بعد سنوات من الفرقة والانقسام، تتجه المنطقة العربية إلى ترسيخ مبدأ الحوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والاحترام المتبادل. وأمامنا تجربتان إحداهما برهنت على نجاحها جسدها مؤخرا مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة مع دول الجوار والإقليم، وأخرى تتلمس خطاها تتمثل في جهود دول الجوار لحل الأزمة الليبية. ولأن الثانية لم تكتمل بعد، ولا تزال تواجه عقبات، يصبح التركيز على معطيات ونتائج الأولى ضروريًا ليس فقط للتنويه عن جدوى ما قام به العراق، وإنما لكي تستفيد منه الأطراف المعنية بالحالة الليبية، ولربما تمتد الفائدة لوضع نهاية سعيدة للحالة اليمنية.

لقد نجح العراق برغم كل مشاكله الثقيلة في أن يجمع في بغداد عددا مؤثرا في سياسات المنطقة العربية شمل تركيا وإيران وقطر والسعودية والكويت والإمارات والأردن ومصر، بالإضافة لممثلين عن الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي وبعض الدول الأوروبية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وأوضح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين سبب عدم توجيه الدعوة لسوريا مع أنها بالطبع من دول الجوار بقوله: «إن سوريا قضية خلافية دوليًا وإقليميًا والإخوة السوريون يتفهمون موقفنا بعدم دعوة دمشق لإبعاد الخلافات». وقد تركزت أهداف المؤتمر الذي عقد في 28 أغسطس 2021 في إرساء الأمن في العراق والمنطقة، وتعزيز الشراكات الاقتصادية بين الدول المشاركة، والعمل على استقلالية القرار العراقي وعدم تبعيته لأي لاعب إقليمي أو دولي، واستعادة دور بغداد الإقليمي. ولأول وهلة تصب كل هذه الأهداف لصالح العراق ذاته الذي عانى لما يقرب من عشرين عامًا أو منذ عام 2003 عندما سقطت بغداد في الغزو الأمريكي للعراق، من عدم استقرار داخلي ومعارك طائفية دامية وانهيار في البنية الأساسية والخدمات الأساسية، وانتفض مؤخرا مع حكومة مصطفى الكاظمي لكي يضع نهاية لهذا التدهور الوطني ويبدأ صفحة جديدة لاستعادة عافيته في كل المجالات وأبرزها الأمن والاقتصاد، وينفتح على دائرته العربية فعلًا لا قولًا وهو صاحب الريادة في الحفاظ على زخم العروبة. ومع أن نهضة العراق من كبوته على صعيده الذاتي تعنى بشكل غير مباشر نهضة المنطقة العربية من كبوتها أيضا التي سببها أصلا غزو نظام صدام للكويت في 2 أغسطس 1990، إلا أن نظرة أوسع لأبعاد والنتائج المستقبلية لمقررات مؤتمر بغداد تؤكد أن ما جرى يصب لصالح المنطقة العربية ككل، لأن هذه المقررات تعد مفاتيح حاسمة لتفكيك شبكة العقبات التي تمر بها المنطقة على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة، وذلك من حيث تأكيد الاقتناع بأن تفكيك هذه الشبكة «العنقودية» يتأتى أولا باستبعاد التدخل في الشؤون الداخلية للغير والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية والتعامل بالحوار لحل الخلافات لا باللدد في الخصومة والصراع على النفوذ وكسر إرادات الآخرين. وكذلك الاقتناع بأن هذه الحالة من الصراع العبثي لا تفيد سوى المتطرفين وجماعات الإرهاب ومن ثم تهديد الأمن ليس فقط لكل دولة على حدة وإنما لعموم المنطقة العربية.المتشككون وأنصار فكرة المؤامرة، يزعمون أن عقد المؤتمر جاء لتلبية حسابات سياسية لرئيس الوزراء العراقي الكاظمي تتعلق برغبته في البقاء في السلطة لمدة أطول إذا لم تنعقد الانتخابات التشريعية المقررة في أكتوبر 2021، أو لأن مقررات المؤتمر لا يمكن تفعيلها على أرض الواقع الذي يتسم بالتعقيد الشديد ومن ثم لا تعدو أن تكون مظاهرة إعلامية فقط. ولكن التحليل الذي يأخذ بالحقائق ولا ينطلق من أحكام مسبقة أو هوى شخصي يكذب ذلك إلى حد كبير. وأبرز هذه الحقائق التلبية السريعة من كل هذا العدد الكبير من المشاركين لعقد المؤتمر (جاء انعقاده على مستوى القمة بمشاركة بعض القادة العرب والرئيس الفرنسي ماكرون ورؤساء الوزارات ووزراء للخارجية). فهذه هي المرة الأولى التي تشهد بغداد تجمعًا عربيًا وإقليميًا ودوليًا منذ عام 2003، وجاء تجمع ضم الخصوم والأصدقاء معًا في سابقة لم تشهدها المنطقة منذ ذلك الوقت. وما كان لهذا التجمع أن يلتئم بهذه الصورة لو لم يكن لأعضائه مصلحة في انعقاده، ولا لم يكن لهم اقتناع منهم بأن الوقت قد حان لتغيير آليات اللعبة السياسية في المنطقة حيث لم تفلح الخصومات وأشكال التدخل المختلفة في العودة بفائدة تذكر على أصحابها، وأصبح من المفيد للجميع -برغم بقاء التباين في المصالح إلى حد الخلاف- أن تتنفس المنطقة هواء نقيا بعض الوقت أو تنخفض حدة التوترات بما يسمح ببناء شبكة علاقات للتعاون والشراكة بديلة لشبكة العقبات والخلافات. إنها روح جديدة دبت في أوصال الجميع يمكن البناء عليها في المستقبل القريب بما يعود بالفائدة عليهم سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا. ولنتأمل أهمية التغير الذي حدث في علاقات الأطراف المشاركة بما فيها العراق ذاته، وذلك من حيث القدرة على أن يجتمع الخصوم والأصدقاء على مائدة واحدة، الأمر الذي كان حتى وقت قريب من باب المستحيلات.

وللحق فإن العراق المعاصر قام من جهته -حسب تصريحات مسؤوليه- بخطوة مهمة في بناء سياسته الخارجية، وذلك بالانفتاح على جميع الأطراف واتباع سياسة مبنية على التوازن في علاقاته مع محيطه الخارجي، وتأسيس أرضية وأدوات للحوار والعمل على أن تكون العراق مركزا للتواصل والتفاعل الإيجابي. وفي تعقيب له بعد المؤتمر قال الكاظمي رئيس الوزراء العراقي: «حرصنا على أن يتحكم العراق بأمنه وسياسته واقتصاده بعيدا عن أي تدخل، فلا يمكن بأي حال من الأحوال حكم العراق من قبل دولة أخرى، كما لا يمكن عزل العراق عن محيطه الإقليمي والدولي، وهو ما نعمل على توطيده عبر علاقات التعاون المبنية على الاحترام المتبادل للسيادة».

وهناك وجه آخر للتغيير الذي دب في أوضاع المنطقة وفقًا لمعطيات ونتائج مؤتمر بغداد، ألا وهو الرسالة التي وجهها بشكل صريح للداخل العراقي، الأمر الذي يعد عاملًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار وإنجاح العملية السياسية في العراق. وقد عبر وزير الخارجية العراقي عن هذا المعنى عندما صرح بقوله «إن الغاية من مؤتمر بغداد هي تخفيف التوتر في المنطقة وذلك يفضي إلى تخفيف الاحتقان في الداخل العراقي». والمعنى أن الأطراف المحلية المتنافسة عليها أن تعي أنه لم تعد هناك فائدة في البحث عن غطاء خارجي لتوفير سبل الوصول إلى السلطة. ومن تابعوا الملف العراقي على مدى السنوات الماضية توفرت لديهم معلومات شتى بأن هذا الحزب أو تلك الجماعة محسوبة على طرف بعينه في الإقليم يساندها إلى حد التدخل في الشأن الداخلي بشكل صريح أو ضمني. وبالتجربة قاد هذا الوضع إلى استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد بل والاضطراب الأمني أيضا. والآن يقولها المسؤولون العراقيون صراحة أن هذا الوضع لن يدوم من الآن فصاعدا، بالنظر إلى أنه من خلال مؤتمر بغداد تم تنحية التدخل الخارجي في شؤون العراق بعد جهد دبلوماسي عام شمل الجميع مضمونه أن التدخلات الخارجية لا تفيد لا أصحابها ولا حلفاءها في الداخل، والأفضل هو التعامل بمبدأ التعاون والشراكة. وكان الكاظمي قد استهل افتتاح المؤتمر بخطاب ركز من خلاله على تحييد العراق عن الصراعات الجارية وحلحلة القضايا المعقدة التي تعصف بأمن واستقرار المنطقة إقليميا ودوليا.وتأكيدًا لمصداقية الموقف الخارجي من جانب المشاركين جاء البيان الختامي متضمنًا اتفاق الجميع بلا تحفظات على ضرورة توفير الجهود الدولية في تثبيت العملية السياسية في العراق وضمان سيادته واستمرار مشروعه الوطني. وجدد الدعم لجهود الحكومة في تعزيز مؤسسات الدولة وفقًا للآليات الدستورية وإجراء الانتخابات النيابية الممثلة للشعب العراقي. وهنا فإن الوجه الآخر للصورة يشير إلى أهمية ما يجري على الأرض في الساحة العراقية، ففي الوقت الذي يتأكد فيه استبعاد التدخل الخارجي وترسيخ آلية الحوار، يتعين بالمقابل أن يفي الواقع العراقي نفسه بروح ومخرجات هذا المؤتمر، بما يعني أن الكرة تعود إلى الملعب العراقي. وهذا يقودنا في الحقيقة إلى أهمية دور الدولة في العملية السياسية، وفي البناء على مكتسبات المؤتمر داخليًا وخارجيًا. فمن الصحيح ما قاله وزير الخارجية العراقي بأن تخفيف الاحتقان الخارجي يقود إلى تخفيف الاحتقان الداخلي، إلا أن تفعيل دور الدولة هو العامل الحاسم في توجيه التطورات المستقبلية نحو النجاح أو الفشل. وهذا درس آخر لكل الحالات المماثلة في منطقتنا العربية، أي تثبيت مقومات الدولة وتفعيل دورها في توجيه التطورات الداخلية في كل المجالات. وكان غياب الدولة من أخطر العوامل التي هددت وجود عديد البلدان العربية التي تعرضت لرياح التغيير. وللدولة تعريفات شتى سياسية وقانونية وأيديولوجية ليس من المفيد استعراضها تفصيلا، ولكن المتفق عليه أنها كيان أو منظمة سياسية إلزامية تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة ضمن مجتمع محدد تعيش على أرض محددة وتمتلك السيادة على هذه الأرض. وفي حالة العراق (وبالمثل في حالة ليبيا واليمن) هناك جهود لاستعادة الدولة ودورها، إن حضرت عمليًا استقامت الأوضاع وإن غابت لا أمل في أي إصلاح. ولا يخفى أن العراق هدف من وراء مؤتمر بغداد إلى توجيه رسالة للقوى السياسية المحلية بأن الإقليم يناصر الدولة ويمنحها الدعم في استخدام عناصر قوتها لتحقيق الاستقرار وأنه لا أمل في شراكة مع الخارج إذا لم تبرهن الدولة على وجودها في الداخل.