(يعتمد الأطباء عادة على قاعدة بسيطة: من يأتي أولا، ينال الخدمة أولا. وبهذا تختفي المفاضلة على أساس العدد)

لأن الأعطال الميكانيكية لا تتسبب إلا في نسبة ضئيلة من حوادث السيارات، يعتقد الكثيرون أن استخدام المركبات ذاتية القيادة ستقلل حوادث المرور بشكل ملحوظ. لكن الحوادث مع ذلك لابد وأن تحدث، وأمام مطوري السيارات وصناع القرار مهمة صعبة تتمثل في تحديد المسار الإجرائي في الحالات التي يكون فيها تجنب وقوع الحوادث غير ممكن. تخيل معي أنك تقود السيارة ملتزما بمسارك، وفق السرعة القانونية. فجأة تظهر مجموعة من المشاة الذين يقطعون الطريق. أمام السيارة ذاتية القيادة الآن أجزاء من الثانية لتقرر أن تواصل السير في الطريق نفسه وتصطدم بشخص واحد، أو تغير المسار وتصطدم بشخصين.

في بيان لها حول الموضوع لم تصرح اللجنة الأخلاقية الألمانية عن العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار، لكنها صرحت عن الذي لا يجب أخذه في الاعتبار، أي السمات الشخصية للأفراد مثل العمر، الجنس، العرق، ومستوى الذكاء. وهي مقاربة - أي أخذ هذه الخصائص في الاعتبار - اختبرتها جامعة أم آي تي. في تجربة افتراضية على الأنترنت لها شارك فيها حوالي 490 ألف شخص حول العالم - أتذكر أنني أيضا شاركت؛ لأن المشاركة كانت مفتوحة للجميع - أُسند للمشاركين مهمة اتخاذ القرار الأخلاقي حول من ينجو ومن يموت. لم يتبين فقط أن المشاركين فاضلوا على أساس العمر والجنس فقط، ولكن تبين كذلك أن للمفاضلات علاقة بالبلد وثقافته. فالثقافات التي تُقدر الحكمة وتُعرف باحترام كبار السن اختارت إبقاءهم، أما الثقافات الفردانية فاختارت استبقاء الأصغر سنا. هذه الثيمة - أي ارتباط القرار الأخلاقي بالثقافة - تظهر في مناسبات أخرى أيضا: مثل التصويت لمن تذهب اللقاحات في حال لم تتوفر للجميع.

والآن، وبما أن المشرعين يميلون لاستبعاد الصفات الشخصية عند اتخاذ القرار لضمان التعامل العادل مع الجميع، كيف بالإمكان حل هذه المعضلة؟

معضلة الترولي

تتلخص مشكلة الترولي في السيناريو التالي: تخيل أن قطارا أو عربة تسير مسرعة على سكة الحديد متجهة مباشرة نحو مجموعة من الناس الذين حصل وكانوا في مسار القطار (لنقل أربعة أشخاص). أنت تراقب من أعلى، وتلاحظ أنك تقف بجانب العتلة المسؤولة عن تغيير مسار القطار. تلاحظ أيضا شخصا واحدا يقف في المسار الآخر، وإذا ما قررت أن تغير مساره فتسبب في دهس ذلك الشخص، لكنك أيضا ستكون قد أنقذت الأربعة. ماذا تفعل؟

تقترح النفعية (Utilitarianism) أن القرار الأخلاقي يجب أن يرتبط بالصالح العام، وما يعنيه الصالح العام في هذا السياق هو تحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الأفراد. وفق هذا المذهب، تخبرنا النفعية أن على السيارة بلا شك - إذا ما خُيرت بين دهس شخص أو مجموعة مشاة - أن تغيير المسار لتجنب العدد الأكبر من المشاة، حتى لو كانت المفاضلة بين شخص بريء يمشي على الرصيف، ومجموعة تقطع الطريق من غير المكان المخصص.

بالطبع تتخذ هذه المعضلة أشكالا عدة - متطرفة إن شئت. فمثلا هناك سيناريو تختار فيه بين الدفع بشخص ما من فوق الجسر لإيقاف القطار، أو عدم التدخل وتركه يسير بالأربعة أشخاص إلى حتفهم.

الاختيار العشوائي

زميل لي يقدم رسالة الماجستير في هذا الموضوع، مقترحا أن يكون الاختيار عشوائيا تماما؛ لأن هذا برأيه يُحقق مبدأ تساوي الفرص. على النحو نفسه الذي تُوزع فيه التذاكر المجانية، أو ويتم اختيار الفائزين عبر القرعة. ما جعلني أفكر إن كان هذا حلا معقولا، وما إن كان التبرير الذي يقدمه مقنعا.

أفكر مثلا عندما يأتي إلى المستشفى مريض في حالة حرجة وبحاجة للخضوع العاجل لعملية جراحية، فالمناوبون عادة ما يقبلونه، إذ يبدو لهم ولنا أيضا أنه التصرف «الصحيح»، التصرف الأخلاقي. رغم علمنا أن العمليات الجراحية متطلبة، وأن شغل الطاقم سيعني أن عدد أكبر من المرضى لن ينالوا العناية الطبية التي يحتاجونها، فقط لأن الطاقم الطبي اختار علاج ذلك الشخص.

مثال آخر يجادل داعموه أن النفعية لا تسعف في اتخاذ القرار الصحيح دائما. وهو إيجاد علاجات للأمراض النادرة. فأنت حين تُشغل المختبرات والباحثين بإيجاد علاجات للأمراض النادرة (التي تصيب مجتمعة أقل من 4% من سكان الكوكب)، فأنت تصب مصادرك لخدمة الأقلية. فوق ذلك فالعلاجات التي تطور غالبا ما تكون ثمينة، لعل مرد ذلك إلى تدني الطلب عليها. يستند داعمو الأبحاث المتعلقة بالأمراض النادرة على حجتين: الأولى، أن المعاناة الإنسانية غير قابلة للمقارنة، ولكل إنسان الحق في الحياة. ثانيا، أن لهذه الأبحاث - وإن كانت تخلو من المنافع الاقتصادية - لها فوائد علمية، إذ تعلمنا شيئا جديدا عن أجسامنا، وعن طبيعة الأمراض.

يعتمد المعالجون الطبيون عادة على قاعدة بسيطة: من يأتي أولا، ينال الخدمة أولا. وبهذا تختفي المفاضلة على أساس العدد. قاعدة لها طبيعة عشوائية أيضا. وإذا ما أخذنا هذا الدرس وطبقناه على السيارات ذاتية القيادة فسيعني شيئا مثل: عدم أخذ العدد في الاعتبار؛ لذا عدم تغيير المسار أيا كان عدد المشاة. وبهذا نضمن تساوي الفرص. ما رأيكم؟

* كاتبة ومترجمة عمانية مهتمة بفلسفة العلوم