في الملصق الشهير لفيلم الرعب «صمت الحملان»، تظهرُ العثّة ليست على حالتها الطبيعية، فما أن ندقق النظر ونُكبر الصورة، نرى جمجمة مخيفة أعلى صدر العثة. ويشيرُ المخرج إلى أنّ الفنان الإسباني سلفادور دالي هو مُلهمها الأساسي. تمكثُ العثة فوق شفتيّ البطلة جودي فوستر تمامًا، وهي تلعب دور «كلاريس ستارلينج»، ليأخذ الصمت معناه الأعمق والأكثر رعبًا.
في الفيلم تحكي كلاريس ستارلينج عن تجربتها عندما شاهدت الحملان في مزرعة أقاربها، «وأرادت أن تنقذها من الذبح، ففتحت لها باب الحظيرة، ولكن الحملان لم تتحرك أو تهرب، وظلت صامتة». الأمر الذي يُحيلنا إلى تذكر رواية «النمر الأبيض» التي تحولت إلى فيلم أيضًا، فحتى لو فتحت أقفاص الدجاج وطلبت منها أن تهرب، فهي لن تفكر بالمغادرة إلا في يد ذابحها وسالخ جلدها!
يُشكل الصمتُ علامة فارقة في فيلم «صمت الحملان»، الذي يصنف كأيقونة لأفلام الرعب المأخوذة من دراما الطب النفسي، ذلك «الرعب الممزوج بالدهاء وفلسفة القطيع». لطالما تمّ تمجيد الصمت في الثقافة العربية أيضًا، فإن كان «الكلام من ذهب فالسكوت من فضة»، لكن المغزى هو تمجيد الذين يعملون بصمت، أولئك الذين يتركون أعمالهم تتحدث نيابة عنهم، خلافًا للمثل القائل: «مالي أسمعُ جعجعة ولا أرى طحنا»!
«يشعُ الصمتُ أحيانًا ببلاغة عميقة، ويترك أثرًا جماليًا لا يُخطئه عقلٌ راجح»، ولكن يحصل أيضًا أن يُخبئ الصمت الخواء المُضمر الذي لا نريد أن نضع أيدينا عليه، ولذا فهو محل جدلٍ أبدي، لا يحسمُ أمره إلا الموقف الذي يُظهرُ معناه بجلاء.
وإن كان المثل القائل: «الفم المُطبق لا يدخله الذباب»، مُلائمًا لسبعينيات القرن الماضي، حيث العمل يكشف عن نفسه.. شارع هنا، ومدرسة هناك وافتتاح مستشفى وتركيب إضاءة، في وقت كان ذلك هو الطموح الأعلى للمواطن، فالوعي الجديد والمتدافع لا يُقاس بتاتًا بآليات الخطاب وقتذاك، فثمّة ما ينبغي أن ينفتح بين القطبين.. المسؤول والمواطن. فالمسؤول إن استعمل الصمت ـ لكي يتكلم عمله نيابة عنه ـ يمكن للمواطن أن يستعمل الصوت ـ ليعبر عن خيبة أمله وإحباطه ـ أيضًا.
نتصور أحيانًا أنّ ضجيج التحدث عمّا ننجزه، سيُعطي صورة غير لائقة، ولكنه في كثير من الأحيان يكون أكثر ما نحتاج إليه، فنحن لسنا في جمعية خيرية تُخفي اليد اليمن ما تقوم به عن اليد اليسرى، وإنّما في دولة مؤسسات نفترض أنّ لديها دومًا ما تتحدث عنه!
وإن كانت الفلسفة ترى أنّ «الصمت رياضة للذهن ومصفاة للنفس ونافذة للتأمل»، فسقراط لم يُمجد الصمت، ورأى أنّ التحدث أكثر قدرة على جعلنا نرى الذي يقف أمامنا «تحدث لكي أراك»، باعتبار أنّ «وعي المرء يستره السكوت».
في رواية «صمت البحر» للكاتب الفرنسي فيركور يجعل من الصمت وسيلة لمقاومة وقهر العدو، «فالروح الصامتة هي العدو اللدود لكل الديكتاتوريات». ولذا من المؤكد أن ينتفي المعنى العذب للصمت، في واحد من أكثر المشاهد الدرامية بالغة «الكاريكاتورية»، عندما يقف ثلّة من الرجال يشدون خناجرهم فوق دشاديشهم ويلتقطون الصور أمام مشاريع ضئيلة لا تغني ولا تسمن من جوع!
قضى المخرج مارتن سكورسيزي ربع قرن من عمره لإعداد فيلمه «الصمت»، وهو عبارة عن ملحمةٍ دينية مرهقة، «لا يحاول حلّ ألغاز الصمت أو فك رموزه، بل يتأمل ما ورد فيه من أفكار».
ولذا فالصمت سواء في الأدب والفن أو في الواقع، يلعبُ دورين مهمين ومتناقضين على الدوام، فيغدو عميقًا وذا مغزى جمالي ويترك وقعًا مذهلًا في النفس عندما تستطيع بحواسك كلها أن تدركه، فتراه وتسمعه وتشمه وتلمسه، أو على النقيض تمامًا يُحدث قلاقل أنت في غني عنها، عندما تتبدى لنا سطحيته وهشاشته وتحايله.
فالصمت يُفرغ أحيانا من معناه الرصين، عندما نكون في مواجهة الفراغ والخواء، ذلك الذي لا نقدر على ملئه بصورة محسوسة، في وقت لم نعد فيه معزولين في أقفاص ولا حظائر، ولم تعد العثّة قادرة على أن تطبق فوق الشفاه!
في الفيلم تحكي كلاريس ستارلينج عن تجربتها عندما شاهدت الحملان في مزرعة أقاربها، «وأرادت أن تنقذها من الذبح، ففتحت لها باب الحظيرة، ولكن الحملان لم تتحرك أو تهرب، وظلت صامتة». الأمر الذي يُحيلنا إلى تذكر رواية «النمر الأبيض» التي تحولت إلى فيلم أيضًا، فحتى لو فتحت أقفاص الدجاج وطلبت منها أن تهرب، فهي لن تفكر بالمغادرة إلا في يد ذابحها وسالخ جلدها!
يُشكل الصمتُ علامة فارقة في فيلم «صمت الحملان»، الذي يصنف كأيقونة لأفلام الرعب المأخوذة من دراما الطب النفسي، ذلك «الرعب الممزوج بالدهاء وفلسفة القطيع». لطالما تمّ تمجيد الصمت في الثقافة العربية أيضًا، فإن كان «الكلام من ذهب فالسكوت من فضة»، لكن المغزى هو تمجيد الذين يعملون بصمت، أولئك الذين يتركون أعمالهم تتحدث نيابة عنهم، خلافًا للمثل القائل: «مالي أسمعُ جعجعة ولا أرى طحنا»!
«يشعُ الصمتُ أحيانًا ببلاغة عميقة، ويترك أثرًا جماليًا لا يُخطئه عقلٌ راجح»، ولكن يحصل أيضًا أن يُخبئ الصمت الخواء المُضمر الذي لا نريد أن نضع أيدينا عليه، ولذا فهو محل جدلٍ أبدي، لا يحسمُ أمره إلا الموقف الذي يُظهرُ معناه بجلاء.
وإن كان المثل القائل: «الفم المُطبق لا يدخله الذباب»، مُلائمًا لسبعينيات القرن الماضي، حيث العمل يكشف عن نفسه.. شارع هنا، ومدرسة هناك وافتتاح مستشفى وتركيب إضاءة، في وقت كان ذلك هو الطموح الأعلى للمواطن، فالوعي الجديد والمتدافع لا يُقاس بتاتًا بآليات الخطاب وقتذاك، فثمّة ما ينبغي أن ينفتح بين القطبين.. المسؤول والمواطن. فالمسؤول إن استعمل الصمت ـ لكي يتكلم عمله نيابة عنه ـ يمكن للمواطن أن يستعمل الصوت ـ ليعبر عن خيبة أمله وإحباطه ـ أيضًا.
نتصور أحيانًا أنّ ضجيج التحدث عمّا ننجزه، سيُعطي صورة غير لائقة، ولكنه في كثير من الأحيان يكون أكثر ما نحتاج إليه، فنحن لسنا في جمعية خيرية تُخفي اليد اليمن ما تقوم به عن اليد اليسرى، وإنّما في دولة مؤسسات نفترض أنّ لديها دومًا ما تتحدث عنه!
وإن كانت الفلسفة ترى أنّ «الصمت رياضة للذهن ومصفاة للنفس ونافذة للتأمل»، فسقراط لم يُمجد الصمت، ورأى أنّ التحدث أكثر قدرة على جعلنا نرى الذي يقف أمامنا «تحدث لكي أراك»، باعتبار أنّ «وعي المرء يستره السكوت».
في رواية «صمت البحر» للكاتب الفرنسي فيركور يجعل من الصمت وسيلة لمقاومة وقهر العدو، «فالروح الصامتة هي العدو اللدود لكل الديكتاتوريات». ولذا من المؤكد أن ينتفي المعنى العذب للصمت، في واحد من أكثر المشاهد الدرامية بالغة «الكاريكاتورية»، عندما يقف ثلّة من الرجال يشدون خناجرهم فوق دشاديشهم ويلتقطون الصور أمام مشاريع ضئيلة لا تغني ولا تسمن من جوع!
قضى المخرج مارتن سكورسيزي ربع قرن من عمره لإعداد فيلمه «الصمت»، وهو عبارة عن ملحمةٍ دينية مرهقة، «لا يحاول حلّ ألغاز الصمت أو فك رموزه، بل يتأمل ما ورد فيه من أفكار».
ولذا فالصمت سواء في الأدب والفن أو في الواقع، يلعبُ دورين مهمين ومتناقضين على الدوام، فيغدو عميقًا وذا مغزى جمالي ويترك وقعًا مذهلًا في النفس عندما تستطيع بحواسك كلها أن تدركه، فتراه وتسمعه وتشمه وتلمسه، أو على النقيض تمامًا يُحدث قلاقل أنت في غني عنها، عندما تتبدى لنا سطحيته وهشاشته وتحايله.
فالصمت يُفرغ أحيانا من معناه الرصين، عندما نكون في مواجهة الفراغ والخواء، ذلك الذي لا نقدر على ملئه بصورة محسوسة، في وقت لم نعد فيه معزولين في أقفاص ولا حظائر، ولم تعد العثّة قادرة على أن تطبق فوق الشفاه!