تتفاوت الأزمات في مدى قدرتها على التأثير على الوحدات الاجتماعية والعمليات الاجتماعية الحيوية في أي مجتمع، فالأزمات الطبيعية (الفجائية) تحتمل تأثيرًا أكبر على عمليات المعاش اليومي بالنسبة للأفراد في المجتمعات، وبالتالي فإن إعادة بناء التماسك الاجتماعي وعودة نظم الحياة الاجتماعية إلى مسارها الطبيعي يفترض عددًا من الآليات التي تختلف فيما لو كانت الأزمة من سياق مختلف، كأن تكون أزمة اقتصادية، أو صحية، أو سياسية أو سواها. وفي كل الأحوال فنحن هنا لا نتحدث عن إعادة الحياة إلى نظمها الطبيعية بمفهومها المادي من خلال توفير الاحتياجات الأساسية للمتأثرين بها، وإعادة هيكلة البنى اللوجستية، أو تنضيد التأثيرات البيئية والمكانية الناتجة عن الأزمة، بقدر ما نتحدث أيضًا عن بعد متقدم في شكل الحياة الاجتماعية وهو يتمحور حول الكيفية التي تعود بها حياة الناس الاجتماعية (تفاعلاتهم، علاقاتهم، تواصلاتهم، نشاطهم الإنتاجي المشترك، فضاءهم الاجتماعي العام المشترك، المعنى الاجتماعي لحيواتهم...) إلى وضعها الطبيعي وانسجامها وتكيفها مع الأنساق العامة.

اشتغل عدد محدود من الدراسات في حقل العلوم الاجتماعية على هذه المسألة، مع تركيز واسع على الطريقة التي يتغير بها السلوك الاجتماعي، أو على عنصر الصدمة، أو الكارثة الاجتماعية، ولكن العدد المحدود من الدراسات تناول الكيفية التي يمكن من خلالها (أثناء وبعد) الأزمة تسريع عودة الحياة الاجتماعية إلى نسقها الطبيعي، نذكر منها على سبيل المثال الجهود البحثية لـ (ADI SURYANI) و (SOEDARSO) اللذين ركزا جهودهما البحثية على الكيفية التي تحفز فيها الاتصالات الاجتماعية بعد الكوارث مرونة المجتمعات وتعلمها من الكوارث، ركز مشروعهما البحثي على تقصي أهمية الاتصالات الاجتماعية في أعقاب الكارثة الطبيعية التي أصابت مدينة «بالو» الإندونيسية التي ضربها زلزال قوي في سبتمبر 2018 بواقع 7.5 درجة على مقياس ريختر، وراح ضحيته قرابة 2200 شخص، وخلف موجات بحرية مدمرة، وأسهم في نزوح ما يقارب 230 ألفا من سكان المدينة. خلص المشروع البحثي إلى أن الاتصالات الاجتماعية (التواصل/ التعاون/ المساعدة التي تجري بين السكان المحليين بعد الكارثة) تؤدي عدة وظائف أساسية لإعادة بناء التماسك الاجتماعي وتعزيز مرونة المجتمع ومنها:

- المشاركة الاجتماعية والعاطفية وبناء المرونة الذاتية.

- حل المشكلات الجماعية وحفز التعلم من الأزمات.

- اتصالات التنبيه أو التحذير.

- العمل الجماعي على إعادة البناء والفاعلية والتحفيز.

يعيدني هذا التحليل إلى ما حدث بعد إعصار شاهين من (هبة مجتمعية) للعون والمساعدة، وهنا نقف على أهمية تفاصيل بسيطة منها الانخراط في حوارات عابرة مع سكان الولايات المتأثرة وكيف يمكن أن تخلق مثل هذه الأحاديث تخفيفًا من وقع ما حدث مجتمعيًا، حيث تؤدي هذه الأحاديث إلى ما يسميه عالم النفس الاجتماعي (James W. Pennebaker) بإخبار التجربة العاطفية الذي يؤدي إلى بناء المرونة العاطفية مع الأزمة وهي حسب تصوره تساعد الأفراد على توصيل تجربتهم مع الأزمة أو الكارثة، ومشاركة لحظات النجاة منها، وحكاية تجربة معبرة حولها. وبالتأكيد فإن هذه الحوارات التي تأتي غالبًا مختلطة بمشاعر مختلفة، مهما كانت حدتها فإنها من خلال مشاركتها اجتماعيًا تساهم في تخفيف حدة التوتر العاطفي بعد الأزمة أو الكارثة. إضافة إلى ذلك فقد أسهم وجود المتطوعين أو من هبوا للمساندة في الأيام الأولى بعد إعصار شاهين إلى التنبيه على الأماكن الأكثر ضررًا أو تلك التي يصعب الوصول إليها، أو البقاع ذات الاحتياجات القصوى، وهو ما يقع تحت بُعد «اتصالات التنبيه أو التحذير». وأسهمت هذه الهبة كذلك في تحقيق بعد التعلم التلقائي من الأزمات، فالأشخاص الذين تواجدوا من مستويات علمية وثقافية وخبراتية مختلفة تكمل خبراتهم ومعارفهم بعضها البعض، الأمر الذي يؤدي لصياغة منظومة معرفة متكاملة ومشورة تُسدى لأهالي الولايات المتأثرة حول الكيفية التي من الممكن أن يتعاملون بها مع تفاصيل معينة، مثل إصلاح خلل معين، أو إعادة إعمار ناحية معينة، أو بث الحياة في سياق معين، فهذه المعرفة الاجتماعية التكاملية المتشكلة من خلال مواقف ما بعد الأزمة تؤدي إلى حل المشكلات الجماعية إضافة إلى دورها النفسي والعاطفي في إعادة بناء التماسك الاجتماعي.

تعلمنا تجارب التعامل مع الأزمات والكوارث المختلفة باختلاف أنماطها ولعل آخرها «إعصار شاهين»، و جائحة «كوفيد 19» ومن قبلها أزمات عديدة، الحاجة إلى ضرورات قصوى لعل أولها بناء قدرات التطوع «النوعي»، كلنا باستطاعته أن يكون فاعلًا تطوعيًا نوعيًا في مجاله، ولكن من خلال اكتساب (الحافز - مهارات الانخراط في النظم الطوعية - الأدوات - التيسيرات المؤسسية). في جائحة (كوفيد 19) كان الاحتياج ضروريًا لقدرات تطوعية متخصصة، مثلما حدث الآن في «إعصار شاهين» ففنيو الكهرباء، والمتخصصون في إصلاح المركبات، والعاملون في حقل الصحة النفسية، والمعلمون، وقس عليهم من الفئات النوعية من الممكن أن تكون من خلالها إكسابها مهارات محددة جاهزة للتعامل مع أي أزمة قادمة، ومستوعبة لدورها في سياق منظومة التطوع النوعي، وتتحرك باتساق مع بقية أطراف المنظومة الرسمية والأهلية لقيادة جهود التعافي. كما تعلمنا التجارب كذلك أهمية إكساب مفاهيم «الاتصال الاجتماعي في الأزمات» وهذه المفاهيم وما ينبثق عنها من مهارات من الممكن أن تكون أحد المضامين التعليمية في مراحل التعليم الأكاديمي، حيث يكتسب معها الطالب الطرق والأساليب التي يمكن خلالها أن يتفاعل مع السياقات المأزومة لتحقيق تخفيف المعاناة والمساندة الاجتماعية الصحية، والمشاركة في جهد التعافي العاطفي والنفسي.

لقد شكلت الهبة المجتمعية - التي ما زالت متواصلة - منطلقًا مهمًا من منطلقات إعادة بناء التماسك الاجتماعي ما بعد الأزمة، فهي إلى جانب مقوماتها المادية (العون المادي) اتكأت على مقومات معنوية من (الاتصالات الاجتماعية) وجاءت مدعومة بتغطية مهنية متوازنة من وسائل الإعلام على اختلافها، الأمر الذي نتفاءل به كثيرًا أن يعيد نسق الحياة الاجتماعية إلى الولايات المتأثرة بأسرع وقت ممكن. حفظ الله عُمان قيادة وشعبًا.