واحدة من ميزات العمل الأدبي الجيد أنه يُرينا حياتنا الماضية بتفاصيلها التي قد نظن لوهلة بسبب مرور الزمن أن غبار الأيام حجبها عنا ولم تعد تُرى، فإذا بقصيدة جميلة، أو قصة أخّاذة، أو رواية فاتنة، تمسح هذا الغبار وتجعلنا نشهق قائلين: "نعم، لقد عشنا هذه الحياة". هذا بالضبط ما حدث لي بعد فراغي من قراءة القصة الجميلة "لقاء الظهيرة" التي تتصدّر الكتاب الجديد للقاص العُماني مازن حبيب "قوانين الفقد" الصادر منذ عدة أيام عن دار نثر العُمانية.
مَنْ هم في سني أو أصغر قليلا يتذكّرون بالتأكيد البرنامج التليفزيوني الشهير "لقاء الظهيرة" الذي بدأ تليفزيون سلطنة عُمان بثه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكان بداية النجومية للمذيع محمد المرجبي، والتي ستستمر بعد ذلك إلى اليوم ليقدم خلالها أهم البرامج التليفزيونية الباقية في ذاكرة المشاهد والتليفزيون معًا، لاسيما تلك المتعلقة بالوجود العُماني في شرق إفريقيا.
اكتسب "لقاء الظهيرة" الذي كان من إعداد وإخراج المبدع سعيد موسى شعبية واسعة، خصوصًا إن الفضائيات لم تكن قد بدأت بالظهور عند بدء بثه، وربما أيضا نال هذا القبول الجماهيري بسبب توقيت البث في الظهيرة، بُعيدَ انتهاء أوقات الدوام للموظفين والطلاب، وربما لكونه محطة يتوقف فيها كثير من الضيوف القادمين للسلطنة لا سيما الفنانين منهم (ماجدة الرومي كانت واحدة من أهم ضيوفه).
ولا أخالني أبالغ إن قلتُ إن هذا البرنامج غيّر بشعبيته الجارفة نمط حياة كثيرين، فهناك من كان يؤجل الغداء حتى انتهائه، وثمة من يضحي بنوم القيلولة من أجله، والبعض يؤجل رحلته من مسقط إلى بلدته البعيدة حتى ينتهي البرنامج. توثق قصة مازن حبيب هذا الإقبال الشديد على البرنامج، وكيف كان أقران بطل القصة -الذي كان صبيّا يافعًا في تلك الفترة، ولا أظنه إلا مازن نفسه متخفيًا في ثياب شخصية قصصية- يقضون معظم أوقات الظهيرة أمام التلفاز "محاولين عبثًا الاتصال هاتفيًّا بالبرنامج ونيل فرصة حقيقية للفوز. كانت الاتصالات القادمة من العاصمة دائمًا أوفر حظًّا من الأبعد منها. وكان ذلك درس حياة قيّمًا لكثيرٍ منّا بأن الفرص المستقبلية قد تلوح أكثر لمن يكون في العاصمة"، لا أدري إلى أي مدى هو صحيح هذا الافتراض، لكنني شخصيًّا نلتُ حظي من البرنامج وأنا في صحم لا العاصمة مسقط، وصحم هي المدينة نفسها التي ينتمي إليها كاتب القصة. لا أذكر ما هو السؤال الذي سألني إياه المرجبي ولا الإجابة، أذكر فقط الجائزة التي مازالت محفورة في ذاكرتي، ليس لقيمتها المادية، رغم أن الخمسين ريالًا مبلغ ضخم في ذلك الزمان، بل لقيمتها المعنوية الكبيرة، عندما يصبح اسمك على لسان أفراد العائلة وزملاء الدراسة وكلهم مبهورون بهذا الفتى الذي تمكن أولًا من الحصول على خط – وهذا وحده إنجاز-، ثم تمكن ثانيًا من الفوز بجائزة جيدة. ولقد صدق مازن في حدسه، فقد فتحتْ لي العاصمة بعد ذلك ذراعيها، وأسعفني الحظ أن تحولتُ من متّصل ببرنامج المرجبي إلى زميلٍ له في إذاعة سلطنة عُمان، وهي الزمالة التي أتعلم منها منذ عام 1997 وحتى اليوم.
لم يكن برنامج "لقاء الظهيرة" الذي رافق طفولة جيل من العُمانيين، إلا نقطة السرد الموازية للحكاية الأخرى في قصة مازن التي بطلها لقاءُ ظهيرة حقيقيّ يحدث في الوادي بين السارد في القصة وصديقه أحمد الذي يرمم بخياله ثقوب حياة واقعية كانت قاسية عليه منذ طفولته بفقدانه أمه غرقًا في ذلك الوادي، ويتنقّل مازن برشاقة بين القصتين حتى تلتقيا في النهاية في نقطة واحدة، تماما كما وعدنا في بداية القصة، عندما صدّرَها بالقانون الرياضي: "كل خطّين مستقيمين غير متوازيين إذا كانا في مستوى واحد فإنهما يتقاطعان في نقطة واحدة"، أي أن مازن حبيب خلق في "لقاء الظهيرة" قصة موازية للقصة الأخرى التي نعلمها جميعا.
تُعيدنا القصة أيضًا إلى اللازمة التي كان يبدأ بها كثير من المتصلين ببرامج الإذاعة والتلفزيون اتصالاتهم: "ممكن أشارك؟". "البرنامج لك عزيزي المشاهد فلا داعي لهذا السؤال"، تكاد تكون هذه الإجابة التي وثقتها القصة إجابة جميع المذيعين لا مقدم "لقاء الظهيرة" وحده. وبسبب هذه اللازمة لدى المتصلين تَراهَنَ إخوة بطل القصة "على أن مخزون الصبر لدى المذيع اللطيف سيتبدَّد في أيّ لحظة" لكنّه خذلهم جميعا.
عندما سألتُ مازن حبيب هل تسميته المتصلَ الذي لا ييأس رغم إخفاقاته المتكررة في الحصول على خط محمد علي مقصودة؟ أجاب: "نعم. أردتُ من ذلك إرسال تحية غير مباشرة للمذيع محمد علي المرجبي وإنْ من خلال متصل لا مذيع". وأنا بدوري أردتُ بهذا المقال أن أوجه التحية لكليهما: محمد المرجبي مقدم "لقاء الظهيرة"؛ البرنامج الذي كان رفيقًا لطيفًا لمرحلة مهمة من حياتنا، ومازن حبيب كاتب "لقاء الظهيرة" الذي لم يكتفِ بسرد قصة برنامج تلفزيوني ناجح، بل صنع هو أيضًا "لقاء ظهيرته" الخاص به.
مَنْ هم في سني أو أصغر قليلا يتذكّرون بالتأكيد البرنامج التليفزيوني الشهير "لقاء الظهيرة" الذي بدأ تليفزيون سلطنة عُمان بثه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكان بداية النجومية للمذيع محمد المرجبي، والتي ستستمر بعد ذلك إلى اليوم ليقدم خلالها أهم البرامج التليفزيونية الباقية في ذاكرة المشاهد والتليفزيون معًا، لاسيما تلك المتعلقة بالوجود العُماني في شرق إفريقيا.
اكتسب "لقاء الظهيرة" الذي كان من إعداد وإخراج المبدع سعيد موسى شعبية واسعة، خصوصًا إن الفضائيات لم تكن قد بدأت بالظهور عند بدء بثه، وربما أيضا نال هذا القبول الجماهيري بسبب توقيت البث في الظهيرة، بُعيدَ انتهاء أوقات الدوام للموظفين والطلاب، وربما لكونه محطة يتوقف فيها كثير من الضيوف القادمين للسلطنة لا سيما الفنانين منهم (ماجدة الرومي كانت واحدة من أهم ضيوفه).
ولا أخالني أبالغ إن قلتُ إن هذا البرنامج غيّر بشعبيته الجارفة نمط حياة كثيرين، فهناك من كان يؤجل الغداء حتى انتهائه، وثمة من يضحي بنوم القيلولة من أجله، والبعض يؤجل رحلته من مسقط إلى بلدته البعيدة حتى ينتهي البرنامج. توثق قصة مازن حبيب هذا الإقبال الشديد على البرنامج، وكيف كان أقران بطل القصة -الذي كان صبيّا يافعًا في تلك الفترة، ولا أظنه إلا مازن نفسه متخفيًا في ثياب شخصية قصصية- يقضون معظم أوقات الظهيرة أمام التلفاز "محاولين عبثًا الاتصال هاتفيًّا بالبرنامج ونيل فرصة حقيقية للفوز. كانت الاتصالات القادمة من العاصمة دائمًا أوفر حظًّا من الأبعد منها. وكان ذلك درس حياة قيّمًا لكثيرٍ منّا بأن الفرص المستقبلية قد تلوح أكثر لمن يكون في العاصمة"، لا أدري إلى أي مدى هو صحيح هذا الافتراض، لكنني شخصيًّا نلتُ حظي من البرنامج وأنا في صحم لا العاصمة مسقط، وصحم هي المدينة نفسها التي ينتمي إليها كاتب القصة. لا أذكر ما هو السؤال الذي سألني إياه المرجبي ولا الإجابة، أذكر فقط الجائزة التي مازالت محفورة في ذاكرتي، ليس لقيمتها المادية، رغم أن الخمسين ريالًا مبلغ ضخم في ذلك الزمان، بل لقيمتها المعنوية الكبيرة، عندما يصبح اسمك على لسان أفراد العائلة وزملاء الدراسة وكلهم مبهورون بهذا الفتى الذي تمكن أولًا من الحصول على خط – وهذا وحده إنجاز-، ثم تمكن ثانيًا من الفوز بجائزة جيدة. ولقد صدق مازن في حدسه، فقد فتحتْ لي العاصمة بعد ذلك ذراعيها، وأسعفني الحظ أن تحولتُ من متّصل ببرنامج المرجبي إلى زميلٍ له في إذاعة سلطنة عُمان، وهي الزمالة التي أتعلم منها منذ عام 1997 وحتى اليوم.
لم يكن برنامج "لقاء الظهيرة" الذي رافق طفولة جيل من العُمانيين، إلا نقطة السرد الموازية للحكاية الأخرى في قصة مازن التي بطلها لقاءُ ظهيرة حقيقيّ يحدث في الوادي بين السارد في القصة وصديقه أحمد الذي يرمم بخياله ثقوب حياة واقعية كانت قاسية عليه منذ طفولته بفقدانه أمه غرقًا في ذلك الوادي، ويتنقّل مازن برشاقة بين القصتين حتى تلتقيا في النهاية في نقطة واحدة، تماما كما وعدنا في بداية القصة، عندما صدّرَها بالقانون الرياضي: "كل خطّين مستقيمين غير متوازيين إذا كانا في مستوى واحد فإنهما يتقاطعان في نقطة واحدة"، أي أن مازن حبيب خلق في "لقاء الظهيرة" قصة موازية للقصة الأخرى التي نعلمها جميعا.
تُعيدنا القصة أيضًا إلى اللازمة التي كان يبدأ بها كثير من المتصلين ببرامج الإذاعة والتلفزيون اتصالاتهم: "ممكن أشارك؟". "البرنامج لك عزيزي المشاهد فلا داعي لهذا السؤال"، تكاد تكون هذه الإجابة التي وثقتها القصة إجابة جميع المذيعين لا مقدم "لقاء الظهيرة" وحده. وبسبب هذه اللازمة لدى المتصلين تَراهَنَ إخوة بطل القصة "على أن مخزون الصبر لدى المذيع اللطيف سيتبدَّد في أيّ لحظة" لكنّه خذلهم جميعا.
عندما سألتُ مازن حبيب هل تسميته المتصلَ الذي لا ييأس رغم إخفاقاته المتكررة في الحصول على خط محمد علي مقصودة؟ أجاب: "نعم. أردتُ من ذلك إرسال تحية غير مباشرة للمذيع محمد علي المرجبي وإنْ من خلال متصل لا مذيع". وأنا بدوري أردتُ بهذا المقال أن أوجه التحية لكليهما: محمد المرجبي مقدم "لقاء الظهيرة"؛ البرنامج الذي كان رفيقًا لطيفًا لمرحلة مهمة من حياتنا، ومازن حبيب كاتب "لقاء الظهيرة" الذي لم يكتفِ بسرد قصة برنامج تلفزيوني ناجح، بل صنع هو أيضًا "لقاء ظهيرته" الخاص به.