تصوره الخاص لما يدور حوله أم حُرم منها، بيئة تستنهض الهِمم وتُذكي روح الابتكار والرغبة في إثبات الوجود أو تقف عاجزة عن تحقيق ذلك.

في السنوات الأولى من الدراسة الجامعية، لاحظت بصورة شخصية تأثير تنوع البيئات التي أتى من خلفيتها الطلاب على شخصياتهم بصورة جلية، والذي ظهر مباشرة في طريقة تعاملهم مع الآخر، ذلك الآخر الذي هو الزميل/ المدرس / الإداري.

لم يكن من الصعوبة معرفة الطالب الذي جاء من بيئة متعلمة ومثقفة وواعية، إذ بدا واضحًا الكم الهائل من المعلومات والمعارف التي يمتلكها ومستوى الإحاطة والوعي بما يجري حوله، من خلال طريقة حديثه وانفتاحه على الأفكار المتعددة والجديدة التي كان بعضنا لا يقبل حتى النقاش فيها.

هذه الشخصية بالذات اتسمت بالقدرة على الحوار، وامتلاك الرؤى الصحيحة وتقبل الرأي المُخالف والتعاطي معه والنقاش الحر حول كل شيء دون تشنج، وهذا دليل لا يقبل الشك أنها تشّربت هذه السمات من بيئتها حيث يُسمح للفرد داخلها بإبداء رأيه ويتم تقبل وجهة نظره دون أن يقع تحت سياط التقريع والزجر واللوم أو حتى وصفه بأنه "يتجاوز حدوده".

هناك شخصية أُخرى أتت من عالم منغلق اتسمت بصعوبة اندماجها، وعدم قدرتها على استيعاب الوضع الجديد حدّْ إصابتها بالاكتئاب، فيما أظهرت الشخصية التي ترعرعت في أسرة ميسورة ديناميكية واضحة انفتاح مدروس ومنظم على علاقات "نوعية" كما ظهر ذلك التميز من خلال طبيعة اختيار الكلية والتخصص.

وهنا أتساءل: كيف يُراد لشخص أن يكون قادرًا على إدارة أُسرة أو مجموعة عمل، أو تقديم رأي صحيح قائم على قراءة دقيقة لحيثيات مشكلة ما، ووالداه لم يشتغلا على بناء شخصيته، ولم يُشرباه مهارات القيادة التي تقوم على الانضباط النفسي والخُلقي، ولم يأخذا يومًا برأيه، بل - بالنسبة للشاب مثلًا- يحظر عليه الحديث في مجلس الرجال لسماع ما يدور فيه من قضايا بحجة حداثة سنه، أو بسبب حضور كبار السن أو للاعتقاد أنه إذا أدلى بدلوه لن يأتي بخير.

عندما يُصر رب الأسرة أب / أُم على أن يقوم هو شخصيًا بكافة الأعمال المُهمة التي تتصل بالأسرة ، ويتخذ هو كل القرارات المهمة بصورة فردية لحججٍ مختلفة، فإنه بذلك يصنع من ابنه أو ابنته شخصية مهزوزة ومرتبكة لا تمتلك قوة اتخاذ القرار ولا ناصية القيادة، ولهذا توصم هذه الشخصية بأنها شخصية تُقاد ولا تقود، شخصية من زجاج تتحطم عند الاصطدام بأول عقبة أو بأي واقع جديد.

هذا الخلل العميق إضافة إلى أنواعِ من الخلل الأُخرى سيظهر فيما بعد عبر تعامل الشخص المضطرب والعدواني مع من حوله، سواء في محيط أسرته أو كزملاء عمل، أو عبر تعاطيه مع أي مجموعات أُخرى مؤقتة أو مستمرة كمجموعة الجيران مثلًا فعادة ما تظهر شخصية هذا الفرد في المشهد بأنها تعاني نقصًا ما ومتسلطة ومغرورة ونرجسية تسير وفق ما جاء في القرآن الكريم على لسان فرعون "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" وقلقة كذلك وعاجزة عن السير بثقة وفق رؤية واضحة المعالم.

وقد تبدو هذه النوعية من الشخصيات في أحايين كثيرة مهلهلة عديمة الثقة بنفسها لا تملك القدرة على حلحلة أصغر إشكال قد يعترض طريقها.

الحقيقة التي لا تقبل الشك، أن شخصية الفرد إنما هي نتاج مباشر لطبيعة التربية التي تلقاها في أسرته، والأسرة هي من تصنع منه شخصيته المؤثرة والفاعلة، أو من تعطل فيه إمكاناته وقدراته، هذا العُطل الذي قد يحتاج إلى علاج جذري وحاسم قد يستمر لسنوات طِوال إذا ما أُريد منه الخلاص من عُقده العصية على الفهم أو المزمنة ما صغُر منها وما كبُر.