عبدالله العليان
تحدثنا في مقالنا الأسبوع المنصرم، عن فكرة أصل الأنواع في نظرية «تشارلز داروين» (1809-1882)، بعد دراساته لمسألة التطور وما تبعها من آراء، سواء من اتفق معه أو اختلف، باعتبارها نظرية في التطور البيولوجي، وأنصب الاختلاف في هذه النظرية على أن كل المخلوقات تنتمي لأصل واحد، بما فيها الإنسان، وهذا ما يراه البعض مجانباً للحقيقة في رأيهم إذ لا يمكن نقارن الإنسان بالحيوان، لتميزه في صفات تختلف عن الحيوان بأشياء ناقشنا بعضها في هذا المقال.
أما قضية الاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي، وهي محط حديثنا في هذا الأسبوع وفق ما صاغه داروين في كتابه (أصل الأنواع)، الفردية عن النظرة البيولوجية للإنسان، ويقول في كتابه هذا: «وإني(...) لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيئ الأقوى لحدوث التحولات، ولو لم يكن السبب الوحيد الذي تفرد بإبرازه إلى عالم الوجود».
ويضيف تشارلز داروين في مسألة الاصطفاء الطبيعي،أو البقاء للأصلح: «إنا لنعلم علم اليقين أنه لو كان في حدوث أي تحول، مهما كان طفيفاً، ضرر بالأنواع لبادت وللحقت بما غير طوال القرون وحفظ تلك التباينات الفردية المفيدة، ثم إبادة الضار منها هو ما سميته الانتخاب الطبيعي،أو البقاء للأصلح».
ولا شك أن قضية الانتخاب الطبيعي ـ بحسب رؤية داروين ـ تعني حفظ التحولات من خلال بلتفرد، باختيار أو انتقاء النافع منها بتوارثه عبر الأجيال، وهذه يراها بطيئة كما يصفها داروين في كتابه (أصل الأنواع)، ويقول عن ذلك: «إن الانتخاب الطبيعي قوة دائبة الفعل كل يوم، بل كل ساعة في استجماع التحولات العرضية في العالم العضوي كافة، نافية كل ما كان منها مضرا، مبقية على كل ما كان مفيدا صالحا ، تعمل في همودها وسكونها عملها الدائم، ما سمحت الفرص في كل زمان ومكان، لتهذيب حالات الحياة المحيطة به، ما اتصل منها بالموجودات العضوية، وما اتصل بغير العضوية». وهو في هذه النظرية المتعلقة بالاصطفاء الطبيعي يرى أن هناك مقاربة أو موازنة، بين انتقاء الإنسان وانتقاء الطبيعة، فيقول في مقاربته هذه: «وأما عن مدى تشتت رغبات وجهود الإنسان، ومدى القصر في أجله، وبالتالي مدى القصور الذي ستكون عليه نتائجها بالموازنة مع النتائج المتراكمة بواسطة الطبيعة في خلال أحقاب جيولوجية كاملة، فهل تستطيع عندئذ أن تتعجب من أن منتجات الطبيعة يجب أن تكون أكثر مصداقية في الطابع من منتجات الإنسان، وأنها يجب أن تكون أفضل تكيفًا بشكل لا نهائي مع أكثر ظروف الحياة تعقيدًا، وأنها يجب أن تحمل بوضوح بصمة الامتياز الفائق في براعة الأداء».
وواجه تشارلز داروين انتقادات كثيرة، في مسألة الانتخاب الطبيعي بين البشر، والبقاء للأصلح، ومنها التي وجهت إليه في هذه الرؤية، أن داروين أخذ من نظرية توماس مالتوس للسكان وفق نظرية المتوالية الهندسية وإنتاج الغذاء بمتوالية حسابية، وقاس داروين هذه النظرية على الاصطفاء الطبيعي إذ يرى «ما لتوس» أن عدد السكان سيزداد بنسبة هندسية بينما تكون الموارد الغذائية قليلة مقارنة بعدد السكان، مما يؤدى إلى التنافس والصراع من أجل البقاء، مما يحدث تلاشي غير القادرين على المنافسة من خلال الحروب من أجل البقاء، وتعرضت نظرية مالتوس لانتقادات من علماء كثيرين، ومنها أن مقولة الزيادة «الديمغرافية» للسكان يزيد بمتوالية هندسية، بينما إنتاج الغذاء يزيد بمتوالية عددية، مما يؤدي إلى الحروب والصراعات بسبب قلة محصول الغذاء، وهذا ما لم يثبت عملياً، ففي الهند والصين والولايات المتحدة، مع زيادة السكان، لم يقل محصول الغذاء، وربما ـ كما يرى البعض ـ أن ما لتوس لم يتوقع تقدم وسائل الإنتاج العلمية الحديثة، ولذلك فإن قضية الاصطفاء الطبيعي، كما طرحها، برزت بها العديد من الثغرات الواقعية العملية، فيرى د/ محمد سعيد البوطي كتابه (كبرى اليقينيات الكونية): «إن عملية الاصطفاء ليست حركة آلية، سواء اعتبرناها اصطفاء صنيعيا أو طبيعيًا، بل هي وسيلة تستهدف غاية، والسعي نحو غاية ما يعتبر أعقد عمليات الفهم والإدراك. فكيف يمكن إسناد ذلك إلى (الطبيعة) التي لا مناص من تفسير عملها وآثارها، مهما تنوعت التعابير عنهما، بالآلية أو العشوائية المجردة، وانتخاب الأصلح لا بد أن يعتمد على قانون يميز الأصلح عمن دونه ويعلل ذلك ويوجهه، فعلى أي قانون تستند الطبيعة في انتخابها وما هو التعليل الذي هضمته الطبيعة لذلك ثم انطلقت متأثرة به؟».
ويضيف د/ البوطي في نقده لفكرة الانتخاب الطبيعي، أن هذه الرؤية الداروينية اختلاف طبائع هذا التطور، وعدم شموليته للجنس نفسه فيقول: «إذا كان مبدأ الاصطفاء الطبيعي هو مبعث التطور المستمر في الكائنات الحية، وكان هذا التطور يتجه دومًا شطر ما هو الأصلح- فلماذا لا نجد القوى العاقلة في كثير من الحيوانات أكثر تطورًا وارتقاء من غيرها ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟..ولماذا لم تكتسب القردة العليا من القوى العاقلة بمقدار ما اكتسبه الإنسان مثلا؟».
ومن الذين انتقدوا النظرية في جانب الأصل الواحد البيولوجي، وكذلك فكرة الاصطفاء، البروفيسور «إلين راباود» مدير معهد علوم الحياة في باريس يقول: «لم تعد أفكار داروين تبدوا صحيحة؛ ذلك لأن لا وجود للانتخاب الطبيعي في صراع الحياة، بحيث يبقى الأقوياء ويزول الضعفاء، فمثلًا ضب الحدائق يستطيع الركض بسرعة؛ لأنه يملك أربع أرجل طويلة، ولكن هناك في الوقت نفسه أنواع أخرى من الضب له أرجل قصيرة حتى ليكاد يزحف على الأرض، وهو يجر نفسه بصعوبة، أما الثعبان الأعمى الذي هو نوع آخر من الزواحف، فليست له أرجل بالمرة، إن هذه الأنواع الثلاثة من الزواحف تملك البنية الجسدية نفسها حتى بالنسبة لأرجلها، وتتناول الغذاء نفسه، وتعيش في البيئة نفسها والظروف الحياتية نفسها، فلو كانت هذه الحيوانات متكيفة لبيئتها لوجب عدم مثل هذا الاختلاف بين أجهزتها». أيضاُ العالم: «جين روستد» عضو الأكاديمية الفرنسية للعلوم، وعميد علماء البيولوجيا الفرنسية قال بعد أن اطلع على مجموعة أبحاث ومراجع لعلماء البيولوجيا البارزين: «إن نظرية التطور التقليدية بمعناها الحرفي قد غدت الآن شيئاً ماضياً، وأنه لا يجوز تفسير التطور بمثل هذه التعبيرات السطحية التافهة، كاصطفاء الطبيعة للجنس الأصلح لمجرد، أن علماء البيولوجيا قد أخفقوا حتى الوقت الحاضر، في إثبات ما إذا كان بالمستطاع تغيّر الأجناس،أو التحكم به، أو خلقه على طريق العملية نفسها»، قاله في هذا الصدد «أن الزرافة حيت أعطتها الطبيعة ارتفاع القامة، فقد أعطتها الأسبقية في البقاء على بقية أبناء فصيلتها، ففي استطاعتها الحصول على الغذاء من لباب الشجر، بينما ظلت الحيوانات الأخرى تقاسي الجوع، فهلك بعضها واندثر». ويضيف في نقده لقضية الاصطفاء الطبيعي التي قال بها داروين: «إذا كانت الزرافة ذات العنق الذي يبلغ طوله ثمانية أقدام هي إنتاج الاصطفاء الطبيعي، فكيف يكون الحال مع الخروف الذي لا يزيد طوله رقبته عن بضع بوصات، أليست الزرافة والنعجة بنات عم تماماً، بل تكادان تكونان أختين في المملكة الحيوانية، فقد تولد كلاهما من أصل واحد فكيف يمكن تفسير بقاء بنتي عم كل منهما، أصلح للبقاء من الأخرى، إحداهما بسبب طول عنقها والأخرى بسبب قصر ذلك العنق؟ أيضا المفكر والفيلسوف البوسني علي عزت بيجوفيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب)، أوضح أن قضية التطور فسرت تفسيراً، لا يتناغم مع قضية خلق الإنسان في تميزه واختلافه الواضح مع الحيوان، فيقول نعم: «إن هذا الإنسان قد تطور، وهذا صحيح، ولكنه يصدق فقط بالنسبة لتاريخه البشري الخارجي، الإنسان كذلك مخلوق، وقد انصبَّ في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان، ولكن أيضًا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان التي بداخله، فإذا كان الإنسان هو ابن الطبيعة كما يقولون، فكيف تسنَّى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة؟ وإذا تخيّلنا تطوّر ذكاء الإنسان إلى أعلى درجة، فإننا سنجد أن حاجاته ستزداد من ناحيتي الكمّ والنوع، ولن يتلاشى شيء منها، فقط ستكون طريقة إشباع هذه الحاجات أكثر ذكاءً وأفضل تنظيمًا».
ويقول إدوارد لوثركيسيل، أستاذ علم الأحياء في جامعة سان فرانسيسكو في نقد نظرية التطور وفق الاصطفاء الطبيعي عن طريق الصدفة أو الطفرة فيقول: «إنني واثق أن كلمة التطور قد أُسِيءَ فهمها في كثير من الدوائر، حتى صار مجرد النطق بها يثير التعجب!..إنني أفهم ما يصفه هؤلاء الأصدقاء، بل أتفق معهم في أن التطور المقصود هنا هو التطور المادي أو الميكانيكي، الذي ينبغي أن نفرِّق بينه وبين التطور الخلقي أو الإبداعي كل التفرقة.. ولو أن جميع المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بالروح نفسها والأمانة والبعد عن التحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرَّروا عقولهم من سلطان التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم فإنهم سوف يسلمون دون شك بوجود الله فدراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا دون شك إلى إدراك وجود السبب الأول, الذي هو الله».. لكن ماذا عن الفلسفة الداروينية الاجتماعية التي خرجت من رؤيتها البيولوجية إلى رؤية أخرى غريبة عنها ..
،، وللحديث بقية،،
تحدثنا في مقالنا الأسبوع المنصرم، عن فكرة أصل الأنواع في نظرية «تشارلز داروين» (1809-1882)، بعد دراساته لمسألة التطور وما تبعها من آراء، سواء من اتفق معه أو اختلف، باعتبارها نظرية في التطور البيولوجي، وأنصب الاختلاف في هذه النظرية على أن كل المخلوقات تنتمي لأصل واحد، بما فيها الإنسان، وهذا ما يراه البعض مجانباً للحقيقة في رأيهم إذ لا يمكن نقارن الإنسان بالحيوان، لتميزه في صفات تختلف عن الحيوان بأشياء ناقشنا بعضها في هذا المقال.
أما قضية الاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي، وهي محط حديثنا في هذا الأسبوع وفق ما صاغه داروين في كتابه (أصل الأنواع)، الفردية عن النظرة البيولوجية للإنسان، ويقول في كتابه هذا: «وإني(...) لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيئ الأقوى لحدوث التحولات، ولو لم يكن السبب الوحيد الذي تفرد بإبرازه إلى عالم الوجود».
ويضيف تشارلز داروين في مسألة الاصطفاء الطبيعي،أو البقاء للأصلح: «إنا لنعلم علم اليقين أنه لو كان في حدوث أي تحول، مهما كان طفيفاً، ضرر بالأنواع لبادت وللحقت بما غير طوال القرون وحفظ تلك التباينات الفردية المفيدة، ثم إبادة الضار منها هو ما سميته الانتخاب الطبيعي،أو البقاء للأصلح».
ولا شك أن قضية الانتخاب الطبيعي ـ بحسب رؤية داروين ـ تعني حفظ التحولات من خلال بلتفرد، باختيار أو انتقاء النافع منها بتوارثه عبر الأجيال، وهذه يراها بطيئة كما يصفها داروين في كتابه (أصل الأنواع)، ويقول عن ذلك: «إن الانتخاب الطبيعي قوة دائبة الفعل كل يوم، بل كل ساعة في استجماع التحولات العرضية في العالم العضوي كافة، نافية كل ما كان منها مضرا، مبقية على كل ما كان مفيدا صالحا ، تعمل في همودها وسكونها عملها الدائم، ما سمحت الفرص في كل زمان ومكان، لتهذيب حالات الحياة المحيطة به، ما اتصل منها بالموجودات العضوية، وما اتصل بغير العضوية». وهو في هذه النظرية المتعلقة بالاصطفاء الطبيعي يرى أن هناك مقاربة أو موازنة، بين انتقاء الإنسان وانتقاء الطبيعة، فيقول في مقاربته هذه: «وأما عن مدى تشتت رغبات وجهود الإنسان، ومدى القصر في أجله، وبالتالي مدى القصور الذي ستكون عليه نتائجها بالموازنة مع النتائج المتراكمة بواسطة الطبيعة في خلال أحقاب جيولوجية كاملة، فهل تستطيع عندئذ أن تتعجب من أن منتجات الطبيعة يجب أن تكون أكثر مصداقية في الطابع من منتجات الإنسان، وأنها يجب أن تكون أفضل تكيفًا بشكل لا نهائي مع أكثر ظروف الحياة تعقيدًا، وأنها يجب أن تحمل بوضوح بصمة الامتياز الفائق في براعة الأداء».
وواجه تشارلز داروين انتقادات كثيرة، في مسألة الانتخاب الطبيعي بين البشر، والبقاء للأصلح، ومنها التي وجهت إليه في هذه الرؤية، أن داروين أخذ من نظرية توماس مالتوس للسكان وفق نظرية المتوالية الهندسية وإنتاج الغذاء بمتوالية حسابية، وقاس داروين هذه النظرية على الاصطفاء الطبيعي إذ يرى «ما لتوس» أن عدد السكان سيزداد بنسبة هندسية بينما تكون الموارد الغذائية قليلة مقارنة بعدد السكان، مما يؤدى إلى التنافس والصراع من أجل البقاء، مما يحدث تلاشي غير القادرين على المنافسة من خلال الحروب من أجل البقاء، وتعرضت نظرية مالتوس لانتقادات من علماء كثيرين، ومنها أن مقولة الزيادة «الديمغرافية» للسكان يزيد بمتوالية هندسية، بينما إنتاج الغذاء يزيد بمتوالية عددية، مما يؤدي إلى الحروب والصراعات بسبب قلة محصول الغذاء، وهذا ما لم يثبت عملياً، ففي الهند والصين والولايات المتحدة، مع زيادة السكان، لم يقل محصول الغذاء، وربما ـ كما يرى البعض ـ أن ما لتوس لم يتوقع تقدم وسائل الإنتاج العلمية الحديثة، ولذلك فإن قضية الاصطفاء الطبيعي، كما طرحها، برزت بها العديد من الثغرات الواقعية العملية، فيرى د/ محمد سعيد البوطي كتابه (كبرى اليقينيات الكونية): «إن عملية الاصطفاء ليست حركة آلية، سواء اعتبرناها اصطفاء صنيعيا أو طبيعيًا، بل هي وسيلة تستهدف غاية، والسعي نحو غاية ما يعتبر أعقد عمليات الفهم والإدراك. فكيف يمكن إسناد ذلك إلى (الطبيعة) التي لا مناص من تفسير عملها وآثارها، مهما تنوعت التعابير عنهما، بالآلية أو العشوائية المجردة، وانتخاب الأصلح لا بد أن يعتمد على قانون يميز الأصلح عمن دونه ويعلل ذلك ويوجهه، فعلى أي قانون تستند الطبيعة في انتخابها وما هو التعليل الذي هضمته الطبيعة لذلك ثم انطلقت متأثرة به؟».
ويضيف د/ البوطي في نقده لفكرة الانتخاب الطبيعي، أن هذه الرؤية الداروينية اختلاف طبائع هذا التطور، وعدم شموليته للجنس نفسه فيقول: «إذا كان مبدأ الاصطفاء الطبيعي هو مبعث التطور المستمر في الكائنات الحية، وكان هذا التطور يتجه دومًا شطر ما هو الأصلح- فلماذا لا نجد القوى العاقلة في كثير من الحيوانات أكثر تطورًا وارتقاء من غيرها ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟..ولماذا لم تكتسب القردة العليا من القوى العاقلة بمقدار ما اكتسبه الإنسان مثلا؟».
ومن الذين انتقدوا النظرية في جانب الأصل الواحد البيولوجي، وكذلك فكرة الاصطفاء، البروفيسور «إلين راباود» مدير معهد علوم الحياة في باريس يقول: «لم تعد أفكار داروين تبدوا صحيحة؛ ذلك لأن لا وجود للانتخاب الطبيعي في صراع الحياة، بحيث يبقى الأقوياء ويزول الضعفاء، فمثلًا ضب الحدائق يستطيع الركض بسرعة؛ لأنه يملك أربع أرجل طويلة، ولكن هناك في الوقت نفسه أنواع أخرى من الضب له أرجل قصيرة حتى ليكاد يزحف على الأرض، وهو يجر نفسه بصعوبة، أما الثعبان الأعمى الذي هو نوع آخر من الزواحف، فليست له أرجل بالمرة، إن هذه الأنواع الثلاثة من الزواحف تملك البنية الجسدية نفسها حتى بالنسبة لأرجلها، وتتناول الغذاء نفسه، وتعيش في البيئة نفسها والظروف الحياتية نفسها، فلو كانت هذه الحيوانات متكيفة لبيئتها لوجب عدم مثل هذا الاختلاف بين أجهزتها». أيضاُ العالم: «جين روستد» عضو الأكاديمية الفرنسية للعلوم، وعميد علماء البيولوجيا الفرنسية قال بعد أن اطلع على مجموعة أبحاث ومراجع لعلماء البيولوجيا البارزين: «إن نظرية التطور التقليدية بمعناها الحرفي قد غدت الآن شيئاً ماضياً، وأنه لا يجوز تفسير التطور بمثل هذه التعبيرات السطحية التافهة، كاصطفاء الطبيعة للجنس الأصلح لمجرد، أن علماء البيولوجيا قد أخفقوا حتى الوقت الحاضر، في إثبات ما إذا كان بالمستطاع تغيّر الأجناس،أو التحكم به، أو خلقه على طريق العملية نفسها»، قاله في هذا الصدد «أن الزرافة حيت أعطتها الطبيعة ارتفاع القامة، فقد أعطتها الأسبقية في البقاء على بقية أبناء فصيلتها، ففي استطاعتها الحصول على الغذاء من لباب الشجر، بينما ظلت الحيوانات الأخرى تقاسي الجوع، فهلك بعضها واندثر». ويضيف في نقده لقضية الاصطفاء الطبيعي التي قال بها داروين: «إذا كانت الزرافة ذات العنق الذي يبلغ طوله ثمانية أقدام هي إنتاج الاصطفاء الطبيعي، فكيف يكون الحال مع الخروف الذي لا يزيد طوله رقبته عن بضع بوصات، أليست الزرافة والنعجة بنات عم تماماً، بل تكادان تكونان أختين في المملكة الحيوانية، فقد تولد كلاهما من أصل واحد فكيف يمكن تفسير بقاء بنتي عم كل منهما، أصلح للبقاء من الأخرى، إحداهما بسبب طول عنقها والأخرى بسبب قصر ذلك العنق؟ أيضا المفكر والفيلسوف البوسني علي عزت بيجوفيتش في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب)، أوضح أن قضية التطور فسرت تفسيراً، لا يتناغم مع قضية خلق الإنسان في تميزه واختلافه الواضح مع الحيوان، فيقول نعم: «إن هذا الإنسان قد تطور، وهذا صحيح، ولكنه يصدق فقط بالنسبة لتاريخه البشري الخارجي، الإنسان كذلك مخلوق، وقد انصبَّ في وعيه ليس فقط أنه مختلف عن الحيوان، ولكن أيضًا أن معنى حياته لا يتحقق إلا بإنكار الحيوان التي بداخله، فإذا كان الإنسان هو ابن الطبيعة كما يقولون، فكيف تسنَّى له أن يبدأ في معارضة الطبيعة؟ وإذا تخيّلنا تطوّر ذكاء الإنسان إلى أعلى درجة، فإننا سنجد أن حاجاته ستزداد من ناحيتي الكمّ والنوع، ولن يتلاشى شيء منها، فقط ستكون طريقة إشباع هذه الحاجات أكثر ذكاءً وأفضل تنظيمًا».
ويقول إدوارد لوثركيسيل، أستاذ علم الأحياء في جامعة سان فرانسيسكو في نقد نظرية التطور وفق الاصطفاء الطبيعي عن طريق الصدفة أو الطفرة فيقول: «إنني واثق أن كلمة التطور قد أُسِيءَ فهمها في كثير من الدوائر، حتى صار مجرد النطق بها يثير التعجب!..إنني أفهم ما يصفه هؤلاء الأصدقاء، بل أتفق معهم في أن التطور المقصود هنا هو التطور المادي أو الميكانيكي، الذي ينبغي أن نفرِّق بينه وبين التطور الخلقي أو الإبداعي كل التفرقة.. ولو أن جميع المشتغلين بالعلوم نظروا إلى ما تعطيهم العلوم من أدلة على وجود الخالق بالروح نفسها والأمانة والبعد عن التحيز الذي ينظرون به إلى نتائج بحوثهم، ولو أنهم حرَّروا عقولهم من سلطان التأثر بعواطفهم وانفعالاتهم فإنهم سوف يسلمون دون شك بوجود الله فدراسة العلوم بعقل متفتح سوف تقودنا دون شك إلى إدراك وجود السبب الأول, الذي هو الله».. لكن ماذا عن الفلسفة الداروينية الاجتماعية التي خرجت من رؤيتها البيولوجية إلى رؤية أخرى غريبة عنها ..
،، وللحديث بقية،،