أعلن في بداية الشهر الحالي عن فوز الأديب والروائي التنزاني عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب. ولأسباب وأهداف سأوضحها لاحقا في هذا المقال أرى أنه من المناسب اغتنام فرصة فوزه لإطلاق عمل يخدم الثقافة العربية ويفيد عمان في جوانب تنموية أخرى.

لا يخفى على أحد من العارفين بالتاريخ العماني الدور الذي قام به العمانيون في الثقافة العربية، وذلك منذ بداية تشكلها بعد ظهور الإسلام. وكان ذلك الدور بارزا ومتميزا، سواء في داخل عمان أو في مراكز الحضارة العربية التي استقر فيها العمانيون، مثل البصرة وبغداد وقرطبة وغيرها من المراكز الحضارية، أو في مهجرهم إلى امتداد الدولة العمانية في شرق إفريقيا. فإلى جانب تأليفهم واجتهادهم في مسائل الفقه وعلوم الشريعة، يظهر دور العمانيين جليا من خلال إسهاماتهم المعروفة والمتميزة في مجال معاجم وعلوم اللغة العربية، فهناك الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، واضع علم العروض وصاحب «كتاب العين» الذي هو أول معجم منسق للغة العربية، وقد رتبه الخليل بن أحمد حسب مخارج الحروف وأصواتها.

وهناك أيضا أبو بكر الحسن بن دريد الأزدي، الشاعر الفذ وصاحب كتاب «الاشتقاق» وكتاب «الجمهرة». وكذلك المبرّد، محمد بن يزيد الأزدي صاحب كتاب «الكامل في اللغة و الأدب»، وسلَمة بن مُسلِم العوتبي الصحاري صاحب كتاب «الإبانة في اللغة العربية». كما أسهم سلمة بن مسلم العوتبي كذلك في كتابة جانب من التاريخ القديم في كتابه المعروف بـ «الأنساب». وفي مجال الطب وضع العمانيون أول معجم طبي لغوي في التاريخ، وهو «كتاب الماء» لأبي محمد، عبدالله بن محمد الأزدي الصحاري. هذا إلى جانب مئات المؤلفات والمصنفات في مجالات الفقه وأصول الدين والملاحة والفلك وغيرها.

وفي القرن العشرين برز الشاعر العماني أبو مسلم، ناصر بن عديّم الرواحي في مهجره بشرق أفريقيا كواحد من أبرز الشعراء العرب في عصره، إلى جانب تأليفه في الفقه الإسلامي واشتغاله بالصحافة. أما في الوقت الحاضر فلا يزال العمانيون يسهمون بشكل متميز في الثقافة العربية، سواء كان إسهامًا فرديا أو من خلال المؤسسات الثقافية الموجودة في البلاد. ومن بين عدد كبير من الأدباء والشعراء العمانيين المعاصرين يبرز الأديب ذو الثقافة الواسعة سيف بن ناصر الرحبي، والشاعر الملتزم هلال بن سالم السيابي، اللذَان لا يزالان يرفدان الثقافة والشعر العربي بإنتاجهما الغزير. هذا إلى جانب عدد آخر من أدباء وأديبات عمان الذين تزخر دور النشر وتزدان المكتبات بأعمالهم في شتى مجالات الثقافة والآداب. وعلى صعيد المؤسسات يوجد عدد من المؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة. ومن أهم تلك المؤسسات «مجلة نزوى» التي تتميز بانفتاحها على الثقافات المعاصرة، وباستمرارها في الصدور دون انقطاع منذ تأسيسها في عام ١٩٩٤. ونظرا لما تزخر به المجلة من تنوع فيما تنشره، فقد أصبح لها صيت وانتشار واسع بين المثقفين والقراء في الوطن العربي وخارجه.

وإلى جانب مجلة نزوى، هناك أيضا «الموسوعة العمانية» التي اتسمت بكثرة مدخلاتها ورصانة صياغتها وحسن إخراجها، مما جعلها واحدة من أهم الموسوعات العربية. وعسى أن تتطور الموسوعة العمانية إلى عمل ثقافي مستمر ومتجدد واستخدام أدوات النشر الحديثة لكي تساير الموسوعات العالمية الكبرى.

ومن المؤسسات الثقافية العمانية الكبرى كذلك دار الأوبرا السلطانية، التي تقدم أنواعا راقية من الثقافة والفنون العالمية، سواء التقليدية منها أو الحديثة، في مجالات الموسيقى والمسرح، إلى جانب أن مبناها يقف شامخا في وسط العاصمة مسقط ليعبر بقوة عن الفن المعماري العماني الأصيل. ومن ضمن تلك المؤسسات أيضا جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، التي تعتبر واحدة من أهم مؤسسات رعاية الثقافة العربية. وقد اكتسبت الجائزة ثقة عالية وسمعة طيبة بين المفكرين والمثقفين العرب على اختلاف وتعدد انتماءاتهم الفكرية واهتماماتهم الأدبية والمهنية.

ولا يفوتنا كذلك «معرض مسقط للكتاب»، الذي يُعد واحدا من أهم معارض الكتاب في العالم العربي، سواء من حيث عدد دور النشر التي تشارك فيه والأنشطة الثقافية المرافقة له، أو من حيث استمراريته وتزايد عدد زواره. وعسى أن يعود المعرض في أوائل العام القادم بحلة قشيبة ومشاركة أوسع بعد توقفه الاضطراري بسبب وباء كورونا. وإلى جانب تلك المؤسسات الحكومية يوجد كذلك عدد من المؤسسات الثقافية الخاصة التي تشمل متاحف ومكتبات ودور نشر ومراكز بحث وفرقا مسرحية. ورغم ضآلة الموارد والممكنات المتاحة لبعض المؤسسات، إلا أن وجودها في حد ذاته وجودة وتميز ما يقدمه أكثرها يعني أنه لا زالت هناك محاولات وجهود لا بأس بها في مجال خدمة الثقافة على المستويين العام والخاص.

مما سبق يتضح أن لعمان من الإرث الحضاري والفعل الثقافي ما يجعلها مهيأة للقيام بدور أكبر في مجالات الثقافة المعاصرة على تنوعها وتعددها. وعسى أن يكون في إعلان وزارة الشباب والثقافة والرياضة قبل أشهر عن مشروع «الاستراتيجية الثقافية» ما سينقل الحياة الثقافية في عمان إلى مرحلة جديدة من الإبداع والتميز. ومما يزيد من الأمل في تحقيق ذلك، أن البيان الذي صدر عند إطلاق المشروع أشار إلى أن الهدف من الاستراتيجية هو «تأطير وتنظيم العمل الثقافي في السلطنة وإبراز دور الثقافة والفنون في تحقيق التنمية المستدامة والتلاحم الاجتماعي».

وتأسيساً على ذلك الهدف، أجد أنه من المناسب اغتنام فرصة فوز الكاتب والأديب التنزاني عبدالرزاق قرنح بجائزة نوبل للآداب لهذا العام لدعوته لزيارة السلطنة. وأعتقد أن كونه أديبًا ومفكرا من أصل عربي، وقد ولد في زنجبار التي تربطها بعمان علاقة تاريخية، ولا زال العمانيون يشكلون جزءا مهما من الثقافة فيها، هي أسباب كافية لدعوته لزيارة السلطنة. أما الهدف من تلك الدعوة فهو تدشين موسم ثقافي عماني يعقد سنويا ويدعى لحضوره الأحياء من الحاصلين على جائزة نوبل للآداب. وربما يدعى لحضوره أيضاً ثلة من الحاصلين على جوائز عالمية أخرى في مجال الثقافة والآداب، مثل الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) وغيرها. ومن المناسب أن توجه الدعوة كذلك إلى عدد من كبار المفكرين والمثقفين من الوطن العربي وخارجه، وممثلين عن اليونيسكو والمنظمة العربية للتربية والعلم والثقافة ونظيرتها في منظمة التعاون الإسلامي. إن عقد هذا الموسم الثقافي بصورة سنوية سيكون له أثر كبير في التذكير بالدور الحضاري لعلماء وأدباء عمان الذين أشرنا إلى بعضهم أعلاه، وإبراز إسهامات عمان والعمانيين في الثقافة العربية في الماضي والحاضر. كما أن انتظام عقد الموسم المقترح سنويا سيكون له أثر كبير في إثراء الثقافة العمانية المعاصرة والتعريف بالإنتاج الأدبي والثقافي العماني، من أجل الدفع به نحو العالمية. وإلى جانب الفوائد الثقافية المرتجاة فإن الموسم المقترح ستكون له منافع سياسية والاقتصادية كبيرة.

*باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية