مع اتفاق المدارس الإسلامية على مصدرية السنة إلا أنها محل جدل قديم وحديث منذ وفاة الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - لمّا كثر الحديث عنه، ولهذا اضطر عمر [ت 23هـ] كما يذكر شمس الدين الذهبي [ت 748هـ/ 1348م] إلى الإقلال من الرواية حيث يقول: «وهكذا هو عمر - رضي الله عنه - يقول: أقلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزجر غير واحد من الصحابة عن بث الحديث، وهو مذهب لعمر ولغيره»،
ثم يعقّب الذهبي عن الوضع الذي حدث بسبب الابتعاد عن سنّة عمر في التقليل من الرّواية، حيث دخل الغث والسمين منسوبا إلى الإسلام بدعوى صحة الإسناد، فيقول: «فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه، مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غضّ لم يشب، فما ظنّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، [فالأحرى] أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضّعيف؛ بل يروون والله الموضوعات والأباطيل، والمستحيل في الأصول والفروع، والملاحم والزهد، نسأل الله العافيّة» [سير أعلام النبلاء، 2/189]، وكلام الذّهبيّ له وجاهته؛ لأنّه من مدرسة أهل الحديث، ومن أئمّة أهل الحديث خصوصا في الجرح والتّعديل.
هذه الجدليّة لم تتوقف عند قضية السنة ومفهومها وأسانيدها؛ بل امتدت إلى مدار السّنة، ومحاولة التفريق بينها وبين الرّواية، وهنا أشير إلى نصين متباعدين زمنا، ومختلفين مذهبا وتوجها مدرسيّا، إلا أنّ بينهما توافق في تحقيق المدار من السّنّة، الأول للعالم العماني الإباضي خميس بن سعيد بن علي الشقصي [ت 1090هـ/ 1679م]، كما قرر ذلك في كتابه «منهج الطالبين وبلاغ الراغبين»، والثاني للعلّامة الشّاميّ من جبل لبنان، والمصري استقرارا، محمد رشيد رضا [ت 1935م]، وهو شافعي المذهب نشأة ودراسة، إلا أنّه ذهب بعد استقراره في مصر، وتأثره بالإمام محمّد عبده [ت 1905م] إلى عدم التمذهب، فكان مستقلا في رأيه، ومع قضاء أكثر عمره مناصرا للمدرسة الإصلاحيّة في مصر، إلا أنّه تأثر في آخر عمره - كما يذكر العديد من المؤرخين - بالمدرسة السّلفيّة الحديثيّة، وهذا يظهر أيضا من فتاويه المتأخرة.
يرى الشّيخان أنّ مدار الوفاق بين المسلمين بالرّجوع إلى الكتاب أي القرآن والسّنة المجتمع عليها بين المسلمين، ويرى الشقصي أنّ هذه السّنة لا تخرج عن القرآن الكريم، أي لها أصل من القرآن، ومقرونة به، ولا تقرأ معزولة عنه، فكأنّه يميل إلى أنّ السّنّة غير مستقلة بذاتها، بل هي مندرجة تحت كليات القرآن الكريم، فيقول: «فوجب اتباع السّنّة بكتاب الله تعالى، والإجماع أيضا علم بكتاب الله تعالى، وبالسّنّة الّتي هي من كتاب الله تعالى» [منهج الطّالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّ «الأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسّنّة العمليّة الّتي كان عليها السّلف الصّالح بلا خلاف» [فتاوى رشيد رضا، 1/ 111].
ويطلق الشقصي على السّنّة بالسّنّة المجتمع عليها، بينما يطلق رشيد رضا عليها بالسّنّة المتفق عليها، ويرى الشقصي أنّ السّنّة المجتمع عليها هي «الّتي لا تحتاج إلى البحث عن طلب صحتها، لإشاعتها عند الرّواة، وأهل التّأويل، وموافقتها لحكم التّنزيل» [منهج الطّالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّ هذه السّنة المتفق عليها هي السّنة العملية بين المسلمين جميعا، أي كسنّة الصّلاة وأوقاتها وركعاتها.
ولهذا يرى الشقصي أنّ المقابل للسّنة المجتمع عليها هي السّنّة المختلف عليها، وهي «الّتي لم تبلغ الكل بعلمها، ويقع التّنازع بين النّاس في صحتها، فلذلك تجب الأسانيد، والبحث عن صحتها، ثمّ يقع التّنازع في تأويلها، إذا صح نقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان رجوعهم فيها إلى كتاب الله تعالى» [منهج الطالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّها تتمثل في الرّواية القوليّة الآحاد، حيث يعلل ذلك بقوله: «ولم يسلم المسلمون ممّا جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التّأويل، والرّوايات الأحاديّة، وأهواء الرّؤساء، والتّعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا إلى الوفاق بالعودة إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسّنّة العمليّة المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضا في الرّوايات القوليّة الآحاديّة» [فتاوى رشيد رضا، 1/ 112].
وما ذكره الشّقصيّ ورشيد رضا يتوافق مع تقرير العالم الشيعي محمد حسين فضل الله [ت 2010م]، إذ ينطلق فضل الله من رواية الإمام جعفر الصّادق [ت 148هـ] «كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسّنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»، قلتُ: وتعبير الصّادق «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» دقيق جدّا، فليس كلّ حديث سنّة، كما أنّه ليس كل رواية أو خبر سنّة أيضا.
ويعلل فضل الله كلام الصّادق بقوله أنّه كان يتحدّث «في معرض التحذير من أولئك الوضاع المرتزقة الّذين ابتلي بهم الإسلام في كثير من فتراته، فدّسوا ما شاءت لهم أغراضهم في ثنايا الأحاديث الّتي تتناول شؤون الإسلام عقائد وأحكاما، حتّى عادت الأحاديث تركة مثقلة بالدس والتّحريف ...» [قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 56]، علما أنّ الصادق عاش في المرحلة الأولى من طبقة كبار التابعين، فنحن نتحدّث عن فترة مبكرة في صدر الإسلام، أي هذا قبل الانفجار الروائي والأخباري في العصر العباسيّ، مع أنّ ابن تيميّة [ت 727هـ] يرى أنّ هؤلاء قبل تدوين كتب الحديث أعلم بالسّنة ممّن جاء بعدهم كما يقول: «بل الّذين كانوا قبل جمع هذه الدّواوين - أي كتب الصحاح والمسانيد - كانوا أعلم بالسّنة من المتأخرين بكثير؛ لأنّ كثيرا ممّا بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكليّة» [رفع الملام عن الأئمّة الأعلام، ص: 18].
ويحاول أن يجيب فضل الله عن آلية العرض على الكتاب، وهي جدليّة أخرى ليس محلّ بحثها في هذا المقال، بيد أنّه يرى أنّ خطوط القرآن وتشريعاته واضحة «في الحياة والنّفس والاجتماع والنّظام الكونيّ»، فإذا التقت هذه الأحاديث بهذه الخطوط والمفاهيم الوضاءة «حسبنا بهذا دليلا على صدقها وأصالتها وبعدها عن الزّور والتّزوير»، أمّا إذا كان غير ذلك «فلا نحتاج ... إلى بحث في بطلانه وكذبه» [قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 57 - 58]، أي لا نحتاج للاشتغال بالسّند فالمسألة واضحة؛ لأنّ القرآن خطوطه واضحة.
ويمكن إجمال مدار السّنّة بين الشقصي ومحمد رشيد رضا أولا أنّها لا تخرج عن كتاب الله تعالى من جهة، ولا تتعارض مع كتاب الله تعالى من جهة ثانية، فيكون القرآن مهيمنا ومصدّقا معا، وفي الوقت نفسه يكون منطلقا لفهم ما دونه.
والأمر الثّاني يتمثل في السّنّة العمليّة المجتمع عليها عند الشقصي، والمتفق عليها عند رشيد رضا، بحيث تندرج تحت كليات القرآن، كالوضوء والصّلاة والحج، إلا أنّ الشقصي لم يقيدها بالتّواتر، بيد أنّ رشيد رضا قيّدها بالتواتر العملي إلى يومنا هذا.
ويترتب على المدارين أنّ السّنّة المجمع/ المتفق عليها يدخلان في دائرة الإلزام الدّينيّ، ويترتب عليهما أحكام الدّين القطعيّة، بينما السّنة المختلف فيها/ الآحاد تدخل في مسائل الرأي، ولا يترتب عليه تكفير ولا تفسيق، فلا تدخل في أصول الدّين، ومن أخذ بها أو أنكر منها فالفضاء واسع بين المسلمين جميعا، ولهذا درج بعضهم في التّفريق بين أصول الدّين وأصول المذهب، فالثّاني واسع والأول ضيّق، لا يخرج عن القرآن ومصاديقه المجتمع عليها.
كما يترتب على المدارين تضييق دائرة المقدّس/ القطع، وتوسيع دائرة الرّأي/ الظّن، وهذا بدوره يخلّص الأمّة من تكفير وتفسيق بعضها، ويعطي مساحة للبحث والنّقد، دون اتّهام الآخر وتخوينه بمصطلحات كإنكار السّنّة والزّندقة والابتداع.
كما يترتب عليه أيضا البحث بعد الكتاب في المشترك بين الأمّة، والانطلاقة منها، فلا يمكن لأمّة أن يخفى عليها ما يظهر لآخرين، وهم جميعا خرجوا من مشكاة واحدة، فدلّ أنّ المختلف من الرأي وليس من الدين، ومن الآحاد وليس من التواتر، ومن الظّن وليس من القطع، وعليه إذا أخرجنا هذه المساحة التي يتصارع حولها المسلمون، وأخرجنا الفهومات وجعلناها حالة طبيعية، لاستقر الجميع على كلمة سواء، ولوسعهم الدّين جميعا.
ثم يعقّب الذهبي عن الوضع الذي حدث بسبب الابتعاد عن سنّة عمر في التقليل من الرّواية، حيث دخل الغث والسمين منسوبا إلى الإسلام بدعوى صحة الإسناد، فيقول: «فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه، مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، بل هو غضّ لم يشب، فما ظنّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، [فالأحرى] أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضّعيف؛ بل يروون والله الموضوعات والأباطيل، والمستحيل في الأصول والفروع، والملاحم والزهد، نسأل الله العافيّة» [سير أعلام النبلاء، 2/189]، وكلام الذّهبيّ له وجاهته؛ لأنّه من مدرسة أهل الحديث، ومن أئمّة أهل الحديث خصوصا في الجرح والتّعديل.
هذه الجدليّة لم تتوقف عند قضية السنة ومفهومها وأسانيدها؛ بل امتدت إلى مدار السّنة، ومحاولة التفريق بينها وبين الرّواية، وهنا أشير إلى نصين متباعدين زمنا، ومختلفين مذهبا وتوجها مدرسيّا، إلا أنّ بينهما توافق في تحقيق المدار من السّنّة، الأول للعالم العماني الإباضي خميس بن سعيد بن علي الشقصي [ت 1090هـ/ 1679م]، كما قرر ذلك في كتابه «منهج الطالبين وبلاغ الراغبين»، والثاني للعلّامة الشّاميّ من جبل لبنان، والمصري استقرارا، محمد رشيد رضا [ت 1935م]، وهو شافعي المذهب نشأة ودراسة، إلا أنّه ذهب بعد استقراره في مصر، وتأثره بالإمام محمّد عبده [ت 1905م] إلى عدم التمذهب، فكان مستقلا في رأيه، ومع قضاء أكثر عمره مناصرا للمدرسة الإصلاحيّة في مصر، إلا أنّه تأثر في آخر عمره - كما يذكر العديد من المؤرخين - بالمدرسة السّلفيّة الحديثيّة، وهذا يظهر أيضا من فتاويه المتأخرة.
يرى الشّيخان أنّ مدار الوفاق بين المسلمين بالرّجوع إلى الكتاب أي القرآن والسّنة المجتمع عليها بين المسلمين، ويرى الشقصي أنّ هذه السّنة لا تخرج عن القرآن الكريم، أي لها أصل من القرآن، ومقرونة به، ولا تقرأ معزولة عنه، فكأنّه يميل إلى أنّ السّنّة غير مستقلة بذاتها، بل هي مندرجة تحت كليات القرآن الكريم، فيقول: «فوجب اتباع السّنّة بكتاب الله تعالى، والإجماع أيضا علم بكتاب الله تعالى، وبالسّنّة الّتي هي من كتاب الله تعالى» [منهج الطّالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّ «الأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسّنّة العمليّة الّتي كان عليها السّلف الصّالح بلا خلاف» [فتاوى رشيد رضا، 1/ 111].
ويطلق الشقصي على السّنّة بالسّنّة المجتمع عليها، بينما يطلق رشيد رضا عليها بالسّنّة المتفق عليها، ويرى الشقصي أنّ السّنّة المجتمع عليها هي «الّتي لا تحتاج إلى البحث عن طلب صحتها، لإشاعتها عند الرّواة، وأهل التّأويل، وموافقتها لحكم التّنزيل» [منهج الطّالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّ هذه السّنة المتفق عليها هي السّنة العملية بين المسلمين جميعا، أي كسنّة الصّلاة وأوقاتها وركعاتها.
ولهذا يرى الشقصي أنّ المقابل للسّنة المجتمع عليها هي السّنّة المختلف عليها، وهي «الّتي لم تبلغ الكل بعلمها، ويقع التّنازع بين النّاس في صحتها، فلذلك تجب الأسانيد، والبحث عن صحتها، ثمّ يقع التّنازع في تأويلها، إذا صح نقلها، فإذا اختلفوا في حكمها كان رجوعهم فيها إلى كتاب الله تعالى» [منهج الطالبين، 1/79]، ويرى رشيد رضا أنّها تتمثل في الرّواية القوليّة الآحاد، حيث يعلل ذلك بقوله: «ولم يسلم المسلمون ممّا جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التّأويل، والرّوايات الأحاديّة، وأهواء الرّؤساء، والتّعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا إلى الوفاق بالعودة إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسّنّة العمليّة المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضا في الرّوايات القوليّة الآحاديّة» [فتاوى رشيد رضا، 1/ 112].
وما ذكره الشّقصيّ ورشيد رضا يتوافق مع تقرير العالم الشيعي محمد حسين فضل الله [ت 2010م]، إذ ينطلق فضل الله من رواية الإمام جعفر الصّادق [ت 148هـ] «كلّ شيء مردود إلى كتاب الله والسّنّة، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»، قلتُ: وتعبير الصّادق «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» دقيق جدّا، فليس كلّ حديث سنّة، كما أنّه ليس كل رواية أو خبر سنّة أيضا.
ويعلل فضل الله كلام الصّادق بقوله أنّه كان يتحدّث «في معرض التحذير من أولئك الوضاع المرتزقة الّذين ابتلي بهم الإسلام في كثير من فتراته، فدّسوا ما شاءت لهم أغراضهم في ثنايا الأحاديث الّتي تتناول شؤون الإسلام عقائد وأحكاما، حتّى عادت الأحاديث تركة مثقلة بالدس والتّحريف ...» [قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 56]، علما أنّ الصادق عاش في المرحلة الأولى من طبقة كبار التابعين، فنحن نتحدّث عن فترة مبكرة في صدر الإسلام، أي هذا قبل الانفجار الروائي والأخباري في العصر العباسيّ، مع أنّ ابن تيميّة [ت 727هـ] يرى أنّ هؤلاء قبل تدوين كتب الحديث أعلم بالسّنة ممّن جاء بعدهم كما يقول: «بل الّذين كانوا قبل جمع هذه الدّواوين - أي كتب الصحاح والمسانيد - كانوا أعلم بالسّنة من المتأخرين بكثير؛ لأنّ كثيرا ممّا بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكليّة» [رفع الملام عن الأئمّة الأعلام، ص: 18].
ويحاول أن يجيب فضل الله عن آلية العرض على الكتاب، وهي جدليّة أخرى ليس محلّ بحثها في هذا المقال، بيد أنّه يرى أنّ خطوط القرآن وتشريعاته واضحة «في الحياة والنّفس والاجتماع والنّظام الكونيّ»، فإذا التقت هذه الأحاديث بهذه الخطوط والمفاهيم الوضاءة «حسبنا بهذا دليلا على صدقها وأصالتها وبعدها عن الزّور والتّزوير»، أمّا إذا كان غير ذلك «فلا نحتاج ... إلى بحث في بطلانه وكذبه» [قضايانا على ضوء الإسلام، ص: 57 - 58]، أي لا نحتاج للاشتغال بالسّند فالمسألة واضحة؛ لأنّ القرآن خطوطه واضحة.
ويمكن إجمال مدار السّنّة بين الشقصي ومحمد رشيد رضا أولا أنّها لا تخرج عن كتاب الله تعالى من جهة، ولا تتعارض مع كتاب الله تعالى من جهة ثانية، فيكون القرآن مهيمنا ومصدّقا معا، وفي الوقت نفسه يكون منطلقا لفهم ما دونه.
والأمر الثّاني يتمثل في السّنّة العمليّة المجتمع عليها عند الشقصي، والمتفق عليها عند رشيد رضا، بحيث تندرج تحت كليات القرآن، كالوضوء والصّلاة والحج، إلا أنّ الشقصي لم يقيدها بالتّواتر، بيد أنّ رشيد رضا قيّدها بالتواتر العملي إلى يومنا هذا.
ويترتب على المدارين أنّ السّنّة المجمع/ المتفق عليها يدخلان في دائرة الإلزام الدّينيّ، ويترتب عليهما أحكام الدّين القطعيّة، بينما السّنة المختلف فيها/ الآحاد تدخل في مسائل الرأي، ولا يترتب عليه تكفير ولا تفسيق، فلا تدخل في أصول الدّين، ومن أخذ بها أو أنكر منها فالفضاء واسع بين المسلمين جميعا، ولهذا درج بعضهم في التّفريق بين أصول الدّين وأصول المذهب، فالثّاني واسع والأول ضيّق، لا يخرج عن القرآن ومصاديقه المجتمع عليها.
كما يترتب على المدارين تضييق دائرة المقدّس/ القطع، وتوسيع دائرة الرّأي/ الظّن، وهذا بدوره يخلّص الأمّة من تكفير وتفسيق بعضها، ويعطي مساحة للبحث والنّقد، دون اتّهام الآخر وتخوينه بمصطلحات كإنكار السّنّة والزّندقة والابتداع.
كما يترتب عليه أيضا البحث بعد الكتاب في المشترك بين الأمّة، والانطلاقة منها، فلا يمكن لأمّة أن يخفى عليها ما يظهر لآخرين، وهم جميعا خرجوا من مشكاة واحدة، فدلّ أنّ المختلف من الرأي وليس من الدين، ومن الآحاد وليس من التواتر، ومن الظّن وليس من القطع، وعليه إذا أخرجنا هذه المساحة التي يتصارع حولها المسلمون، وأخرجنا الفهومات وجعلناها حالة طبيعية، لاستقر الجميع على كلمة سواء، ولوسعهم الدّين جميعا.