تحتفي الأمّة الإسلاميّة هذه الأيام بمولد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، وبعيدًا عن جدليّة حُكم وتأريخ الاحتفال بهذا النّبيّ الأكرم، فهي لا تتعدى وقفة سنويّة، كل يعبّر عن حبّه لهذا الرّسول بطريقته الخاصّة، ويجد من حياته ورسالته ما يشفي غليله، ويروي ظمأه.
وكنتُ قد كتبتُ العام الماضي عن الرّسول الإنسان، ووجدت في القرآن من المعاني العظيمة المتجسّدة في هذا الجانب، إلا أنّ هناك جانبًا مهمًا من إنسانيّته عليه السّلام المتجسّدة من خلال رسالته، وهي قيمة المحبّة، فلا يوجد نبيّ إلا ووصل إلى درجة الصّفاء ما يجعله غارقًا في حبّ الآخر، صغيرًا كان أم كبيرًا، ذكرًا أم أنثى، نباتًا أم حيوانًا أم جمادًا.
وأعظم ما يميز هذه المحبّة تلك الرّحمة الّتي عبّرت عنها الآية بوصف حصريّ بليغ جدًّا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء/ 107]، أي كأنّه لم يُرسل إلا رحمة للعالم أجمع، والرّحمة قيمة مضافة مرتبطة بالجنس البشريّ، وما دونها مصاديق لهذه الرّحمة، وذكر القرآن بعض تلك المصاديق كقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران/ 159].
إنّ قيمتي المحبّة والرّحمة تتميزا بالإطلاق والشّموليّة، والمصاديق لها ارتباط ظرفيّ وتأريخيّ، والنّاس يهتمون بالمصاديق ويتركون القيم والمبادئ، فتغيب عنهم جوهر رسالات الرّسل، ويتشبثون بحرفيّة المصاديق، كما أنّ الخصوم لا يدرسون هذه المصاديق حسب جوهر الرّسالات، ولا يضعونها في ظرفيتها الزّمكانيّة، فيحدث صراع وهميّ، ومحاكمات إسقاطيّة مختلفة زمانًا ومكانًا.
فأمّا من حيث الإطلاق أي ليست مرتبطةً بزمان ومكان ما، فالمحبّة والرّحمة قيمتان ملازمتان لهذا الإنسان مع الإنسان، ومع الحيوان والطّبيعة والكون أجمع، تتجسّد في نظرة الإنسان للآخر، وحبّه له، ورحمته به، وإن اختلف دينًا أو توجهًا أو جنسًا.
وكما أنّ قيمتي المحبّة والرّحمة مطلقة، فهما أيضًا تشمل الجنس البشريّ، لهذا في الأصالة لهما ارتباط فردانيّ بهذا الإنسان، فكونه إنسانًا فهو مكرم، حبّه ورحمته جزء من إنسانيّته، ولو خالفني دينًا أو فكرًا، واختلف عنّي لونًا أو جنسًا أو لغةً، فالاختلاف التّكوينيّ والكسبيّ لا يرفع هذه القيمة المضافة بأيّة حال، وعلى هذا تتشكل الهوّيّات على مبدأ المحبّة والرّحمة أيضًا.
وفي القرآن نماذج لهذا، نشير إلى نموذجين مثلا، النّموذج الأول قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8 -9].
فالآية فصلت بين الإنسان الطّبيعيّ المسالم، وهذا الأصل بين البشر، إذ الأصل فيهم المسالمة وليس الاعتداء، فهؤلاء لا علاقة بالبراءة، فلا معنى أن تتبرأ من إنسان يختلف عنك دينًا وتوجهًا وهو مسالم لم يعتدِ عليك، ولم يظلمك، فهذا تجب ولايته والتّعاون معه في بناء المجتمع، وخدمة الجنس البشريّ.
ولكن هناك فئة معتديّة، تظلم النّاس، وتأكل حقوقهم، وتعتدي عليهم في أنفسهم وأموالهم، ولو اشتركوا معك جنسًا أو لغةً أو دينًا أو مذهبًا، فهذا من حيث الأصالة لا يشفع لهم في اعتدائهم وظلمهم، ولهذا جاء النّهي عن ولايتهم ونصرتهم في ظلمهم، وهذا مصداق لقيمتي المحبّة والرّحمة، فهي مرتبطة بالإنسان وكرامته ابتداء.
والنّموذج الثّاني قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشّورى: 14 – 15].
وهذه أخصّ من الآية الأولى؛ لأنّ الأولى تتحدّث عن الجنس البشريّ، وهذه تتحدّث عن خطّ الأديان المؤمنة بالله، وخصوصًا تحت الخطّ الإبراهيمي أو الكتابي كما يسميه القرآن الكريم، إلا أنّها مع إقرارها بهذا الاختلاف والخلاف تقرر: الإيمان بكتب الآخر: (وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)، فمقدّسات الآخر وعلى رأسها كتبهم محترمة أيّا كانت، وينطبق هذا على معتقداتهم وطقوسهم وشعائرهم.
كما تقرر العدل الدّنيويّ: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، فالاختلاف في الدّين لا يرفع العدل في التّعامل الحياتيّ؛ لأنّه مرتبط بالماهيّة وليس بالهوّيّة، فهنا العدل قائم إنسانيًّا، ولا يرتفع لاختلاف دينيّ أو مذهبيّ.
وتقرر أيضًا وحدة الإله بين الجميع، وإن اختلفت مسمياته وصفاته وتصوّراته، إلا أنّ الجميع مؤمن بوجود قوّة فاعلة في الكون: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)، لهذا من مصاديقه النّهي عن سبّ الآخر ومعتقداته حول الإله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].
فإذا كانت وحدة الإله قائمة مع الاختلاف في تصوّره وشخصنته، إلا أنّ الاختلاف في التّوسل إليه ومصاديق عبادته من خلال الطّقوس واردة بشكل أكبر، ومع هذا تقرر الآية حريّة ذلك: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، بمعنى لا يكره أحد على ممارسة طقس غيره، كما لا يمنع ويحجر من ممارسة طقسه.
لهذا جاء النّهيّ عن الإكراه: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي لا إكراه لأحد، ولهذا مصاديق في القرآن عديدة منها قوله تعالى مثلا: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99].
وبعد هذا التّفصيل، والّذي يدخل في العدل الدّنيويّ، يقابله العدل الأخرويّ: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فيجعل الجزاء والمصير خاصًّا بيد الله تعالى وحده، حتّى لا يتأله أحد، ويجعل من نفسه إلهًا يحكم على العباد، ويوّزع صكوك الغفران، ليدخل من يشاء هو في رحمته حسب أفقه الضّيق، وتصوّره المحدود، بيد أنّ القرآن يجعل ذلك بيد الله تعالى المطلق العدل.
هذه قيمة الرّحمة سنجدها متجسّدة في أول آية في القرآن الكريم، ويكررها المسلم في طقوسه عشرات المرات يوميّا، وإن لم يهتم بها العديد لإسقاطات خاطئة في ذهنه مسبقا، فهو يكرر يوميّا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وقد قلتُ في كتابي التّفسير الإنسانيّ في القرآن الكريم، من تفسير سورة الفاتحة: «والله تعالى لم يخصص الرّحمة في الدّنيا ولا في الآخرة، ولم يشر هنا إلى المؤمنين ولا الكافرين، فقد فهم أغلب أهل التّفسير أنّ الرّحمن أي الرّحيم بالمؤمنين والكافرين في الدّنيا، والرّحيم أي بالمؤمنين فقط في الآخرة، لزيادة المبنى في فعلان، وزيادة المبنى يؤدي إلى زيادة المعنى، والحقيقة هذا تكلّف بلا دليل؛ لأنّ المراد هنا بيان الرّحمة الإلهيّة المرتبطة بذات الإنسان، وأكدها بصيغتين من صيغ المبالغة؛ لأنّ أصل العلاقة ولوازمها كالاستعانة قائمة على الرّحمة، وإذا كان هذا بالخالق العظيم، فكيف بمن وكلّ إليه استعانة سببيّة، كحاكم في دولة، أو وزير في وزارة، أو مسؤول في مؤسّسة، أو شيخ في قبيلة، فيجعل الاستعانة السّببيّة والواجبة عليه طريقًا لتكبره على الخلق، واستعلائه عليهم، واستغلال حاجتهم، فلا أثر للّرحمة هنا، وقد يرحم ذوي القربى والمصلحة، ويقصي غيرهم إمّا لخلاف جنس أو لون أو كانوا من طبقة الفقراء وذوي الحاجة».
وعليه ونحن نحتفي بميلاد النبيّ الأكرم -صلّى الله عليه وسلّم-، ينبغي أن نلتفت إلى هذه القيم، وعلى رأسها قيمتي المحبّة والرّحمة لتلازمهما، ونقرأ المصاديق في ظرفيتها، ونتوقف عند روحها وجوهرها.
وكنتُ قد كتبتُ العام الماضي عن الرّسول الإنسان، ووجدت في القرآن من المعاني العظيمة المتجسّدة في هذا الجانب، إلا أنّ هناك جانبًا مهمًا من إنسانيّته عليه السّلام المتجسّدة من خلال رسالته، وهي قيمة المحبّة، فلا يوجد نبيّ إلا ووصل إلى درجة الصّفاء ما يجعله غارقًا في حبّ الآخر، صغيرًا كان أم كبيرًا، ذكرًا أم أنثى، نباتًا أم حيوانًا أم جمادًا.
وأعظم ما يميز هذه المحبّة تلك الرّحمة الّتي عبّرت عنها الآية بوصف حصريّ بليغ جدًّا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء/ 107]، أي كأنّه لم يُرسل إلا رحمة للعالم أجمع، والرّحمة قيمة مضافة مرتبطة بالجنس البشريّ، وما دونها مصاديق لهذه الرّحمة، وذكر القرآن بعض تلك المصاديق كقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران/ 159].
إنّ قيمتي المحبّة والرّحمة تتميزا بالإطلاق والشّموليّة، والمصاديق لها ارتباط ظرفيّ وتأريخيّ، والنّاس يهتمون بالمصاديق ويتركون القيم والمبادئ، فتغيب عنهم جوهر رسالات الرّسل، ويتشبثون بحرفيّة المصاديق، كما أنّ الخصوم لا يدرسون هذه المصاديق حسب جوهر الرّسالات، ولا يضعونها في ظرفيتها الزّمكانيّة، فيحدث صراع وهميّ، ومحاكمات إسقاطيّة مختلفة زمانًا ومكانًا.
فأمّا من حيث الإطلاق أي ليست مرتبطةً بزمان ومكان ما، فالمحبّة والرّحمة قيمتان ملازمتان لهذا الإنسان مع الإنسان، ومع الحيوان والطّبيعة والكون أجمع، تتجسّد في نظرة الإنسان للآخر، وحبّه له، ورحمته به، وإن اختلف دينًا أو توجهًا أو جنسًا.
وكما أنّ قيمتي المحبّة والرّحمة مطلقة، فهما أيضًا تشمل الجنس البشريّ، لهذا في الأصالة لهما ارتباط فردانيّ بهذا الإنسان، فكونه إنسانًا فهو مكرم، حبّه ورحمته جزء من إنسانيّته، ولو خالفني دينًا أو فكرًا، واختلف عنّي لونًا أو جنسًا أو لغةً، فالاختلاف التّكوينيّ والكسبيّ لا يرفع هذه القيمة المضافة بأيّة حال، وعلى هذا تتشكل الهوّيّات على مبدأ المحبّة والرّحمة أيضًا.
وفي القرآن نماذج لهذا، نشير إلى نموذجين مثلا، النّموذج الأول قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8 -9].
فالآية فصلت بين الإنسان الطّبيعيّ المسالم، وهذا الأصل بين البشر، إذ الأصل فيهم المسالمة وليس الاعتداء، فهؤلاء لا علاقة بالبراءة، فلا معنى أن تتبرأ من إنسان يختلف عنك دينًا وتوجهًا وهو مسالم لم يعتدِ عليك، ولم يظلمك، فهذا تجب ولايته والتّعاون معه في بناء المجتمع، وخدمة الجنس البشريّ.
ولكن هناك فئة معتديّة، تظلم النّاس، وتأكل حقوقهم، وتعتدي عليهم في أنفسهم وأموالهم، ولو اشتركوا معك جنسًا أو لغةً أو دينًا أو مذهبًا، فهذا من حيث الأصالة لا يشفع لهم في اعتدائهم وظلمهم، ولهذا جاء النّهي عن ولايتهم ونصرتهم في ظلمهم، وهذا مصداق لقيمتي المحبّة والرّحمة، فهي مرتبطة بالإنسان وكرامته ابتداء.
والنّموذج الثّاني قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشّورى: 14 – 15].
وهذه أخصّ من الآية الأولى؛ لأنّ الأولى تتحدّث عن الجنس البشريّ، وهذه تتحدّث عن خطّ الأديان المؤمنة بالله، وخصوصًا تحت الخطّ الإبراهيمي أو الكتابي كما يسميه القرآن الكريم، إلا أنّها مع إقرارها بهذا الاختلاف والخلاف تقرر: الإيمان بكتب الآخر: (وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)، فمقدّسات الآخر وعلى رأسها كتبهم محترمة أيّا كانت، وينطبق هذا على معتقداتهم وطقوسهم وشعائرهم.
كما تقرر العدل الدّنيويّ: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، فالاختلاف في الدّين لا يرفع العدل في التّعامل الحياتيّ؛ لأنّه مرتبط بالماهيّة وليس بالهوّيّة، فهنا العدل قائم إنسانيًّا، ولا يرتفع لاختلاف دينيّ أو مذهبيّ.
وتقرر أيضًا وحدة الإله بين الجميع، وإن اختلفت مسمياته وصفاته وتصوّراته، إلا أنّ الجميع مؤمن بوجود قوّة فاعلة في الكون: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)، لهذا من مصاديقه النّهي عن سبّ الآخر ومعتقداته حول الإله: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].
فإذا كانت وحدة الإله قائمة مع الاختلاف في تصوّره وشخصنته، إلا أنّ الاختلاف في التّوسل إليه ومصاديق عبادته من خلال الطّقوس واردة بشكل أكبر، ومع هذا تقرر الآية حريّة ذلك: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، بمعنى لا يكره أحد على ممارسة طقس غيره، كما لا يمنع ويحجر من ممارسة طقسه.
لهذا جاء النّهيّ عن الإكراه: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي لا إكراه لأحد، ولهذا مصاديق في القرآن عديدة منها قوله تعالى مثلا: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99].
وبعد هذا التّفصيل، والّذي يدخل في العدل الدّنيويّ، يقابله العدل الأخرويّ: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فيجعل الجزاء والمصير خاصًّا بيد الله تعالى وحده، حتّى لا يتأله أحد، ويجعل من نفسه إلهًا يحكم على العباد، ويوّزع صكوك الغفران، ليدخل من يشاء هو في رحمته حسب أفقه الضّيق، وتصوّره المحدود، بيد أنّ القرآن يجعل ذلك بيد الله تعالى المطلق العدل.
هذه قيمة الرّحمة سنجدها متجسّدة في أول آية في القرآن الكريم، ويكررها المسلم في طقوسه عشرات المرات يوميّا، وإن لم يهتم بها العديد لإسقاطات خاطئة في ذهنه مسبقا، فهو يكرر يوميّا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وقد قلتُ في كتابي التّفسير الإنسانيّ في القرآن الكريم، من تفسير سورة الفاتحة: «والله تعالى لم يخصص الرّحمة في الدّنيا ولا في الآخرة، ولم يشر هنا إلى المؤمنين ولا الكافرين، فقد فهم أغلب أهل التّفسير أنّ الرّحمن أي الرّحيم بالمؤمنين والكافرين في الدّنيا، والرّحيم أي بالمؤمنين فقط في الآخرة، لزيادة المبنى في فعلان، وزيادة المبنى يؤدي إلى زيادة المعنى، والحقيقة هذا تكلّف بلا دليل؛ لأنّ المراد هنا بيان الرّحمة الإلهيّة المرتبطة بذات الإنسان، وأكدها بصيغتين من صيغ المبالغة؛ لأنّ أصل العلاقة ولوازمها كالاستعانة قائمة على الرّحمة، وإذا كان هذا بالخالق العظيم، فكيف بمن وكلّ إليه استعانة سببيّة، كحاكم في دولة، أو وزير في وزارة، أو مسؤول في مؤسّسة، أو شيخ في قبيلة، فيجعل الاستعانة السّببيّة والواجبة عليه طريقًا لتكبره على الخلق، واستعلائه عليهم، واستغلال حاجتهم، فلا أثر للّرحمة هنا، وقد يرحم ذوي القربى والمصلحة، ويقصي غيرهم إمّا لخلاف جنس أو لون أو كانوا من طبقة الفقراء وذوي الحاجة».
وعليه ونحن نحتفي بميلاد النبيّ الأكرم -صلّى الله عليه وسلّم-، ينبغي أن نلتفت إلى هذه القيم، وعلى رأسها قيمتي المحبّة والرّحمة لتلازمهما، ونقرأ المصاديق في ظرفيتها، ونتوقف عند روحها وجوهرها.