المتأمل في الحراك السّياسي عموما يجده حراكا إنسانيّا مرتبطا بالتّطور الاجتماعي، فالسّياسة في حراكها المجتمعي متقدّمة على التّنظير السّياسي وفلسفته، ولهذا النّظريات السّياسيّة تتطور بتطور الحراك الاجتماعي في الجانب السّياسيّ ذاته، واليوم نصل إلى نظريات سياسيّة متطورة لكنّها ليست النّهاية، فالحراك الاجتماعي المقبل، وتدافع النّظريات السّياسيّة المعاصرة؛ بلا شك ستولّد نظريّات سياسيّة أخرى.
إلا أنّ البعض يرى أنّ العالم يتجه إلى دولة المؤسسات من جهة، ودولة الإنسان من جهة أخرى، ودولة المؤسسات بمعنى أن تكون السّلطة الحاكمة بيد مؤسسات وليست بيد فرد أيّا كان مسماه، أي النّظريّات السّياسيّة اليوم حجّمت الاستبداد، وأشركت الشّعوب في الاختيار، وفصلت السّلطات الثّلاثة: التّشريعيّة والرّقابيّة والقضائيّة، وجعلت المواطنة حقّا إنسانيّا للجميع، وتدور وفق هذه السّلطات الثّلاثة الّتي لا يمكن أن تعلوها سلطة، بيد أنّها حافظة للمؤسسات دون أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى سلطة كانت دينيّة أو ثقافيّة أو مجتمعيّة، بحيث تندرج تحت مؤسسة الحكم وليست تحت فرد أو عائلة ما، والاختيار الأعلى للمؤسسة وليس لأفراد، وهذه من بعيد نظّر لها بعض الخوارج قديما لشرطهم تحقق العدل والأمن، فإذا تحقق دون وجود حاكم ما كانت الغاية؛ لأنّ وجود من يحكم كان وسيلة لتحقيق وضمان هذه الغاية وهي العدل وما يتبعه من أمن واستقرار.
وأمّا دولة الإنسان فليست بالمعنى القطريّ، فالعالم اليوم وصل إلى وثيقة جامعة متمثلة في وثيقة حقوق الإنسان، وبها ترهن حقوق المواطنة، والعالم اليوم أصبح كقبيلة واحدة فيه أسر متعددة، هذه الأسرة هي الدّول القطريّة، بيد أنّ العالم رغم وجود وثيقة حقوق الإنسان لم يتخلص من الهيمنة المشيّخيّة على الجميع، بمعنى هناك دول تخلصت من الامتداد (الاستعمار) الجغرافي، ووجدته ينهك قدراتها، والعالم تجاوزه، إلا أنّ الهيمنة المشيخيّة على الآخر ظلّت باقية، لمصالح اقتصاديّة في المقام الأول، فحقوق الإنسان لم تعد تحت مظلّة تلك الوثيقة – مع أنّها أرقى ما توصل إليه العقل الإنساني -؛ الّتي جعلت جميعا سواء، يجمعهم عالم واحد، ولعل كورونا أثبتت هذه الطّبقيّة المخيفة في العالم، فمع وصول شعوب إلى درجات من الفقر والتّشريد والمرض؛ نجد شعوبا لا تملك مقدرات تلك الشّعوب، بينما هي تعيش وتأكل من خيرات بلدان تلك الشّعوب.
لهذا نداءات اليوم تحت "دولة الإنسان" المراد منها تحطيم هذا الاستغلال من جهة، وتحجيم هذه الطّبقيّة من جهة أخرى، فيبقى العالم متساويا في الحقوق والواجبات، كان في الشّرق أم في الغرب، دون نزع لهوّيّاته تحت مسمّى الدّولة القطريّة أو غيرها، وهذا التّنظير ولدت منه نظريات كبرى قد لم تجد طريقها للتّطبيق اليوم، وهذا لا يعني أنّها لن تجد تطبيقها غدا، بل العكس يدل على خلافه لعدّة أسباب: منها الإيمان بالإنسان الماهي الواحد، والإيمان بالحق الفرداني والوجودي للإنسان، وعدم الرّغبة في العودة إلى الماضي تحت ضوء تطّور العلم وتسخيره لتحقيق عالم إنسانيّ واحد.
لهذا من خلال تأملي في الأديان لم أجد أنّ الأديان جاءت بنظريّة سياسيّة واحدة، وإلا ماتت هذه الأديان من مرحلتها الأولى، وفقدت صلاحيتها، بيد أنّ ديمومتها تمثلت في أدبيات مطلقة تركت للعقل البشريّ تطبيق ذلك وإنزاله، ويصعب هنا ذكر نماذج لذلك في الأديان عموما، ولكن من باب الإشارة إلى الأديان الإبراهيميّة مثلا في الأسفار الخمسة من التّوراة عند السّامريين واليهود لا نجد نظريّة معينة للحكم، لهذا سنجد تأريخ بني إسرائيل من بعد يوشع بن نون مرورا بعهد القضاة وحتى عهد الملوك هو تأريخ قبلي، كانت قبائل متناثرة في عهد القضاة، وأشبه بالتّوحد في عهد الملوك، إلا أنّه بالانقسام الشّمالي والجنوبي بعد النّبيّ سليمان، وسقوط الجنوبيّة بيد البابليين، وسقوط الشماليّة بعد مائتي سنة بيد الآشوريين، هنا ستغلب الهوّية الدّينيّة [السّامريون واليهود] على الهوّيّة العرقيّة [بنو إسرائيل].
وبما أنّ العالم القديم تشكل وفق منطقين: المنطق الامبراطوري [التّوسع الجغرافي]، والمنطق الوراثي في تسلسل الحكم، هذا المنطق الامبراطوري وفق هوّيّة عرقيّة أو لغويّة أو دينيّة في خطّه الرّأسي؛ إلا أنّه في خطّه الأفقي تحته قبائل أشبه بالدّولة القطريّة اليوم، أي كأنّه في العالم القديم توجد عوالم وكواكب في عالم وكوكب واحد، وكل عالم وكوكب يتضمن قبائل حاكمة أفقيّا وفق هوّيات متعددة، لها ولاءات للعالم الأوسع، متأثرة بهذه العالم الواسع، وهذا ما سنجده عند اليهود طيلة التّأريخ أصبحوا قبيلة دينيّة من البابلين وحتّى الرّومان، ومن ثم الامبراطوريات الغربيّة المسيحيّة والشّرقيّة الإسلاميّة، وتشكلها اليوم ضمن دولة إسرائيل (الكيان المحتل) هو تشكل غربي، وفق ثقافة جديدة، وإن حاولت أن تلبس لباس الدّين، إلا أنّها لن تجد مستندا منطقيّا لها، لما أسلفنا من طبيعة الأديان في نصّها الأول لا التّأريخي لم يتطرق إلى ذلك، وإن تطرق لا يتعدى الأدبيات أو الأحكام الظّرفيّة لا المطلقة.
وهكذا إذا جئنا إلى العهد الجديد أو الإنجيل، فلعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر كان فارقا من الابتداء، بيد أنّ حدوث التّزاوج بعد الكهنوت المسيحي البولسي، وخصوصا عند الكاثوليك لم يتعد الجانب المصلحي، وتزاوج الدّين بالسّياسة، ومن عهد الأنوار انفصل هذا التّزاوج، ورجعت المسيحيّة الفردانيّة من جديد ليس عند البروتستانت بل حتّى عند الكنائس الأخرى.
وهكذا في الإسلام لن نجد منظومة سياسيّة في النّص الأول (القرآن)، وأمّا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى/ 38]، فهو أقرب إلى جانب القيم والمبادئ العامّة، والآية ظرفيتها في سياق الحروب، بيد أنّها مطلقة من حيث منع الاستبداد بالرّأي، وهي لا تعني الدّيمقراطيّة؛ لأنّ الثّانية جانب إجرائي، إلا أنّها قيمة ملاصقة كمبدأ للدّيمقراطيّة؛ لأنّ الغاية متقاربة.
وأمّا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة/ 30]، أي في استخلاف الأرض وعمارتها، واكتشاف سننها ونواميسها في بناء الأرض، ومثله قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص/ 26]، أي في الجانب القضائي المبني على الحق والعدل، وارتباط الآيتين بالجعل يدل على التّفاعل في عمارة الأرض، وتحقيق العدل فيها.
ولمّا نزل القرآن – وهو النّص الأول – نزل في ظرفيّة الامبراطوريات والممالك الوراثيّة من جهة، وحكم القبائل من جهة ثانية، فالقرآن ارتبط بالحجاز، وهي ذات تعدديّة قبليّة عرقيّة ودينيّة، وحواليها امبراطوريتان: الرّوم والفرس، مع ممالك في البحرين وعُمان مثلا، ولهذا الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – استخدم مفهوم الأمّة كما في وثيقة المدينة، ولكن لم يجعل من نفسه خليفة أو إماما أو ملكا، فلمّا توفي شعر النّاس بالفراغ الرّوحي أكثر منه بالفراغ السّياسي، مع ارتباط الأمرين حينها، وهذا الجانب أحدث بينهم جدلا تحوّل إلى صراع لاحقا، وتمثل الصّراع بين الأنصار الّذين يرون أنّ الأحقيّة لهم باعتبار المدينة أنّها تحت زعامتهم وسيادتهم، وبين المهاجرين الّذين يرون النّبيّ منهم، وبين الهاشمين لعنصر القرابة من النّبي -عليه السّلام -.
هذا الجدل ستتولد منه ما يسمّى بمدرسة الشّورى، وستنقسم إلى مدرستين: الشّورى المقيدة، والشّورى المطلقة، أمّا المقيدة فتتمثل في قيد القرشيّة [ظرفيّة أو مطلقة] الّتي ستدور حولها الأشاعرة والماتريديّة وأهل الحديث، وقيد النّصيّة، وستنقسم إلى مدرستين: مدرسة النّص الجليّ عند الإماميّة والإسماعيليّة والنصيريّة والجاروديّة من الزّيديّة، والنّص الخفيّ عند عموم الزّيديّة، ومن هاتين المدرستين مدرسة الشّورى المطلقة، والقيد لا يتعدى الظّرفيّة، وعلى هذا عموم الخوارج والإباضيّة والصّفريّة.
هذا التّشكل الأول لم يستمر بمجيء معاوية [ت 60هـ] وإرجاع الوراثة ابتداء، ثمّ تكوين أول امبراطوريّة حجازية من جهة، وعربيّة بعد البعثة من جهة ثانية باعتبار التّمدد الجغرافيّ، وهنا يخرج الدّولة من مفهوم الإمارة إلى مفهوم أوسع، تحت ظلّ الوراثة في الدّائرة القرشيّة الأمويّة [السّفيانيّة والمروانيّة]، لتأتي بعدها الدّولة العباسيّة فتجمع ثلاثة عناصر: الوراثة والقرشيّة والنّصيّة المتعلقة بصلة القربى [العباس ين عبد المطلب]، وفي هذه المرحلة [الأمويّة والعباسيّة] تضخم النّص الثّاني: الرّواية، لتتشكل المذاهب من صورتها السّياسيّة إلى صورتها الكلاميّة، كما ستتولد نظريات الحكم المختلفة.
وبعد المعتصم العباسيّ [ت 227هـ] تبدأ الدّويلات الّتي لم تخرج عن [الوراثة/ القرشيّة/ النّصيّة]، وبمجيء الدّولة العثمانيّة وامتدادها تسقط القرشيّة والنّصيّة، وتبقى الوراثة، ليبدأ مفهوم نظريّة التّغلب، وتأصيل هذه النّظريّة عمليّا، ممّا يدل على أنّ النّص الثّاني ظرفيّ تأريخيّ، والنّص الأول كان مطلقا في أدبياته كما رأينا [الإطلاق بالاعتبار الأصولي هنا].
أمّا الشّورى المطلقة امتدت في عمان من عام 179هـ وحتى عزل الصّلت عام 272هـ، وفي المغرب مع الدّولة الرّستميّة حتى سقوطها عام 296هـ، إلا أنّه بعدها رجعت الدّولة الوراثيّة من جديد في تشكلات ومزاوجات جديدة بين الفقيه والسّياسي.
وكذا الحال في النّص الخفيّ عند الزّيديّة تحولت إلى وراثة في ذرية البطنين، وأمّا الإماميّة فحاولوا أن يجدوا بديلا للفراغ السّياسي من خلال نظريّة ولاية الفقيه.
ليصطدم العالم الإسلامي بعد زوال مرحلة الاستعمار، وسقوط الخلافة العثمانيّة أنّه أمام نظريات سياسيّة تجاوزت العقل الدّيني الإسلامي بسنوات، وهذه النّظريات تقترب من مفهوم الحريات الفردانيّة والشّراك التّشريعي للشّعب من جهة، والشّورى من جهة ثانية، فكانت نظريّة أبي الأعلى المودودي [ت 1979م] حاول أن يربط بينها وبين الحاكميّة والشّورى المطلقة، وهي نظريّة الخوارج الأولى، وبها كانت تشكلات الحركات الإسلاميّة المعاصرة [الحاكميّة والأحديّة والأسلمة والشّريعة] على درجات متباينة من النّص التّأريخي الإسلامي وحتّى النّظريات السّياسيّة المعاصرة.
هذه التّجربة التّأريخيّة في الممالك العربيّة والإسلاميّة، لمّا تقرأ بعيدا عن سياقاتها التّأريخيّة؛ يجد العقل الدّيني اليوم نفسه متضاربا بين فكرة الإمامة والخلافة، والنّصوص التّأريخية حولهما، لهذا في نظري من يقرأ المراجعات من بعد عليّ عبد الرّازق [ت 1966م] وحتّى فرج فودة [ت 1992م] مثلا، ومن بعد فودة وحتّى اليوم نجد العقل الدّيني الإسلامي ذاته يمر بذات العقل الدّيني اليهودي والمسيحي ليتشكل في مفارقة هذه النّظريّات التّاريخيّة والمساهمة في توليد نظريات معاصرة والمشاركة فيها؛ لأنّ العالم اليوم تجاوز التّأريخ واقترب من الإنسان.
إلا أنّ البعض يرى أنّ العالم يتجه إلى دولة المؤسسات من جهة، ودولة الإنسان من جهة أخرى، ودولة المؤسسات بمعنى أن تكون السّلطة الحاكمة بيد مؤسسات وليست بيد فرد أيّا كان مسماه، أي النّظريّات السّياسيّة اليوم حجّمت الاستبداد، وأشركت الشّعوب في الاختيار، وفصلت السّلطات الثّلاثة: التّشريعيّة والرّقابيّة والقضائيّة، وجعلت المواطنة حقّا إنسانيّا للجميع، وتدور وفق هذه السّلطات الثّلاثة الّتي لا يمكن أن تعلوها سلطة، بيد أنّها حافظة للمؤسسات دون أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى سلطة كانت دينيّة أو ثقافيّة أو مجتمعيّة، بحيث تندرج تحت مؤسسة الحكم وليست تحت فرد أو عائلة ما، والاختيار الأعلى للمؤسسة وليس لأفراد، وهذه من بعيد نظّر لها بعض الخوارج قديما لشرطهم تحقق العدل والأمن، فإذا تحقق دون وجود حاكم ما كانت الغاية؛ لأنّ وجود من يحكم كان وسيلة لتحقيق وضمان هذه الغاية وهي العدل وما يتبعه من أمن واستقرار.
وأمّا دولة الإنسان فليست بالمعنى القطريّ، فالعالم اليوم وصل إلى وثيقة جامعة متمثلة في وثيقة حقوق الإنسان، وبها ترهن حقوق المواطنة، والعالم اليوم أصبح كقبيلة واحدة فيه أسر متعددة، هذه الأسرة هي الدّول القطريّة، بيد أنّ العالم رغم وجود وثيقة حقوق الإنسان لم يتخلص من الهيمنة المشيّخيّة على الجميع، بمعنى هناك دول تخلصت من الامتداد (الاستعمار) الجغرافي، ووجدته ينهك قدراتها، والعالم تجاوزه، إلا أنّ الهيمنة المشيخيّة على الآخر ظلّت باقية، لمصالح اقتصاديّة في المقام الأول، فحقوق الإنسان لم تعد تحت مظلّة تلك الوثيقة – مع أنّها أرقى ما توصل إليه العقل الإنساني -؛ الّتي جعلت جميعا سواء، يجمعهم عالم واحد، ولعل كورونا أثبتت هذه الطّبقيّة المخيفة في العالم، فمع وصول شعوب إلى درجات من الفقر والتّشريد والمرض؛ نجد شعوبا لا تملك مقدرات تلك الشّعوب، بينما هي تعيش وتأكل من خيرات بلدان تلك الشّعوب.
لهذا نداءات اليوم تحت "دولة الإنسان" المراد منها تحطيم هذا الاستغلال من جهة، وتحجيم هذه الطّبقيّة من جهة أخرى، فيبقى العالم متساويا في الحقوق والواجبات، كان في الشّرق أم في الغرب، دون نزع لهوّيّاته تحت مسمّى الدّولة القطريّة أو غيرها، وهذا التّنظير ولدت منه نظريات كبرى قد لم تجد طريقها للتّطبيق اليوم، وهذا لا يعني أنّها لن تجد تطبيقها غدا، بل العكس يدل على خلافه لعدّة أسباب: منها الإيمان بالإنسان الماهي الواحد، والإيمان بالحق الفرداني والوجودي للإنسان، وعدم الرّغبة في العودة إلى الماضي تحت ضوء تطّور العلم وتسخيره لتحقيق عالم إنسانيّ واحد.
لهذا من خلال تأملي في الأديان لم أجد أنّ الأديان جاءت بنظريّة سياسيّة واحدة، وإلا ماتت هذه الأديان من مرحلتها الأولى، وفقدت صلاحيتها، بيد أنّ ديمومتها تمثلت في أدبيات مطلقة تركت للعقل البشريّ تطبيق ذلك وإنزاله، ويصعب هنا ذكر نماذج لذلك في الأديان عموما، ولكن من باب الإشارة إلى الأديان الإبراهيميّة مثلا في الأسفار الخمسة من التّوراة عند السّامريين واليهود لا نجد نظريّة معينة للحكم، لهذا سنجد تأريخ بني إسرائيل من بعد يوشع بن نون مرورا بعهد القضاة وحتى عهد الملوك هو تأريخ قبلي، كانت قبائل متناثرة في عهد القضاة، وأشبه بالتّوحد في عهد الملوك، إلا أنّه بالانقسام الشّمالي والجنوبي بعد النّبيّ سليمان، وسقوط الجنوبيّة بيد البابليين، وسقوط الشماليّة بعد مائتي سنة بيد الآشوريين، هنا ستغلب الهوّية الدّينيّة [السّامريون واليهود] على الهوّيّة العرقيّة [بنو إسرائيل].
وبما أنّ العالم القديم تشكل وفق منطقين: المنطق الامبراطوري [التّوسع الجغرافي]، والمنطق الوراثي في تسلسل الحكم، هذا المنطق الامبراطوري وفق هوّيّة عرقيّة أو لغويّة أو دينيّة في خطّه الرّأسي؛ إلا أنّه في خطّه الأفقي تحته قبائل أشبه بالدّولة القطريّة اليوم، أي كأنّه في العالم القديم توجد عوالم وكواكب في عالم وكوكب واحد، وكل عالم وكوكب يتضمن قبائل حاكمة أفقيّا وفق هوّيات متعددة، لها ولاءات للعالم الأوسع، متأثرة بهذه العالم الواسع، وهذا ما سنجده عند اليهود طيلة التّأريخ أصبحوا قبيلة دينيّة من البابلين وحتّى الرّومان، ومن ثم الامبراطوريات الغربيّة المسيحيّة والشّرقيّة الإسلاميّة، وتشكلها اليوم ضمن دولة إسرائيل (الكيان المحتل) هو تشكل غربي، وفق ثقافة جديدة، وإن حاولت أن تلبس لباس الدّين، إلا أنّها لن تجد مستندا منطقيّا لها، لما أسلفنا من طبيعة الأديان في نصّها الأول لا التّأريخي لم يتطرق إلى ذلك، وإن تطرق لا يتعدى الأدبيات أو الأحكام الظّرفيّة لا المطلقة.
وهكذا إذا جئنا إلى العهد الجديد أو الإنجيل، فلعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر كان فارقا من الابتداء، بيد أنّ حدوث التّزاوج بعد الكهنوت المسيحي البولسي، وخصوصا عند الكاثوليك لم يتعد الجانب المصلحي، وتزاوج الدّين بالسّياسة، ومن عهد الأنوار انفصل هذا التّزاوج، ورجعت المسيحيّة الفردانيّة من جديد ليس عند البروتستانت بل حتّى عند الكنائس الأخرى.
وهكذا في الإسلام لن نجد منظومة سياسيّة في النّص الأول (القرآن)، وأمّا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى/ 38]، فهو أقرب إلى جانب القيم والمبادئ العامّة، والآية ظرفيتها في سياق الحروب، بيد أنّها مطلقة من حيث منع الاستبداد بالرّأي، وهي لا تعني الدّيمقراطيّة؛ لأنّ الثّانية جانب إجرائي، إلا أنّها قيمة ملاصقة كمبدأ للدّيمقراطيّة؛ لأنّ الغاية متقاربة.
وأمّا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة/ 30]، أي في استخلاف الأرض وعمارتها، واكتشاف سننها ونواميسها في بناء الأرض، ومثله قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص/ 26]، أي في الجانب القضائي المبني على الحق والعدل، وارتباط الآيتين بالجعل يدل على التّفاعل في عمارة الأرض، وتحقيق العدل فيها.
ولمّا نزل القرآن – وهو النّص الأول – نزل في ظرفيّة الامبراطوريات والممالك الوراثيّة من جهة، وحكم القبائل من جهة ثانية، فالقرآن ارتبط بالحجاز، وهي ذات تعدديّة قبليّة عرقيّة ودينيّة، وحواليها امبراطوريتان: الرّوم والفرس، مع ممالك في البحرين وعُمان مثلا، ولهذا الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – استخدم مفهوم الأمّة كما في وثيقة المدينة، ولكن لم يجعل من نفسه خليفة أو إماما أو ملكا، فلمّا توفي شعر النّاس بالفراغ الرّوحي أكثر منه بالفراغ السّياسي، مع ارتباط الأمرين حينها، وهذا الجانب أحدث بينهم جدلا تحوّل إلى صراع لاحقا، وتمثل الصّراع بين الأنصار الّذين يرون أنّ الأحقيّة لهم باعتبار المدينة أنّها تحت زعامتهم وسيادتهم، وبين المهاجرين الّذين يرون النّبيّ منهم، وبين الهاشمين لعنصر القرابة من النّبي -عليه السّلام -.
هذا الجدل ستتولد منه ما يسمّى بمدرسة الشّورى، وستنقسم إلى مدرستين: الشّورى المقيدة، والشّورى المطلقة، أمّا المقيدة فتتمثل في قيد القرشيّة [ظرفيّة أو مطلقة] الّتي ستدور حولها الأشاعرة والماتريديّة وأهل الحديث، وقيد النّصيّة، وستنقسم إلى مدرستين: مدرسة النّص الجليّ عند الإماميّة والإسماعيليّة والنصيريّة والجاروديّة من الزّيديّة، والنّص الخفيّ عند عموم الزّيديّة، ومن هاتين المدرستين مدرسة الشّورى المطلقة، والقيد لا يتعدى الظّرفيّة، وعلى هذا عموم الخوارج والإباضيّة والصّفريّة.
هذا التّشكل الأول لم يستمر بمجيء معاوية [ت 60هـ] وإرجاع الوراثة ابتداء، ثمّ تكوين أول امبراطوريّة حجازية من جهة، وعربيّة بعد البعثة من جهة ثانية باعتبار التّمدد الجغرافيّ، وهنا يخرج الدّولة من مفهوم الإمارة إلى مفهوم أوسع، تحت ظلّ الوراثة في الدّائرة القرشيّة الأمويّة [السّفيانيّة والمروانيّة]، لتأتي بعدها الدّولة العباسيّة فتجمع ثلاثة عناصر: الوراثة والقرشيّة والنّصيّة المتعلقة بصلة القربى [العباس ين عبد المطلب]، وفي هذه المرحلة [الأمويّة والعباسيّة] تضخم النّص الثّاني: الرّواية، لتتشكل المذاهب من صورتها السّياسيّة إلى صورتها الكلاميّة، كما ستتولد نظريات الحكم المختلفة.
وبعد المعتصم العباسيّ [ت 227هـ] تبدأ الدّويلات الّتي لم تخرج عن [الوراثة/ القرشيّة/ النّصيّة]، وبمجيء الدّولة العثمانيّة وامتدادها تسقط القرشيّة والنّصيّة، وتبقى الوراثة، ليبدأ مفهوم نظريّة التّغلب، وتأصيل هذه النّظريّة عمليّا، ممّا يدل على أنّ النّص الثّاني ظرفيّ تأريخيّ، والنّص الأول كان مطلقا في أدبياته كما رأينا [الإطلاق بالاعتبار الأصولي هنا].
أمّا الشّورى المطلقة امتدت في عمان من عام 179هـ وحتى عزل الصّلت عام 272هـ، وفي المغرب مع الدّولة الرّستميّة حتى سقوطها عام 296هـ، إلا أنّه بعدها رجعت الدّولة الوراثيّة من جديد في تشكلات ومزاوجات جديدة بين الفقيه والسّياسي.
وكذا الحال في النّص الخفيّ عند الزّيديّة تحولت إلى وراثة في ذرية البطنين، وأمّا الإماميّة فحاولوا أن يجدوا بديلا للفراغ السّياسي من خلال نظريّة ولاية الفقيه.
ليصطدم العالم الإسلامي بعد زوال مرحلة الاستعمار، وسقوط الخلافة العثمانيّة أنّه أمام نظريات سياسيّة تجاوزت العقل الدّيني الإسلامي بسنوات، وهذه النّظريات تقترب من مفهوم الحريات الفردانيّة والشّراك التّشريعي للشّعب من جهة، والشّورى من جهة ثانية، فكانت نظريّة أبي الأعلى المودودي [ت 1979م] حاول أن يربط بينها وبين الحاكميّة والشّورى المطلقة، وهي نظريّة الخوارج الأولى، وبها كانت تشكلات الحركات الإسلاميّة المعاصرة [الحاكميّة والأحديّة والأسلمة والشّريعة] على درجات متباينة من النّص التّأريخي الإسلامي وحتّى النّظريات السّياسيّة المعاصرة.
هذه التّجربة التّأريخيّة في الممالك العربيّة والإسلاميّة، لمّا تقرأ بعيدا عن سياقاتها التّأريخيّة؛ يجد العقل الدّيني اليوم نفسه متضاربا بين فكرة الإمامة والخلافة، والنّصوص التّأريخية حولهما، لهذا في نظري من يقرأ المراجعات من بعد عليّ عبد الرّازق [ت 1966م] وحتّى فرج فودة [ت 1992م] مثلا، ومن بعد فودة وحتّى اليوم نجد العقل الدّيني الإسلامي ذاته يمر بذات العقل الدّيني اليهودي والمسيحي ليتشكل في مفارقة هذه النّظريّات التّاريخيّة والمساهمة في توليد نظريات معاصرة والمشاركة فيها؛ لأنّ العالم اليوم تجاوز التّأريخ واقترب من الإنسان.