د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي

رغم الحذر الذي يسود أكثر بلدان العالم حول مستقبل وباء كوفيد-١٩ إلا أن هناك مؤشرات كثيرة تدل على تراجع حدته، أو على الأقل تعايش الدول والمجتمعات معه. كما أن صناع القرار في كثير من الدول قد زادت قناعتهم أو أنهم رضخوا للمطالبات بعدم إمكانية الاستمرار في تحمل تبعات إغلاقات واسعة النطاق ممتدة الفترات، لما لها من آثار اجتماعية واقتصادية مدمرة للعديد من مجالات الحياة وفي مقدمتها جودة التعليم في جميع مراحله ومستوى الخدمات الصحية التي تقدمها المؤسسات الصحية الحكومية، خاصةً لمرضى الحالات المزمنة، وكذلك على مستوى معيشة الأفراد ورفاهية المجتمعات عامة. وبالإضافة إلى ذلك فإن طول فترات الإغلاق هو من الناحية المالية والاقتصادية أشبه بسيف ذي حدين، فهو من جهة يضعف أداء الاقتصاد وبالتالي يستنزف الموارد المالية للدول، لأنها تضطر إلى تقديم المزيد من حزم الإنقاذ أو التحفيز المالي لبعض القطاعات والأعمال، ومن جهة أخرى يؤدي تراجع الأداء الاقتصادي وبالتالي إلى انخفاض إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم التي كان من المفترض زيادتها لمواجهة الظروف التي فرضتها الجائحة وتزايد الاحتياجات التنموية الأخرى.

ومن المؤشرات التي تدعو أيضا إلى التفاؤل بقرب محاصرة الوباء أو التعايش معه، تنامي الوعي بين الناس عامة بضرورة تجنب مسببات انتشاره واتساع دائرة الوعي بأهمية التلقيح أو التحصين ضد الوباء، وهو ما سيؤدي بالأكثرية من الناس من مختلف الفئات العمرية إلى الإسراع في أخذ اللقاح خلال الأشهر القليلة القادمة. هذا بالإضافة إلى أن تعدد أنواع اللقاحات وانتشار تصنيعها في عدد من الدول سيسهل من الحصول عليها من أكثر من مصدر.

لقد كان عام ٢٠٢٠ عاماً عصيبا على الاقتصاد العالمي، فقد أدت جائحة كوفيد-١٩ إلى تراجع معدل النمو الاقتصادي العالمي بدرجة كبيرة، وقدر صندوق النقد الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي على المستوى العالمي قد انكمش إلى -٣،٣٪؜ ونتج عن ذلك تسريح ملايين العمال حول العالم من وظائفهم وارتفعت نسبة البطالة. كما أدت الجائحة إلى خروج أو إغلاق كثير من المؤسسات والشركات، خاصة في قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة وفي قطاعي النقل والسياحة. وتبعا لذلك اضطرت الكثير من الحكومات إلى تقديم حزم إنقاذ لبعض الأعمال، تمثلت في تخفيضات ضريبية أو إعفاءات من الرسوم أو تسهيلات ائتمانية، أو تقديم دعم نقدي مباشر للأفراد والشركات كما يحدث في بعض الدول مثل أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي. إلا أنه مع نهاية الربع الأول من العام الحالي بدأت بعض الاقتصادات الكبيرة في التعافي، وفي مقدمتها الصين وأمريكا، فزاد النمو الاقتصادي فيها وارتفع إنتاجها الصناعي وانتعشت تجارتها الدولية، كما انخفضت نسبة البطالة في بعض الدول التي عادت فيها بعض القطاعات والأنشطة إلى العمل بطاقة شبه كاملة. ويقدر صندوق النقد الدولي أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم في العام الحالي ٢٠٢١ إلى ٦٪؜ . وقد أثر ذلك التعافي إيجابًا على سعر النفط، فارتفع بشكل كبير مقارنة بما كان عليه خلال العامين الماضيين، مستفيدا في ذلك أيضاً من اتفاق دول أوبك+ على توزيع حصص الإنتاج اليومي من النفط بين الدول المنتجة له.

وحيث إن جائحة كوفيد-١٩ هي كما قلنا في مرحلة تقترب من اضمحلالها أو على الأقل انكسار حدتها فإنه يجب الاستعداد للمرحلة التي تليها، وهي مرحلة تتطلب بعض الإجراءات الاقتصادية والتغييرات الاجتماعية التي يجب القيام بها من قبل الدولة والمجتمع. ففي الجانب الاقتصادي، ومن أجل الاستفادة من تراجع حدة الوباء فإنه يجب القيام ببعض الخطوات لإنعاش الاقتصاد وتوجيه النمو نحو القطاعات والأنشطة التي لها أثر إيجابي سريع وتؤدي إلى توفير فرص عمل. ومن الأمثل على ذلك قطاع السياحة الذي يجب العمل على تنشيطه فورا، خاصة وإنه لا يفصلنا إلا أسابيع قليلة عن بداية الموسم السياحي الذي يمتد من شهر أكتوبر إلى شهر أبريل. ولا تقتصر السياحة على الأفراد أو المجموعات السياحية الذين يأتون من الخارج للنزهة في مختلف أنحاء البلاد والتمتع بالإقامة في ربوعها المتنوعة، بل تشمل كذلك السياحة المتصلة بالأعمال و التجارة. وحيث إن لهذا النوع من السياحة أثر إيجابي كبير على عدد من الأنشطة الاقتصادية فإنه يجب البدء من الآن في الترويج للمعارض والمؤتمرات، سواء التجارية منها أو العلمية والأدبية وعلى رأسها معرض مسقط للكتاب، ومهرجان مسقط السنوي الذي يجب أن يكون في صيغة وحلة جديدة تتناسب مع القيم الاجتماعية الثابتة ومع التقدم الحاصل في المستويات الفكرية والطموحات التي يسعى الجيل الحاضر إلى تحقيقها. ومن المفيد أن تمتد أنشطة المعارض والمؤتمرات إلى مختلف محافظات وولايات البلاد، لما في ذلك من فوائد تجارية و سياحية و علمية على المناطق التي تقام فيها. و إلى جانب ما يجب اتخاذه على المدى القصير، مثل تنشيط قطاع السياحة، فإنه يجب استئناف البرامج التنموية، خاصة تلك المتصلة بالتنويع الاقتصادي، سواء كانت برامج حكومية أو مشاريع ينفذها القطاع الخاص، وهو ما يعني السماح باستئناف استقدام القوى العاملة من الخارج، ولكن بحذر يراعي الجوانب الصحية ومتطلبات سوق العمل من حيث إعطاء الأولوية العمانيين في شغل الوظائف المتاحة.

غير أنه بالرغم من التفاؤل حول انكسار حدة الوباء وتلاشيه في مرحلة لاحقة فإن العلماء يحذرون من أن وباء كوفيد-١٩ لن يكون آخر الأوبئة وأنما هو حلقة في سلسلة لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة التي نعرفها. لذلك فإنه يجب استمرار الحذر وإدخال بعض التغيير في عدد من الجوانب و العادات الاجتماعية. و حيث إن معظم الناس أصبحوا على وعي بخطورة العدوى و تفشي الأمراض جراء التخالط المزدحم، خاصة في الأسواق و في المجالس و المناسبات العامة، فإنه من الواجب التوقف أو التقليل من التواصل و التخالط الاجتماعي بالطريقة السابقة، خاصة في المجالس العامة و قاعات المناسبات. و لذلك لا بد من ابتداع طرق جديدة للتواصل بين الناس سواء في أفراحهم أو في أتراحهم من أجل التخفيف من انتقال الأوبئة و الأمراض عامة. الجدير بالإشارة هنا إلى أن الحد من الاختلاط في المجالس و التقليل من إقامة الحفلات الكبيرة في المناسبات الاجتماعية، مثل حفلات الزواج والأعراس، له إيجابيات أخرى غير الفوائد الصحية، فهو سيخفف عن البعض من الناس تكاليف مالية لا يستطيعون تحملها و لا داعي لها، بل كانوا يضطرون لها بسبب التقليد و المباهاة. أما المقتدرون فإن عليهم تقديم المساعدة لفئات في المجتمع هي بحاجة إلى سد حاجات أساسية لديها. بل إن الأبرّ والأفضل للمقتدرين تقديم جانب مما يصرفونه على حفلات الأفراح إلى المحتاجين من الناس. هذه ليست دعوة إلى الرهبنة أو التقشف أو الامتناع عن التمتع بنعم الحياة ومباهجها، لكن الثابت بعد جائحة كوفيد-١٩ أن التخالط المزدحم سبب واضح في نقل كثير من الأمراض. و ما دام أكثر الناس يحبون الاحتفال بمناسباتهم السعيدة فليكن ذلك في نطاق محدود، بحيث يتم الاستغناء عن إقامة الحفلات الكبيرة و يستعاض عنها بتقديم الصدقات والإحسان إلى المحتاجين للعون و المساعدة، وأن يكون ذلك عادة جديدة محمودة تتبعها كل فئات المجتمع في إطار التكافل الاجتماعي والتراحم بين الناس.

وعلى الصعيد الديني حمَلت جائحة كوفيد-١٩ علماء و فقهاء الشريعة على الاجتهاد في بعض الأمور المتعلقة بالعبادات، فأوجدوا مخارج لها تنسجم مع أحكام الشريعة السمحة ولا تتعارض معها. ومن الأمثلة على تلك الاجتهادات، الترخيص بالتباعد بين المصلين وعدم رصّ الصفوف في صلاة الجماعة، وكذلك التوقف عن أداء صلاة الجمعة إلى أن يخف خطر الوباء. وحيث إن ظهور جوائح و ضرورات أخرى أمر وارد في المستقبل، فإنه لا بد للعلماء و الفقهاء الأجلاء من الاستمرار في الاجتهاد من أجل إيجاد مخارج فقهية لما يستجد، بناء على القاعدة القرآنية العظيمة «ما جعل عليكم في الدين من حرج».

* باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية