في كتابه (القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية) يُعرِّف أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما”. إن هذا التعريف يقدم (القوة الناعمة) باعتبارها قوة الدبلوماسية الثقافية، ذلك لأنها تعتمد على (تعاون طوعي) يتأسس على القيم الثقافية والسياسات التي تتخذها الدول في تأثيرها على الآخر من ناحية، وقدرتها على الاستفادة من علاقاتها من ناحية أخرى.

وعلى الرغم من أن جوزيف ناي هو (مخترع مفهوم القوة الناعمة) ـ كما يسمي نفسه ـ؛ حيث أسس هذا المصطلح في العام 1990 في كتابه (ملزمون بالقيادة)، للحديث عن حال أمريكا بين القوة الصلبة (العسكرية، والاقتصادية)، والقوة الناعمة، وتبع ذلك بكتابه (مفارقة القوة الأمريكية)، الذي نشره في العام2001؛ حيث ناقش فيه تأثيرات القوة الناعمة في السياسة الأمريكية الخارجية بشكل خاص. إلا أن الكاتب من خلال تلك المناقشات أسس لمفهوم (القوة الناعمة) وعلاقتها بالثقافة عامة والثقافة الوطنية للدول على وجه الخصوص؛ ذلك لأن هذه الثقافة تعكس القيم التي تشكل (قوة جاذبة)، فما يُشكل القوة هنا هو “الانجذاب إلى القيم المشتركة، والعدالة، ووجود الإسهام في تحقيق تلك القيم” ـ بحسب ناي ـ .

لقد قام مفهوم (القوة الناعمة) على الثقافة، وتأسَّس على جاذبية النموذج الحضاري الذي تُقدمه الدول من خلال أنماطها الثقافية المؤثرة، وقيمها الفكرية الجاذبة، التي تُسهم في تعزيز علاقاتها الداخلية والخارجية، وتجعل منها قوة جاذبة، ومقصدا لحل الأزمات التي غالبا ما يُرجح فيها تدخل (القوة الصلبة)، لتكون (القوة الناعمة) وسيطا أساسيا وقدرة تأثيرية على الآخر، ولن يتم ذلك إلا إن كانت هذه القوة قائمة على قيم راسخة، وثقافة جاذبة.

وعندما نستحضر نماذج القوة الناعمة ومدى تأثيرها في العالم الخارجي، فإننا نستحضر النموذج العماني الذي قدَّم نفسه باعتباره (قوة ناعمة) بامتياز، فما تأسست عليه الدبلوماسية العمانية من قيم حضارية راسخة، مستمدة من العمق الفكري والاجتماعي، جعل العالم ينظر إليها باعتبارها نموذجا جاذبا ومؤثرا، مما ظهر تأثيره على علاقات عُمان بدول العالم أجمع، وبالتالي انعكاس تلك العلاقات على الاتفاقيات التعاونية المشتركة في كافة المجالات الاقتصادية والبيئية والثقافية وغيرها.

لذا فإن السلطنة انضمت ـ كالعديد من الدول ـ لأول مرة إلى تقرير (المؤشر العالمي للقوة الناعمة) لعام2021 الصادر عن مؤسسة (Brand Finance) بالتعاون مع جامعة أوكسفورد؛ وهو تقرير يكشف تأثير القوة الناعمة على المخرجات الاقتصادية في الدول، حيث أكد ديفيد هاي رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمؤسسة في كلمته الافتتاحية للتقرير أنه "كلما زادت قوة حقوق الملكية في الدولة وأداء القوة الناعمة، كان أداؤها الاقتصادي أقوى"، وهو تأكيد يأتي ضمن نتائج تحليل المخرجات في قطاعات اقتصادية عدة منها (إحصائيات السياحة)، و(حجم الاستثمار الأجنبي)، و(الناتج الوطني الإجمالي)، بالمقارنة مع المدخلات التي تضم أنشطة القوة الصلبة والقوة الناعمة، وأنشطة القوة الاقتصادية.

يعتمد المؤشر العالمي للقوة الناعمة على محاور سبعة هي الإعلام والتعليم والعلوم، والثقافة والتراث والعلاقات الدولية، والحوكمة، والتجارة والاستثمار، وقيم الشعوب، وقد تم إضافة محور ثامن في تقرير2021 هو (كفاءة الاستجابة لجائحة كوفيد 19). ولأن تقرير هذا المؤشر يعتمد على استطلاعين؛ أحدهما للجمهور العام، والآخر للخبراء والأكاديميين، فإن قوة الإعلام وقدرة الدول على تسويق سياساتها من ناحية، وقدرة العلاقات الخارجية المعتمدة على القيم الحضارية والثقافية من ناحية أخرى تؤثر تأثيرا مباشرا على ترتيبها في تقرير المؤشر.

ولهذا فإن التقرير يقوم على الانتشار الثقافي عالميا وتأثير الدولة في الآخر من حيث قدرتها على حل النزاعات سلميا، وسمعة نظام التعليم وشهرته خارجيا، والعلاقات الدبلوماسية، والتواصل الرقمي والتكنولوجي، وبالتالي تأثير ذلك كله على النظام الاقتصادي، فالمؤشر يقيس شهرة ثقافة الدولة وأنظمتها وقدرتها في التأثير الخارجي، وبالتالي فإن المؤشر يقيس التأثير الذي تُحدثه الدولة عالميا في الدول والمجتمعات والمؤسسات بل وحتى الأفراد.

إن التقدم في مراتب المؤشر العالمي للقوة الناعمة لا تصنعه الحكومة وحدها؛ لأنه يعتمد على أداء المنظومة المجتمعية كلها، فكثيرا ما أسهمت مشاركات القطاع الخاص والمدني في تحسين أداء العديد من الدول في هذا المؤشر من خلال ما تقدمه من ترويج لدولها ودورها في دعم مسيرتها الحضارية. لذا فإن حصول السلطنة على المرتبة (51) عالميا في هذا المؤشر للعام2021 بين (100) دولة، على الرغم مما تبذله من جهود في كافة القطاعات، إضافة إلى ما تقوم به من أدوار مهمة وأساسية في دعم سياسة الحوار والسلام والتسامح في العالم، يحتاج إلى إعادة نظر وتقييم من حيث مساهمتنا في تسويق السلطنة.

فعلى الرغم من أن التقرير قد عنْون ترتيب دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ (الحلم الكبير)؛ باعتبارها دولا تسعى للوصول إلى مراتب متقدمة بين دول العالم، إلا أن هناك ست دول عربية فقط استطاعت الوصول إلى المراتب الأولى بفضل قدرتها الإعلامية الخارجية ومساهمة القطاع الخاص في دعم الترويج لحضارتها وثقافتها خارجيا. والحق أن السلطنة قد عملت وتعمل الكثير من الجهود والإنجازات على المستويين المحلي والدولي، وما نحتاج إليه هو تكثيف التركيز على ترويج دور السلطنة الثقافي والحضاري والقيم الإنسانية التي يتأسس عليها المجتمع العماني، وما تقدمه من جهود في تعزيز القوة الناعمة من خلال دورها الدبلوماسي المهم في المنطقة والعالم.

ولعل هذا المؤشر من المؤشرات التي تحتاج إلى رؤية واضحة في بناء العلاقة بين المنظومة الثقافية والإعلامية، والمنظومة الاقتصادية؛ ذلك لأنه يعتمد على التأثير الذي تُحدثه الحضارة والثقافة على المردود الاقتصادي، بما تمثله من قوة ناعمة قادرة على جذب الاستثمار خاصة الأجنبي منه. إنها قوة قادرة على إعادة فهم التصورات والمواقف لتمكين الانتعاش الاقتصادي، وتعزيز صياغة السياسات بما يتوافق مع القيم المجتمعية، لذا فإن إيجاد استراتيجية أو خطة لدعم (القوة الناعمة) في السلطنة، وتعزيز تأثير هذه القوة داخليا وخارجيا، سيكون من بين أساسيات تمكين الثقافة ودعم قدرتها التأثيرية في القطاعات التنموية المختلفة.

إن المرتبة التي وصلت إليها السلطنة في المؤشر العالمي للقوة الناعمة ـ على الرغم من أنها جيدة في العموم ـ إلَّا أنها لا تعكس الدور الحضاري والثقافي والدبلوماسي الذي تقوم به في المنطقة والعالم، ولا تنم عن القيم العمانية الأصيلة التي تخلَّقت بها في علاقتها مع دول العالم، ولا عن سياستها في دعم أهدافها التنموية ودور الإعلام في تعزيز مكانة السلطنة عالميا.

ولأن المؤشر يعتمد على الثقافة والإعلام باعتبارهما مدخلات فإنهما قطاعان يحتاجان إلى التمكين والدعم المستمر حتى يستطيعا المضي في المساهمة الفاعلة والمؤثِّرة في القطاع السياحي والاقتصادي؛ فاهتمام ألمانيا بالثقافة وتمكينها إعلاميا وبناء سياسة واضحة في العلاقات والحوكمة جعلها الأولى عالميا حيث وصفها التقرير بأنها (القوة الناعمة العضمى). إن الثقافة العمانية بقيمها وآفاقها هي القوة التي نملك زمامها ونؤمن بقدرتها الناعمة في التأثير والجاذبية، وعلى مؤسسات المجتمع خاصة الثقافية منها والإعلامية والاقتصادية العمل على تسويق مكانة هذه الثقافة وتعزيزها عالميا، وتعظيم تأثيرها وقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية.