في الثامن من شهر يونيو الفائت وعن 86 عاما رحل المفكر والمؤرخ التونسي الكبير د. هشام جعيط؛ قضى أكثر من 60 عاما منها في التأليف وتحقيق المخطوطات العربية الإسلامية وتقديم قراءات نقدية وتقويمية لأطاريح كبار المفكرين والفلاسفة والمؤرخين العرب والأجانب، ولاسيما المستشرقين منهم. كما تطرق الرجل بالبحث والمناقشة العميقيْن إلى جملة من المعضلات المركزية العالقة في التاريخ الإسلامي، وإلى أبرز مكونات الفكر الإسلامي، ونقْد الشخصية العربية - الإسلامية، وسياسات الثقافة الإسلامية، ومعاينة الأزمات التي عاشها المسلمون، وأهم الإشكاليات والتحديات التي واجهوها.

برحيله، طوى مفكرنا، ليس صفحة طويلة من حياته الفكرية والثقافية الخصبة فحسب، وإنما فصلا من تاريخ العالم العربي المعاصر، من خلال كتاباته التي حاول عبرها تشكيل جسرٍ بين دروسه في الجامعة التونسية (وتحديدا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين امتدادا إلى ما يجاوز الثلاثة عقود) وبين أبحاثه العلمية الرصينة التي أغنت الثقافة العربية المعاصرة بمجموعةٍ واسعة من المؤلفات الفلسفية والفكرية والنقدية والتاريخية التي تمحورت حول ترسانة التاريخ الإسلامي في مختلف مراحله، بوصفه مكونا رئيسا للشخصية العربية، وضرورة معرفية وتاريخية وثقافية لإيضاح الهوية العربية الإسلامية وتحديث مكوناتها.

وخلال بحثه العلمي والأكاديمي في الموضوعات التي تصدى لها، كان لا بد لمفكرنا من أن يعتمد على القرآن الكريم مرجعا وثيقا له، بخاصة أن كتاب الله تزامن مع مرحلة الدعوة المحمدية.. ثم إن جل ما كتب عن الرسول العربي الكريم جاء متأخرا زمنيا، وكان منقولا، في الأصل، عن مصادر شفوية، اعتمد جعيط دونما شك على إحداها، وهو نص مرويٌ ومدونٌ في كتاب عن عروة بن الزبير، فاكتفى به وبالقرآن الكريم.

عن علاقته بسيرة النبي العربي في كتاب عروة بن الزبير يقول هشام جعيط: «كانت علاقة علمية، بصرف النظر عن الصفة الدينية للرسول محمد وتقديس المسلمين له. حاولت تناول السيرة من منطلق الباحث المحايد، لأن شخصية محمد هي الأكثر تأثيرا في تاريخ الإنسانية، ولا تزال كذلك، وإني أعتقد أن التاريخ الإسلامي الذي خصصت سحابة عمري كله لدراسته وتقييم أطروحاته، لا يزال يحتاج إلى مزيدٍ من الدراسات العلمية، والدارسين العلميين الذين لا ينطلقون مسبقا من مواقف عقدية أو دينية أوغيرها».. وأردف: «هناك من طلابي من كتب بعمق وموضوعية في الأمر.. وقمت أنا بتوجيه بعضهم أيضا، وجاءت أطروحات البعض الآخر جيدة للغاية».

هشام جعيط والاستشراق

ولد مفكرنا الراحل قي تونس عام 1935 في كنف عائلة محافظة ثقافيا ودينيا؛ فهو ابن عبد العزيز جعيط، شيخ جامع الزيتونة الذي كان على خلافٍ سياسي/ ثقافي مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة صاحب المشروع الحداثي الساعي إلى بناء الدولة الوطنية التونسية على النمط الغربي. وعاش جعيط فترة الاستعمار الفرنسي والحرب العالمية الثانية، ودرس في مدرسة الصادقية التي أنجبت النخب الفكرية والثقافية التونسية، وكانت تختلف في منهجها التعليمي عن المنهج التعليمي الزيتوني، وتأثر مبكرا بالفلسفة الغربية وأفكار الفلاسفة الغربيين، كما أنه أكمل دراساته العليا في فرنسا وعاش مدة شبابه الحيوي في أوروبا، الأمر الذي جعله يتشبع بالفكر الغربي ويتأثر بأهم المدارس والمناهج التاريخية التي ظهرت في أوروبا، وخصوصا المنهج التاريخي الذي اعتمدته المدارس الاستشراقية الأوروبية في دراستها للإسلام والتاريخ الإسلامي. وفي ضوء ذلك، توصل جعيط إلى خلاصةٍ تقول إن اكتشاف الفلسفة وتمثلها مهم جدا للمفكر والباحث في تاريخ الأفكار والأديان والثقافات والحضارات، وكذلك هي تعين على فهْم المتغيرات السياسية وتسهم في التخلص من منطق «البديهيات» و«المسلمات» والفكر الجامد.

قرأ جعيط مليا فلسفة كارل ماركس (1818 ـ 1883)، واهتم بأنساقها الفكرية والفلسفية العامة وليس بالإيديولوجيا التي روج لها من خلالها. كما تأثر أيضا بمؤلفات هيغل (1770 ـ 1831) ونيتشة وإيمانويل كانط الذين أثروا بدورهم في الفكر السياسي العالمي وصناع القرار في الدول المنطلقة في تكونها من مفهوم الدولة - الأمة بالمعنى البرجوازي الحديث التي برزت في أوروبا في القرن التاسع عشر.

التناقض مع الاستشراق

على الرغم من التكوين الأكاديمي للمفكر جعيط في أرقى الجامعات الفرنسية، واستيعابه العميق للفكر الأوروبي بخاصة، والغربي بعامة، وتأثره بالليبرالية الأمريكية بنسختها الأولى، وانتمائه إلى النخبة المثقفة التي تشتغل بالفكر والثقافة والمعرفة والفن، إنتاجا وترويجا واستهلاكا، والتي يؤهلها رأسمالها المعرفي لحمْل مشعل التغيير والتجديد، فإن الباحث جعيط، يتناقض مع الاستشراق بطوريْه الكلاسيكي والمستحدث، المثقل بداء المركزية الأوروبية الكولونيالية والثقافة النيوـ ليبرالية الأمريكية، بل إن توظيفه المعرفي للمنهج الأوروبي، وانفتاحه على المدارس الفكرية الغربية في مجمل كتبه وأبحاثه، جعله يقوم بتأصيلٍ فكري وثقافي عربي - إسلامي للتاريخ الإسلامي، غير مستتبع للاستراتيجيات المعرفية للاستشراق من دون ادعاء أنه تمكن من صنْع حداثةٍ خاصة بالعرب والمسلمين.

لقد دأب مفكرنا الراحل في معظم مؤلفاته على معاينة التاريخ الإسلامي، وأبرزها: ثلاثيته في السيرة النبوية، «الوحي والقرآن والنبوة»، و«تاريخية الدعوة المحمدية في مكة»، و«مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام»، وكتابه «أوروبا والإسلام.. صدام الثقافة والحداثة»، والصادر في طبعة أولى بالفرنسية عام 1978، وكتابه الشهير «الكوفة.. نشأة المدينة العربية الإسلامية» الصادر بالفرنسية عام 1986، وكتابه الحدث «الفتنةـ جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر» الصادر عام 1989، ثم يأتي كتابه الذي أثار عاصفة من النقاشات في تونس وفي الوطن العربي وأوروبا، «أزمة الثقافة الإسلامية»، الصادر بالعربية عن دار الطليعة في بيروت، ثم في نسخةٍ فرنسية عام 2004 في باريس عن دار فايار، فقد دأب في كل هذه الأعمال الفكرية على قراءة التراث العربي الإسلامي برؤيةٍ عقلانية منفتحة ومتطلعة نحو «مشروع مستقبلي». وانشغل بإشكالية الهوية والتراث في ضوء قضايا الحداثة والتحديث، كاشفا عن ملامح دخول الإسلام عالم الحداثة، ودخول الحداثة عالم الإسلام، وكله انطلاقا من أن جعيط يعتبر الحداثة بمثابة «تيار لا يقاوم، فهو المجرى الحتمي للتاريخ» على ما ورد في كتابه «أزمة الثقافة الإسلامية».

بخصوص علم التاريخ وفهْمه لمجرياته وفلسفته، اعتمد د. جعيط المنهج التاريخي الذي يرى أنه بلغ خلاله درجة من الصدقية قربته كثيرا من العلوم الصحيحة، وهو يستعمل علم التاريخ بتداخل مع مجموعة أخرى من العلوم والمعارف مثل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس) والفيلولوجيا (علم اللغة) وعلم الاجتماع وعلم النفس.

ويلخص مفكرنا منهجه في التعامل مع هذا الموضوع العريض والشائك بقوله: «إنه استقراء الماضي متسلحا بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع وبالتعاطف اللازم مع موضوعه وبرحابة صدر وثقابة الفكر»، ويضيف: «ما سنحاوله هنا هو إعطاء نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولا، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوغرافية».

ويتابع جعيط: «ومن حسن حظنا نحن البحاثة العرب أن أجدادنا شاركوا في الحضارة الإنسانية وتركوا لنا مصادر هائلة، منها علم الكلام والفلسفة ودراسات القرآن والفقه والحديث والقانون، أي أن أغلب المصادر هي بالعربية ونحن نتقنها.. وبعض الباحثين المسلمين من الفرس والترك والمستشرقين الغربيين تعلم العربية لفهْم تراثنا، لكن أغلب ما كتب في العصر الحديث عن السيرة النبوية بأقلامٍ عربية ليس عميقا وطغت عليه النزعة الدينية..».

وفي ما خص ما كتب عن حياة الرسول، اعتبر جعيط أن المصادر التاريخية مثل سيرة ابن إسحاق أو ابن هشام أو غيرهما «لا تعطي إجاباتٍ علمية دقيقة، نظرا لتأخر تدوين هذه السير ولغلبة النزعة الوعظية عليها».

أما الكتابات الحديثة، فقد اعتبر أن «أغلبها لا يرقى حتى إلى ما كتبه القدامى من حيث القيمة العلمية»، واستثنى من هذا الحكم كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، الذي ألف كتابا عن النبي محمد لا بأس به بمقاييس العام 1930، واعتبره جعيط «آخر الكتابات المحترمة».

أما ما كتبه عباس محمود العقاد، وما قرأناه من كتبٍ فارسية وتركية حول الرسول العربي، فقد انطلق مؤلفوها من مسلمات إيمانية خاصة بهم، الأمر الذي قلل من صبغتها العلمية التاريخية على حد تعبيره؛ ويضيف: «نحن توخينا طريق المعرفة والبحث الدقيق المحايد، بصرف النظر عن شخصية الرسول وقدسيته هنا».

وأكد جعيط على أن غرض الباحث دائما هو «مناقشة المسلمات»، وأن «المعرفة التاريخية تبقى نسبية ومتغيرة بتغير المصادر والوثائق». كما أشار إلى أن هناك نقاط استفهامٍ عديدة تطرح حول معرفتنا عن تلك الحقبة، لأن ثمة نقصا في الوثائق، وهو نقصٌ أدركه كل من اشتغل على الشأن الديني، إلا أن وجود الصعوبات لا ينفي إمكانية بلْورة وإنشاء معرفة تاريخية عن الدين مستقلة ومختلفة عن الأبحاث الفقهية.

وبخصوص الكتب والمؤلفات التي تناولت السيرة النبوية، يقول د. هشام جعيط إن ثمة قضايا عديدة لا يتفق مع ما أورده أصحابها فيها، لأنها «حاولتْ أن تعطينا صورة متأخرة (بعد 150 عاما عن الهجرة) عن الرسول؛ وكانت لها أساسا صورة دينية وليست علمية».

في المقابل، لا يوافق جعيط على كثيرٍ مما نشر في المدرسة الاستشراقية الجديدة التي تجحف أحيانا في النقد والتشكيك.. وفي تناولها لسيرة النبي والمسلمين الأوائل والتاريخ الإسلامي ككل. منذ نصف قرن أو أكثر، لم يكتب شيء جدير بالاعتبار عن الرسول والسيرة النبوية، ما عدا كتاب المستشرق الإنجليزي مونتغمري وات وما أتى به الفرنسي تور أندريه.

في الوقت نفسه يحذر جعيط من الاعتبارات والتوظيفات السياسية والأيديولوجية في تناول الشأن الإسلامي بوجهٍ عام، لأنها تشوش على البحث العلمي التاريخي وتأخذه إلى أهدافٍ ليس هو فيها، فما قام به الرسول هو في الأصل عمل تاريخي لكامل البشرية، وليس خاصا بالمسلمين أو بمجموعة من عرب الجزيرة...و«نحن في حاجة إلى ربط الصلة بالتراث الإسلامي من منطلق فكري وجهدٍ علمي».

لحظة العام 1900

لعل من أهم ما يميز مفكرنا الراحل هشام جعيط عن باقي المفكرين العرب والمسلمين ممن يتبنون المنهج التاريخي في تحليلهم للدراسات الإسلامية مثل محمد أركون وعبد المجيد الشرفي وغيرهما، أنه مفكر يرى بأن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، ويرى في الإسلام عاملا محددا في بناء هذه الشخصية، ولكنه يعتقد أن الذي يجب تغييره في ذلك، هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي الناتج عن قراءته قراءة إيمانية تغيب الحقيقة وتغتالها لتنتج ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية.

من جهة أخرى، تحدث جعيط عن مستشرقين درسوا تاريخ الإسلام، بخلفياتٍ متعددة، منها الماركسية، ومنها المسيحية، معلنا في الوقت عينه، أن لا معنى من انتقاد الاستشراق، إذا لم يقم العرب والمسلمون «باستكشاف ماضيهم بأنفسهم، باتخاذ المناهج المعترف بها، عالميا».

وتبرز مقدمة «تاريخية الدعوة المحمدية» إلمام جعيط الشامل بحركة التأليف الاستشراقي، الذي قسمه إلى مراحل زمنية مختلفة، احتفى فيها، بما سماه «لحظة 1900» معتبرا أنه عام «الانفتاح على كل شيء، واستكشاف كل شيء في المعرفة والفن»... وبعدما درس مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي، درس السيرة النبوية وما حف بها من معطياتٍ تاريخية.. وهنا جاء اهتمامه ببيئة الرسول والثقافة العربية والأنثروبولوجيا في منطقة الجزيرة العربية واليمن.

ويذكر د. جعيط بالفترة الممتدة من العام 1860 إلى العام 1960، ليقول إنها الفترة الزمنية التي درس فيها الغرب تاريخ الإسلام، باعتباره من «كبرى الحضارات الإنسانية»، مستعرضا غالبية الأقلام الاستشراقية التي كتبتْ عن تاريخ الإسلام والقرآن الكريم والسيرة النبوية وتاريخ اللغة العربية ودور البعد «القبائلي» في فهْم التطور الاجتماعي والسياسي في التاريخ العربي. ويعلن جعيط، صراحة، انتقاده للاستشراق الجديد بالقول: «ما نعيبه على الاستشراق الجديد، انفلاته من عقاله، وابتعاده عن الصرامة المنهجية التاريخية».

على الرغم من أن معظم الدارسين الغربيين قد اتسمت دراساتهم عن الإسلام، وعن شخصية النبي محمد بخدمة سياسات التبشير والاستعمار، إلا أن مونتغمري وات، رجل الدين الإنغليكاني من إسكتلندا (1909-2006) كان في رأي د. هشام جعيط حالة استثنائية بينهم، فقد ألف كتابا عن سيرة النبي في جزئين: «محمد في مكة «Mohammad at Mecca سنة 1953»، و«محمد في المدينةMohammad at Medina سنة 1960»، اتسم بالموضوعية والشمولية والعمق، وهو «أهم مؤلف تناول السيرة النبوية في الغرب والشرق على السواء»على حد تعبير د. جعيط.

وفي رأي د. جعيط يبتعد عمل مونتغمري الاستشراقي المذكور عن الأحكام النمطية المسبقة التي عرفها الاستشراق الغربي، والمناهج التاريخية العادية، حيث دشن منهجا جديدا في دراسة سيرة النبي محمد والإسلام، هو المنهج الاقتصادي- الاجتماعي، حتى أن كثيرين ظنوه في البداية من ذوي الاتجاه اليساري الذي يزعم أتباعه أن «التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية» هي التي تنتج الأشخاص والأديان.

باختصار، واجه الراحل د. هشام جعيط الدرس الاستشراقي الغربي بكثيرٍ من الجرأة النقدية المفندة، والرؤية العلمية المقنعة بأنساقها للعقل الغربي قبل العقل العربي والإسلامي، ودائما من عدسة المنهج الغربي نفسه.

*كاتب من تونس

** ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي