في طفولة بعيدة، كان لديّ دفترُ مذكرات مملوء بتفاصيل يومياتي التي أعدها بمثابة الأسرار، وبسبب فوضى الخيال غير المُقلم بعد، كان كلّ أملي أن يقرأ مذكراتي أناسٌ يأتون بعدي بمئات السنين، فوضعتُ الدفتر في صندوق ودفنته في ظهيرة قائظة، ثمّ رسمتُ خارطة للعثور عليه، وبعد أشهرٍ قليلة ندمتُ وحاولتُ استعادته، لكن الخريطة الرديئة لم تُسعفني، فضاع مني دفتري إلى الأبد.
ثمّة ما يجعل تلك الذكرى البعيدة تستيقظ، وأنا أقرأ عن الصيادين الجامعين قبل 9 آلاف سنة، أولئك الذين تركوا طبعات أيديهم في كهف الأيدي في الأرجنتين، "تبدو الأيدي الميتة منذ آمادٍ بعيدة وكأنّها تحاولُ الوصول إلينا". تلك الصورة أثارت بداخلي عواطف جياشة حول رغبة الإنسان الغامضة بترك تلويحته لمن سيأتي بعده.
تلك الحيلُ الباكرة، تُذكرني بالكلمات التي اختارت أن تتجاوز حيزها الزمني وظرفها، لتخلد وتبقى دون تخطيط مُسبق من قبل كاتبيها الذين يضطرون أحيانا للكتابة حماية لأنفسهم من مخلبٍ شرس، أو مداراة لهشاشة قاتلة.
يُخالجني شعورٌ دائم بأنّ الكُتاب والفنانين هم الأوفر حظا، حيث يمكن لصراخهم وغضبهم ومآسيهم أن تأخذ صيغا لانهائية.
أوسكار وايلد، كتب 80 صفحة ضمن أوراق السجن الزرقاء، "لا ليدافع عن سلوكه بل لكي يوضحه"، بعد أن سُلبت منه الحياة الصافية، وزُجّ به في السجن. كتب رسالة غير نمطية عام 1897 فتحولتْ إلى سيرة شديدة الجاذبية. "تلك الصراحة القاسية ولوم الذات وإبكائها دون تحفظ"، وذلك التحول اليائس من أوسكار العظيم إلى مجرد رقم (3.3.ج)!
ورغم أنّ أوسكار كتب بأنّ "العالم لن يعرف شيئا عن طبيعة كلمات الأسى أو العاطفة أو الندم أو اللامبالاة" التي كتبها، ظنا منه أنّ الرسالة لن تتجاوز المرسل إليه إلا أنّ كلماته تُقرأ وتترجم إلى يومنا هذا.
ولأنّ الكلمات تُعيد القصص المنسية إلى الحياة، سنتذكر أيضا غرق إحدى السفن الهولندية قرب رأس مدركة عام ١٧٦٣م. حيث بقيت تفاصيل هذه الحادثة غامضة، حتى عُثر على المذكّرات التي كتبها أحد مساعدي قبطان سفينة "امستلفين"، وهو المدعو كورنيليس إيكس، حيث "رسم بدقة متناهية تفاصيل رحلة المشي الطويلة والمُضنية التي قطعها الناجون على طول الساحل الصحراوي العُماني القائظ"، ولم تنل تلك المذكرات الاهتمام إلا بشكل متأخر. ويا للدهشة.. حادثة عمرها يربو على 250 عاما تستيقظُ لنقرأها مجددا بسبب مذكرات أحدهم، لم يكن ليظن في خياله -ربما- أننا سنقرأها يوما، وستترجم مذكراته للغة العربية، بل وفي البلد الذي وقعت فيه الحادثة!
من كان يظن بإمكانية تحول الرسائل الشخصية الحميمية إلى وثيقة تتجاوز المُرسل إليه لتمر عليها أعين ولغات العالم. الأمر حقا فوق تصور الخيال والظنون. ذلك الإيقاع الزمني الذي يتكثف ليصنع هالته العظيمة، فهل ظنّ الطفل ابن الثانية عشرة أنّ رسالته الأولى لأمّه ستكتسب كل هذه الأهمية لتبقى كوثيقة إلى اليوم؟ يمكننا أن نتيقن من ذلك عندما نقرأ "الرسائل" التي تداولها دوستويفسكي مع أفراد عائلته في القرن التاسع عشر ناقلا عذابات الفرد وفرحه، جوعه ورغباته وشقائه وانتصاراته القليلة، في مجلدين يضمان 250 رسالة تتناول جميع مراحل حياة الكاتب، منذ الرسالة التي أرسلها لأمّه وحتى الرسالة التي أملاها على زوجته وهو على سرير الموت.
المراسلات بين طرفين يمكن أن تتحول أيضا لشيء آسر وكاشف عن فترة زمنية بكل ظروفها وتغيراتها السياسية والاقتصادية، كما حدث بين الكاتبة الأمريكية هيلين هانف التي أخذتْ تُكاتب متجر الكتب المستعملة في لندن بواسطة فرانك دويل لمدة عشرين عاما، وذلك لتأمين الكتب المستعملة التي لا تجدها في نيويورك، فوثقتْ هانف تلك المراسلات ضمن كتاب "شارع تشيرنغ كروس 84"، في عام 1949، وعبر تلك المراسلات الشيقة عثرنا على تفاصيل حياة كاملة.
لا نعرف على وجه الدقة، لماذا قدرُ بعض الكلمات أن تموت بينما الأخرى تعيش وتزهر لتهز مشاعر أجيال عقب أخرى، دون تخطيط مسبق، وكأن قدر بعض التجارب الإنسانية أن تكون كطبعة أيدي الصيادين التي ستظل تلوح طويلا لمن سيأتي.
ثمّة ما يجعل تلك الذكرى البعيدة تستيقظ، وأنا أقرأ عن الصيادين الجامعين قبل 9 آلاف سنة، أولئك الذين تركوا طبعات أيديهم في كهف الأيدي في الأرجنتين، "تبدو الأيدي الميتة منذ آمادٍ بعيدة وكأنّها تحاولُ الوصول إلينا". تلك الصورة أثارت بداخلي عواطف جياشة حول رغبة الإنسان الغامضة بترك تلويحته لمن سيأتي بعده.
تلك الحيلُ الباكرة، تُذكرني بالكلمات التي اختارت أن تتجاوز حيزها الزمني وظرفها، لتخلد وتبقى دون تخطيط مُسبق من قبل كاتبيها الذين يضطرون أحيانا للكتابة حماية لأنفسهم من مخلبٍ شرس، أو مداراة لهشاشة قاتلة.
يُخالجني شعورٌ دائم بأنّ الكُتاب والفنانين هم الأوفر حظا، حيث يمكن لصراخهم وغضبهم ومآسيهم أن تأخذ صيغا لانهائية.
أوسكار وايلد، كتب 80 صفحة ضمن أوراق السجن الزرقاء، "لا ليدافع عن سلوكه بل لكي يوضحه"، بعد أن سُلبت منه الحياة الصافية، وزُجّ به في السجن. كتب رسالة غير نمطية عام 1897 فتحولتْ إلى سيرة شديدة الجاذبية. "تلك الصراحة القاسية ولوم الذات وإبكائها دون تحفظ"، وذلك التحول اليائس من أوسكار العظيم إلى مجرد رقم (3.3.ج)!
ورغم أنّ أوسكار كتب بأنّ "العالم لن يعرف شيئا عن طبيعة كلمات الأسى أو العاطفة أو الندم أو اللامبالاة" التي كتبها، ظنا منه أنّ الرسالة لن تتجاوز المرسل إليه إلا أنّ كلماته تُقرأ وتترجم إلى يومنا هذا.
ولأنّ الكلمات تُعيد القصص المنسية إلى الحياة، سنتذكر أيضا غرق إحدى السفن الهولندية قرب رأس مدركة عام ١٧٦٣م. حيث بقيت تفاصيل هذه الحادثة غامضة، حتى عُثر على المذكّرات التي كتبها أحد مساعدي قبطان سفينة "امستلفين"، وهو المدعو كورنيليس إيكس، حيث "رسم بدقة متناهية تفاصيل رحلة المشي الطويلة والمُضنية التي قطعها الناجون على طول الساحل الصحراوي العُماني القائظ"، ولم تنل تلك المذكرات الاهتمام إلا بشكل متأخر. ويا للدهشة.. حادثة عمرها يربو على 250 عاما تستيقظُ لنقرأها مجددا بسبب مذكرات أحدهم، لم يكن ليظن في خياله -ربما- أننا سنقرأها يوما، وستترجم مذكراته للغة العربية، بل وفي البلد الذي وقعت فيه الحادثة!
من كان يظن بإمكانية تحول الرسائل الشخصية الحميمية إلى وثيقة تتجاوز المُرسل إليه لتمر عليها أعين ولغات العالم. الأمر حقا فوق تصور الخيال والظنون. ذلك الإيقاع الزمني الذي يتكثف ليصنع هالته العظيمة، فهل ظنّ الطفل ابن الثانية عشرة أنّ رسالته الأولى لأمّه ستكتسب كل هذه الأهمية لتبقى كوثيقة إلى اليوم؟ يمكننا أن نتيقن من ذلك عندما نقرأ "الرسائل" التي تداولها دوستويفسكي مع أفراد عائلته في القرن التاسع عشر ناقلا عذابات الفرد وفرحه، جوعه ورغباته وشقائه وانتصاراته القليلة، في مجلدين يضمان 250 رسالة تتناول جميع مراحل حياة الكاتب، منذ الرسالة التي أرسلها لأمّه وحتى الرسالة التي أملاها على زوجته وهو على سرير الموت.
المراسلات بين طرفين يمكن أن تتحول أيضا لشيء آسر وكاشف عن فترة زمنية بكل ظروفها وتغيراتها السياسية والاقتصادية، كما حدث بين الكاتبة الأمريكية هيلين هانف التي أخذتْ تُكاتب متجر الكتب المستعملة في لندن بواسطة فرانك دويل لمدة عشرين عاما، وذلك لتأمين الكتب المستعملة التي لا تجدها في نيويورك، فوثقتْ هانف تلك المراسلات ضمن كتاب "شارع تشيرنغ كروس 84"، في عام 1949، وعبر تلك المراسلات الشيقة عثرنا على تفاصيل حياة كاملة.
لا نعرف على وجه الدقة، لماذا قدرُ بعض الكلمات أن تموت بينما الأخرى تعيش وتزهر لتهز مشاعر أجيال عقب أخرى، دون تخطيط مسبق، وكأن قدر بعض التجارب الإنسانية أن تكون كطبعة أيدي الصيادين التي ستظل تلوح طويلا لمن سيأتي.