منذ أزمنة بعيدة تحدثوا عن شياطين الكتابة، ولحظات الإلهام المقدسة، تلك التي تصيب أناسا دون آخرين، لكن صوتا مُضادا ظل يرى الكتابة شأنا قابلا للتعلم، وبينهما من مزج بين الأمرين، كنصيحة محترف غومبروفيتش، التي تنص على أنّ عربة الكتابة تُربط بحصانين، حصانٌ بري يُدعى النشوة جوار حصان مروض يُدعى الإدراك.

يترك كتاب "رسائل إلى شاعر شاب"، التي أرسلها واحد من أعظم شعراء ألمانيا، راينر ماريا ريلكه، من مواليد براغ 1875، ترجمة صلاح هلال عن دار الكرمة، يتركُ أثرا قويا ويُحرضُ أسئلة حقيقية حول ماهية الكتابة، ورغم مرور أكثر من قرن من الزمان على هذه الرسائل، إلا أنّها ما تزال تتمتع بحساسية شديدة، يمكن أن تلمس كاتبا عميقا أو شابا في أول الطريق.

راسل ريلكه شاعرا شاب اسمه فرانتسزافر كابوس، كان قلقا بشأن كتابة الشعر، وعمره ١٩سنة. استمر تبادل الرسائل بينهما بين عاميّ 1902 وحتى 1908، بمعدل عشر رسائل في ست سنوات، وبعد وفاة ريلكه بثلاث سنوات جمعها كابوس ونشرها عام 1929.

تساءلتُ: لماذا نقرأ رسائل ريلكه، بينما تُخفى رسائل الشاب كابوس، واستنتجتُ تلك الرغبة في أن تغدو الرسائل الأدبية لا تخص شخصا بعينه، وإنّما تخصنا كلنا كقراء. تساءلتُ أيضا عن قدر العناية والاهتمام الذي أولاه ريلكه لشباب غض، كل ذلك الفيض المُلهم، بينما الكتابة فعلٌ أناني تستحوذ جلّ اهتمام الكاتب، إضافة إلى أن ريلكه لم يجد لدى كابوس ما يميزه وأشار لهذا صراحة: "ليس لديك طابعا خاصا بك"، وربما لهذا الأمر تلاشى كابوس ولم نسمع عنه شيئا ! يخبره ريلكه بضرورة التخلي عن الآراء المحيطة به من الأصدقاء والصحف التي ترفض النشر أحيانا، فلا أحد يستطيع أن يخبره كيف يكتب. لا توجد إلا وسيلة واحدة: "اسبر أغوار ذاتك. فكر في العالم الذي تحمله في داخلك. ما يختلج بداخلك هو ما يستحق العناية، أكثر مما هو خارجك".

"هل عليّ أن اكتب؟" اسأل نفسك هذا السؤال؟ فلو كنت تستطيع أن تعيش دون كتابة اتركها. ابحث عن ملاذ آخر، ولكنك إن لم تستطع أن تجد نفسك في مكان آخر عُد للكتابة. ابدأ الكتابة حول ما ترى وتعيش وتحب وتكره، لا تبدأ بالمواضيع الكبيرة والبعيدة عنك. ولو كانت حياتك قاحلة، لا تلمْ حياتك، لُمْ نفسك لأنّك لم تستطع أن ترى فيها شيئا، "وكن ممتنا لكل الآلام التي تعبرك لأنّها مادة الكتابة الأولى".

أما النصيحة التي استوقفتني فهي تلك التي يقول فيها: "اقرأ أقل قدر من النقد، فهو إما متحيز وإما متلاعب ماهر بالكلمات، يجعل هذا يربح اليوم وغدا نقيضه!". ويرى ريلكه أنّ المهن عدوة الفرد، غارقة في الكراهية، "ستعايش ذلك في أي وظيفة"، وينصحه بأن لا يسعى لأي احتكاك مع المجتمع، "وفر على نفسك الإحساس بالضيق"، لكنه من جهة أخرى يؤكد على أهمية الانتباه للحزن والتعامل معه، "كضيف لا تراه ولكن يترك أثرا لدخوله".

يرى ريلكه أنّ الوحدة هي الأساس، لأنّ الوحيد يتوجس.. يخاف، يتولد لديه الشعور بالعجز في مواجهة أشياء لا يعلمها، يحتاج لكذبة تملأ أحاسيسه، ولذا تنشأ تخيلات وتغيرات وأحاسيس جديدة خارج المألوف، وهذه مادة جيدة للكتابة، ويضيف: "يمكن للشك أن يصبح واحدة من أفضل المتع التي تبني حياتك الكتابية عليها، واستمتع برحلة نموك، التي لا يمكن أن تستصحب فيها أحدا".

وفي الأخير يؤكد ريلكه أنّه لا يمكن لأي أحد أن يُعلم أحدا كيف يصير كاتبا ما لم يكن مستعدا لذلك بنفسه.