فجر الجمعة، الثامن من أكتوبر، كنتُ أقودُ سيارتي من مسقط إلى شمال الباطنة، فألحظُ كثافة السيارات الكبيرة المُحملة بالمؤن والأغراض ومستلزمات الحياة الأساسية. سيارات صغيرة رُبطت على أسطحها معدات التنظيف. ألاحظُ الحافلات الضاجة بحيوية المتطوعين القادمين لإيقاد الأمل. ذلك التحرك الشعبي، الذي لم يكن وراءه مُحرضٌ رسمي وإنّما العاطفة والتآزر، مُثبتين أنّه إذا اشتكى عضوٌ من عُمان تداعى بقية الأعضاء بالسهر والحُمى. ذلك المشهد المُهيب، أعطى فهمًا واقعيًا ووعيًا لمعنى الانتماء، خارج الشعارات الفارغة.
مرّ بيتُ أبي العتاهية ببالي في الشوارع المزدحمة: "من ذا يُعيرك عينه تبكي بها، أرأيت عينا للبكاء تُعار"، فالناس التي كانت تبكي دمًا على أرواح فارقتها دون وداع كافٍ، تبكي لتداعي ممتلكاتها، ابتداء من الصور وليس انتهاء بسقوط أجزاء من منازلها إن لم تكن كلّها، وغرق سياراتها ومزارعها، ونفوق حيواناتها، وطمْرٍ مؤذٍ لآبارها، وجدتْ في الحضور الاستثنائي والحج البشري من مسندم إلى صلالة عزاءً ما بعده عزاء، فقد جاؤوا بعتادهم، رجالًا ونساءً وأطفالًا، ليدفعوا شبح الخوف والرهبة، لذا لا يمكن لتلك اللقطة السينمائية الواقعية أن تُمحى بسهولة من ذاكرة العمانيين، سنحتفظ بها في أعمق ذرة من أرواحنا.
أول ما يمكن أن يلحظه أحدنا إضافة إلى سحب الغبار، انكشاف المنازل على بعضها البعض، فقد اسقطت الأودية الجدران، فباتت البيوت مرئية، والطمي يُغطي مساحات شاسعة منها. وهنالك يمكنك أن تسمع قصصًا مُبكيةً وصادمةً، لا يمكن لمخيلة الواحد منا إلا أن تجمح لكي تصدقها، وجوار قصصهم قصص الحيوانات التي أدخلها أصحابها لمنازلهم عندما ارتفع منسوب الماء وتجاوز أعناقها المُشرئبة.
التجأ الكثير من أهالي شمال الباطنة لمنازل ذويهم في الولايات التي تتمتع بالكهرباء والماء، وقالت أمّي أول ما ضممتها إلى حضني وبكينا معا: "لقد خرجنا من مقبرة". ذلك التعبير الصادم أصابني بقشعريرة هائلة. أمّا جدي الذي يدخل عقده التاسع ويتمتع بذاكرة جيدة، فقد أكد لي بأنّه لا يتذكر حادثة مشابهة لإعصار شاهين إلا ما حكاه له أهله عن "جرفة صفر"، تلك التي تُخلد النقوش الحجرية وقوعها قبل ما يقرب من 200 سنة.
وإذا توارد القول إنّ أكثر ما يدلُ على تحضر الإنسان، هو قدرته على أن يُباعد بينه وبين فضلاته، بمعنى الصرف الصحي، فأظن أنّ أكثر ما سيدل على تحضرنا كعُمانيين هو أن نُباعد بين منازلنا وبين الأودية، تلك الوحوش النائمة والمتربصة لأي فرصة مواتية.
ظنّ البعض أنّ الناس في الولايات المتضررة، تأذت لأنّها لم تخرج من منازلها عندما طُلب منها الإخلاء، ولكن الحقيقة الصادمة أنّ الناس التي تقطن في "السيوح" البعيدة عن البحر وحتى بعض مراكز الإيواء، تأذت لدرجة فادحة أيضًا، نظرًا لتزاحم الأودية حول بيوتها، وبعض البيوت والحظائر والمزارع امتحت تمامًا من الوجود!
لا أحد منا يمكنه لوم الطبيعة وقسوتها ولكن "عليك تأمل تدهور أوضاعك لتعيد اختراعها" كما يُقال، علينا حقًا أن نعيد اختراع حياتنا ابتداء من: أين توزع الحكومة الأراضي؟ وكيف يبنيها المواطن؟
أمّا تصريف المياه فتلك قصّة أخرى تجاوزتها الشعوب الفقيرة المُمطرة منذ قرون، بينما نحن نغرق في شبر ماء! ربما إحساسنا الأبدي بالجفاف هو ما يُبعد عنا التصورات الأخرى -السينمائية- بإمكانية أن تقضي المياه على حياتنا!
أمّا أكثر الأشياء التي تدعو للتعجب، فتكمن في أنّ هذا البلد الذي يتعرض للجفاف في مواسم كثيرة، يُهدر ماء سيوله ووديانه في البحر، كما قد تفعل القربة المقطوعة، بينما يمكن لهذا الماء أن يُعيد الحياة للمزارع الميتة، بل يمكن أن يكون منتجًا للطاقة بدلًا من عودة شمال الباطنة للبحث عن "ناطور" يذكرنا بأيام السبعينيات!
وكان على حماية المستهلك أن تُحرك خطوطها الساخنة لردع وحوش المال وعبدته الذين استثمروا الأزمة ليضاعفوا أرباحهم من أناس بالكاد خرجوا من أزمة كوفيد 19، ليدخلوا مآزق جديدة لم يحسبوا لها حسابًا!
وإن كنا لا ننكر الجهد الحكومي اللافت في إدارة الأزمة والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بروح وثابة، إلا أنّ الاستماع لشكوى الناس من مسافة أقرب، كان يمكن أيضا أن يصنع لحظة تاريخية فارقة!
مرّ بيتُ أبي العتاهية ببالي في الشوارع المزدحمة: "من ذا يُعيرك عينه تبكي بها، أرأيت عينا للبكاء تُعار"، فالناس التي كانت تبكي دمًا على أرواح فارقتها دون وداع كافٍ، تبكي لتداعي ممتلكاتها، ابتداء من الصور وليس انتهاء بسقوط أجزاء من منازلها إن لم تكن كلّها، وغرق سياراتها ومزارعها، ونفوق حيواناتها، وطمْرٍ مؤذٍ لآبارها، وجدتْ في الحضور الاستثنائي والحج البشري من مسندم إلى صلالة عزاءً ما بعده عزاء، فقد جاؤوا بعتادهم، رجالًا ونساءً وأطفالًا، ليدفعوا شبح الخوف والرهبة، لذا لا يمكن لتلك اللقطة السينمائية الواقعية أن تُمحى بسهولة من ذاكرة العمانيين، سنحتفظ بها في أعمق ذرة من أرواحنا.
أول ما يمكن أن يلحظه أحدنا إضافة إلى سحب الغبار، انكشاف المنازل على بعضها البعض، فقد اسقطت الأودية الجدران، فباتت البيوت مرئية، والطمي يُغطي مساحات شاسعة منها. وهنالك يمكنك أن تسمع قصصًا مُبكيةً وصادمةً، لا يمكن لمخيلة الواحد منا إلا أن تجمح لكي تصدقها، وجوار قصصهم قصص الحيوانات التي أدخلها أصحابها لمنازلهم عندما ارتفع منسوب الماء وتجاوز أعناقها المُشرئبة.
التجأ الكثير من أهالي شمال الباطنة لمنازل ذويهم في الولايات التي تتمتع بالكهرباء والماء، وقالت أمّي أول ما ضممتها إلى حضني وبكينا معا: "لقد خرجنا من مقبرة". ذلك التعبير الصادم أصابني بقشعريرة هائلة. أمّا جدي الذي يدخل عقده التاسع ويتمتع بذاكرة جيدة، فقد أكد لي بأنّه لا يتذكر حادثة مشابهة لإعصار شاهين إلا ما حكاه له أهله عن "جرفة صفر"، تلك التي تُخلد النقوش الحجرية وقوعها قبل ما يقرب من 200 سنة.
وإذا توارد القول إنّ أكثر ما يدلُ على تحضر الإنسان، هو قدرته على أن يُباعد بينه وبين فضلاته، بمعنى الصرف الصحي، فأظن أنّ أكثر ما سيدل على تحضرنا كعُمانيين هو أن نُباعد بين منازلنا وبين الأودية، تلك الوحوش النائمة والمتربصة لأي فرصة مواتية.
ظنّ البعض أنّ الناس في الولايات المتضررة، تأذت لأنّها لم تخرج من منازلها عندما طُلب منها الإخلاء، ولكن الحقيقة الصادمة أنّ الناس التي تقطن في "السيوح" البعيدة عن البحر وحتى بعض مراكز الإيواء، تأذت لدرجة فادحة أيضًا، نظرًا لتزاحم الأودية حول بيوتها، وبعض البيوت والحظائر والمزارع امتحت تمامًا من الوجود!
لا أحد منا يمكنه لوم الطبيعة وقسوتها ولكن "عليك تأمل تدهور أوضاعك لتعيد اختراعها" كما يُقال، علينا حقًا أن نعيد اختراع حياتنا ابتداء من: أين توزع الحكومة الأراضي؟ وكيف يبنيها المواطن؟
أمّا تصريف المياه فتلك قصّة أخرى تجاوزتها الشعوب الفقيرة المُمطرة منذ قرون، بينما نحن نغرق في شبر ماء! ربما إحساسنا الأبدي بالجفاف هو ما يُبعد عنا التصورات الأخرى -السينمائية- بإمكانية أن تقضي المياه على حياتنا!
أمّا أكثر الأشياء التي تدعو للتعجب، فتكمن في أنّ هذا البلد الذي يتعرض للجفاف في مواسم كثيرة، يُهدر ماء سيوله ووديانه في البحر، كما قد تفعل القربة المقطوعة، بينما يمكن لهذا الماء أن يُعيد الحياة للمزارع الميتة، بل يمكن أن يكون منتجًا للطاقة بدلًا من عودة شمال الباطنة للبحث عن "ناطور" يذكرنا بأيام السبعينيات!
وكان على حماية المستهلك أن تُحرك خطوطها الساخنة لردع وحوش المال وعبدته الذين استثمروا الأزمة ليضاعفوا أرباحهم من أناس بالكاد خرجوا من أزمة كوفيد 19، ليدخلوا مآزق جديدة لم يحسبوا لها حسابًا!
وإن كنا لا ننكر الجهد الحكومي اللافت في إدارة الأزمة والعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بروح وثابة، إلا أنّ الاستماع لشكوى الناس من مسافة أقرب، كان يمكن أيضا أن يصنع لحظة تاريخية فارقة!