لا يمكنني نسيان تلك الصورة، حيث يجلسُ الأبطال المُتعبون في فيلم «The day after tomorrow»، بعد عاصفة قاسية في يأس شديد، ليحرقوا كتب مكتبة نيويورك العامّة التي احتموا بداخلها، ليستمدوا الدفء الأخير قبل أن يتجمدوا، تلك الكتب التي التهمتها النيران لتحمي حياتهم.

يبدو لي أنّ أولى خبراتنا عن الأعاصير لم تبدأ بتجارب واقعية، وإنّما بدأت برفقة الأفلام والقراءة. فقبل عام 2007 كانت كلمة إعصار أشبه بفيلم سينمائي، تتقاذف فيه الرياح الهائلة الأبطال وترجهم وتخدش اطمئنانهم اليومي. يسحقُ الإعصار الشخصيات غير الرئيسية في الفيلم ويجعلها تخفق في المقاومة، بينما يصمد الأبطال الرئيسيون.

عرفنا مفردات من قبيل «مراكز الإيواء» أو السراديب التي تقبع تحت الأرض، وكلمات من قبيل «عين الإعصار» الذي كلما تقدم كلما تصاعد مستوى الإثارة، عرفنا عن المشاعر الأولى التي يمكن أن تحدس بها بعض الحيوانات باستشعارها البدائي.

في عام 2007، انسحب الأمر من شاشة الأفلام إلى الواقع، رغم أنّ الأمر بالنسبة لي بقي فيلما ذا صبغة محلية، فقد كنتُ في مشاركة خارج البلاد عندما وجدتُ الناس يقدمون لي المواساة، فاستيقظ القلق بداخلي كما يستيقظ وحش نائم، ولم تفلح كل اتصالاتي في التقاط أي خط مع أهلي أو معارفي، وبقيتُ داخل ذروة فيلم مُرعب، لا أعرف كيف أتجاوزه!

بكاء الإعلامي خالد الزدجالي في التلفزيون العُماني، وصورة ماكدونالدز المغمور بالماء حيث لا يظهر منه إلا حرف «m»، صورة الدوامة المائية الأشبه بعين إعصار التي التقطها عبدالرحمن الهنائي، القصص المرعبة التي حكاها الناس عن عودتهم لحياة بدائية دون كهرباء أو ماء، والأيدي الخيرة التي منحت محبتها وعونها بإخلاص قلّ نظيره، كلّها أشياء خزنتها الذاكرة كتجربة فارقة في حياتنا المعاصرة.

عدتُ إلى شقتي في العذيبة بعد أيام، كان الطمي قد ملأ السلالم المؤدية للطابق الثاني، الأمر الذي جعلني أشعر بالتوجس. ابني إلياس في شهره الثالث متشبث بي، والرائحة الكريهة تخرج من كل مكان. الطمي يملأ الشقة، لكن الأثاث لم يتأثر بصورة مباشرة كما حدث مع الذين قطنوا الطابق الأول. الرائحة الكريهة كانت تأخذني إلى المطبخ. الكهرباء مقطوعة، والدماء تسيل من الثلاجة وترن فوق السراميك نقطة نقطة، كان ذلك المشهد هو الأكثر إخافة بالنسبة لي.

الصرخة التي خرجت مني ودفعت جارتي لأن تطرق بابي بشكل متواصل، لم تكن لأنّ ثمة جثة حقيقية داخل ثلاجتي، كنتُ موقنة أنّها دماء دجاجاتي وأسماكي التي لم تصمد في غياب الكهرباء، لكن سبب صراخي هو الجرذان الثلاثة التي لا أعلم من أين دخلت وتراكضت في أنحاء المطبخ، دون أن أعلم متى سأخرج من فيلم الرعب ذاك!

زميلي في العمل قال: «لا تستبعدي أن تدخل من المرحاض». كم بدا ذلك مقززا، ولكن في ظرف كهذا كل شيء ممكن الحدوث.

شاهدتُ فيلم the impossible لأول مرّة في الطائرة، كنتُ معلقة بين السماء والأرض، حيث تقع الأحداث الكئيبة التي تعصف بالعائلة في «تايلند»، سأتذكر دموعي بينما الأمّ المنهكة تصوبُ نظرتها الأخيرة من النافذة إلى الفوضى العارمة التي تصنعها الطبيعة الغاضبة!

وكما يعيد التاريخ نفسه، تعيد الأعاصير نفسها وإن كانت بدرجات مختلفة، وكما أنّ بعضنا لا يتعلم من التاريخ فبعضنا لا يتعلم من الأعاصير. فقد خلّفت أعاصير سابقة مثل جونو وفيت ومكونو أضرارا هائلة وتأذى الناس كثيرا، وبعض ما أفسدته الطبيعة القاسية لم يتم إصلاحه حتى اللحظة!

ما زلنا نسمحُ بإعطاء ملكيات الأراضي في الأودية، ونسمح ببنائها أيضا، رغم أننا نعلم أنّه مهما عبر الجفاف حياتنا، فإن الأودية وحش نائم سيستيقظ في أي لحظة!

كان لدى أجدادنا تبصر بأهمية دخول الضوء والهواء لبيوتهم الطينية، تبنى منازلهم بحيث تكون باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، رغم ضعف إمكانياتهم المادية، بينما وفرة المال الآن ووفرة التصاميم وجمالها، لم تكن غالبا على وفاق مع الطبيعة والبيئة!

وبينما يرفض البعض الذهاب لمراكز الإيواء، غير مبالين بحياة أحبتهم، فإن القطة التي أنجبت قبل أيام، حملتْ أولادها الصغار بفطرتها الأمومية، ووضعتهم تحت خيمة حديقتي.