د. عبد الحميد الموافي
بالرغم من حقيقة أن عمليات التحرش ببعض السفن التجارية وناقلات النفط في الخليج، سواء باحتجازها، أو بتعريضها للخطر باستخدام ألغام بحرية طافية، أو بإلصاق ألغام وعبوات ناسفة بجسم السفن المستهدفة، أو غير ذلك قد زادت خلال العامين الأخيرين، بشكل ملحوظ، وعلى نحو يرتبط بشكل أو بآخر بعمليات تخريب لسفن وناقلات نفط في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، خاصة إذا كانت متجهة إلى سوريا، وهي عمليات تشير أصابع الاتهام فيها إلى إسرائيل كجزء من الحرب السرية والمتعددة الأوجه، بينها وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما دفع طهران إلى الرد على ذلك، والعمل على إرساء نمط من الردود الرادعة في مياه الخليج، والإعلان عن ذلك في حالات محددة- احتجاز سفينة بريطانية ردا على احتجاز بريطانيا لسفينة إيرانية في جبل طارق- إلا أن الأيام الممتدة من 29 يوليو الماضي، حتى الرابع من الشهر الجاري، حيث تم استهداف ناقلة النفط «ام/ تي ميرسر ستريت» التي يملكها الملياردير الإسرائيلي «ايال عوفر» وترفع علم ليبيريا، بطائرة مسيرة، يوم 29 من يوليو الماضي، وما نتج عن ذلك من قتل بحارين على متنها أحدهما بريطاني والآخر روماني، قد أثارت قلقا ومخاوف حقيقية بسبب عمليات التصعيد واستهداف السفن والردود المتبادلة بين الأطراف المعنية، وإمكانية خروج ذلك عن السيطرة، سواء بشكل متعمد أو بسبب خطأ غير محسوب من جانب أحد الأطراف. غير أن مما له دلالة عميقة أن هذه الموجة من التصعيد ما لبثت أن هدأت، وتحولت إلى ما يمكن تسميته «مجرد بروفة وعملية لجس النبض المتبادل» بين الأطراف المتنمرة والمتحفزة حيال بعضها، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولعل السؤال الذي بات يفرض نفسه هو هل انتهاء موجة التصعيد المشار إليها يعني انتهاء الخطر؟ سواء خطر التكرار والحدوث مرة أخرى، أو خطر الانفلات والخروج عن السيطرة والوقوع في خطيئة الحرب ؟ وبالتالي تهديد الأمن والاستقرار على نحو بالغ في هذه المنطقة الحيوية.
على أية حال، وفي ضوء التطورات التي جرت خلال الآونة الأخيرة، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: ليس من المبالغة في شيء القول: إن استهداف الناقلة «ميرسر ستريت» باستخدام طائرة مسيرة مسلحة، ومهاجمة السفينة مرتين متتاليتين وقتل اثنين من بحارتها، يشير بوضوح إلى نقلة نوعية خطرة في استهداف السفن والناقلات المارة في الخليج، فالغارة بطائرة مسيرة هي في النهاية عمل حربي سافر، ويعيد للأذهان ما كانت تتعرض له ناقلات النفط خلال فترة حرب الناقلات عامي 1986 و1987 أثناء الحرب العراقية الإيرانية وهي ممارسات لها تداعيات سلبية عديدة على أمن واستقرار الملاحة في الخليج، ولا تود شعوب ودول الخليج عودتها مرة أخرى تحت أية ظروف ولا بأية مبررات.
وبرغم ما تردد من أن الطائرة المسيرة التي هاجمت السفينة جاءت من اليمن، وهو ما يعني مسؤولية جماعة «أنصار الله» الحوثية، وعدم تأكيد الخارجية الأمريكية لذلك، فإن اتهام كل من واشنطن ولندن وتل أبيب لإيران بالمسؤولية عن الحادث- في تصريحات رسمية- ردت عليه طهران بنفيها بشدة لتورطها، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية «سعيد خطيب زاده» أن هذه الاتهامات «لا أساس لها وأن هذه البيانات المنسقة- بين واشنطن ولندن وتل أبيب- تتضمن عبارات متناقضة وفي حال توفر لديهم أي دليل لدعم مزاعمهم التي لا أساس لها يجب عليهم توفيره.» وبينما أكدت الخارجية الأمريكية أنها تدرس «ردا مناسبا» على الهجوم بالتشاور مع حلفائها، فإن إيران أكدت وبشكل واضح وحازم أنها سترد على أي استفزاز أو «مغامرة»، وأنها لن تتردد في الدفاع عن أمنها ومصالحها القومية وسترد بشكل فوري وحاسم على أية مغامرة محتملة.» وفي حين تعكس هذه المواقف المعلنة بين إيران من ناحية وواشنطن ولندن وتل أبيب من ناحية ثانية، حالة التنمر والتربص المتبادلة، وهو ما ازداد بسبب عملية انتقال رئاسة الجمهورية في إيران من الرئيس السابق «روحاني» إلى الرئيس المنتخب مؤخرا «إبراهيم رئيسي»، والتخوف من احتمال استغلال هذا الحدث للقيام بعمل ما ضد إيران، فإنه لم يكن مصادفة أن تزداد حالة التوتر خلال الأيام السابقة لهذا الحدث، وهو ما جسدته عدة حوادث، منها فقدان السيطرة على بعض السفن لأسباب غير معروفة- تعرضت سفينتين على الأقل لذلك لبعض الوقت- وقيام عناصر مسلحة بالسيطرة على إحدى السفن، ثم الانسحاب منها وتركها بعد مدة وجيزة، ودون الإعلان أو تحديد هوية تلك العناصر بشكل محدد، فضلا عن مهاجمة الناقلة «ميرسير ستريت»، غير أن هذه الحوادث كلها انتهت متزامنة مع بعضها، وأصبح ينظر إليها على أنها مجرد (بروفة) لما يمكن أن يحدث على مياه الخليج في حالة استهداف إيران بعمل مباشر أو غير مباشر يؤثر على مصالحها أو أمنها. ومن المعروف أن الرئاسة الإيرانية الجديدة قد أكدت بوضوح أنها ستعمل على الحفاظ على مصالح إيران وأمنها وعلى سياسة الردع في الخليج . ويشكل ذلك في الواقع أحد أسباب تأخر أو عدم حدوث ما أسمته واشنطن «ردا مناسبا» على ضرب الناقلة المملوكة للملياردير الإسرائيلي.
ثانيا: أنه بالرغم من حدة ووضوح التصريحات الإيرانية، وتحذيرات طهران من المساس بها أو بمصالحها، خاصة في الظروف الراهنة، فإنه يمكن القول أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تود الانجرار إلى تصعيد يؤدي، أو قد يؤدي إلى مواجهة مسلحة في الخليج مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو إسرائيل أو معهم جميعا. وما يعزز هذا الافتراض أن القيادة الإيرانية ترغب بالفعل في إتاحة الفرصة ليس فقط لإنهاء العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، بل والعمل على تحقيق قدر من التنمية والتقدم الاقتصادي للبلاد والاستفادة من الموارد الإيرانية بشكل يعود بالخير على الإيرانيين، وذلك عبر استعادة مليارات الدولارات المجمدة في الخارج، وعودة التجارة، وتصدير النفط وحركة الأموال والتحويلات الدولية عبر نظام «سويفت» وغير ذلك من المصالح التي تأثرت بعقوبات الرئيس الأمريكي السابق دوناد ترامب التي فرضها على إيران.
وإذا كان ذلك يرتبط بالضرورة بنجاح مفاوضات فيينا بين إيران والدول الموقعة على الاتفاق النووي عام 2015 التي تشارك فيها واشنطن بشكل غير مباشر حتى الآن، فإن إيران حددت ما تراه ضروريا بالنسبة لها للعودة إلى الاتفاق النووي والالتزام بمسؤوليتها حياله، وفي مقدمة ذلك عودة واشنطن إلى الاتفاق الذي انسحب منه ترامب في عام 2018 ورفع العقوبات الأمريكية، وبعد ذلك يمكن لطهران بحث ما يتصل بالعلاقات الإيرانية الأمريكية والوضع في الخليج وأية موضوعات أخرى تقبل بطرحها على مائدة المفاوضات.
وحتى الآن لا توافق إيران على إدخال أية تعديلات على اتفاق 2015 ولا إدخال أطراف أخرى فيه غير الدول الموقعة عليه وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا إلى جانب إيران بالطبع.
وفي حين توصلت واشنطن وطهران إلى الاتفاق على نحو 90 في المائة من الموضوعات الخلافية بينهما، إلا أنه من المهم والضروري مواصلة مفاوضات فيينا حتى يتم العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 كمدخل لتناول أية قضايا أخرى بعد ذلك، ومن المأمول عودة المفاوضات التي توقفت بسبب عملية تولي الرئيس إبراهيم رئيسي مهامه وبالطبع إدخال تعديلات على فريق التفاوض الإيراني.
على المستوى الأمريكي فإن إدارة بايدن تتوق لعودة مفاوضات فيينا ونجاحها، وإن كانت تتريث حتى تتيقن من اتجاهات السياسة والمواقف الإيرانية في ظل الرئيس إبراهيم رئيسي من ناحية، ومحاولة الحصول على ضمانات من طهران حول الالتزام بشروط اتفاق 2015 خاصة في مجال مستويات تخصيب اليورانيوم التي تجاوزتها إيران بكثير من ناحية ثانية، وهو ما يقربها «طهران» في الواقع من امتلاك دورة التخصيب وصولا إلى إمكانية صنع قنبلة نووية قالت إسرائيل أنها باتت على مسافة زمنية محدودة.
والمؤكد أن نجاح إدارة بايدن في مفاوضات فيينا من شأنه أن يعزز سياسة واشنطن، سواء فيما يتصل بخطوات إعادة ترتيب علاقتها بدول المنطقة، أو فيما يتصل بسياسة أمريكا حيال الصين. ونظرا لأن الصين توصلت إلى اتفاق تعاون استراتيجي ضخم مع إيران؛ فإن واشنطن تسعى لمعادلة ذلك من خلال العمل على إعادة بناء العلاقات والثقة بين واشنطن وطهران مرة أخرى، ومن غير المستبعد تحقيق ذلك، خاصة أن واشنطن وطهران يمتلكان علاقات ممتدة بينهما قبل عام 1979 وتدرك كل منهما أهمية وقيمة الطرف الآخر استراتيجيا وسياسيا وأمنيا أيضا. وفي ضوء ذلك فإن الرد الأمريكي «المناسب» على حادث مهاجمة الناقلة «مير سر ستريت» قد يطول انتظاره، وقد يكون تحذيريا أيضا، حتى لا يعكر أو ينعكس سلبا على محادثات فيينا.
وعلى الصعيد الإسرائيلي فإنه مع إدراك أن تل أبيب عارضت الاتفاق النووي الإيراني، وتعارض العودة إلى الاتفاق، وتنظر إليه على أنه يسمح لإيران بالسير على طريق امتلاك قنبلة نووية بشكل أو بآخر، فإنه يمكن القول بأن حكومة نفتالي بينيت لا تتوفر لها نفس الحماسة التي توفرت لحكومة نتانياهو لتوجيه ضربة لإيران لمنعها من امتلاك قنبلة نووية. صحيح أن «بينيت» ووزير خارجيته يائير ليبيد أكدا استمرار إسرائيل في العمل على منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، إلا أن حكومة إسرائيل ترى - حتى الآن على الأقل - السير في ركاب واشنطن، سواء لضمان التزام واشنطن بمنع طهران من امتلاك قنبلة نووية، أو للحصول على أكبر قدر من المساعدات والأسلحة الأمريكية المتطورة؛ تحسبا لأية احتمالات في المستقبل. ومن ثم فإن مما له دلالة أن تلجأ حكومة بينيت إلى مجلس الأمن الدولي بالنسبة لحادث السفينة، ومعروف أنها هي نفسها لا تحترم ولا تلتزم بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية.
على أية حال فإن زيارة وليم بيرينز رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لإسرائيل قبل أيام عملت على الأرجح على تهدئة مخاوف إسرائيل من العودة إلى اتفاق 2015 مع إيران، وضمان عدم انجرار إسرائيل إلى أية مغامرة ضد إيران، وكذلك بحث الأوضاع في المنطقة وعلى نحو يحافظ على درجة من الهدوء تسمح بنجاح مفاوضات فيينا في الفترة القادمة وتبديد أية مخاوف إسرائيلية حيال النشاط النووي الإيراني أيضا.
ثالثا: أنه إذا كانت محصلة ما تم الإشارة إليه تشير بوضوح إلى تراجع احتمالات الحرب في الخليج، واحتمالات ضرب إسرائيل لإيران أيضا، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد أن موجة التصعيد الأخيرة تؤكد في الواقع على أهمية وضرورة العمل على دعم الأمن والاستقرار في الخليج والحفاظ على حركة وحرية الملاحة في مياهه وعدم تهديدها. وعلى هذا الصعيد فإن السلطنة رأت باستمرار أنه في الوقت الذي تقوم فيه بدورها ومسؤوليتها في الحفاظ على حركة وحرية الملاحة في مضيق هرمز الاستراتيجي، باعتبار أن خطوط الملاحة في المضيق تقع في مياهها الإقليمية، إلا أن المسؤولية تتسع بالضرورة لتشمل الدول والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملاحة في الخليج، وأن الأمر ليس مسؤولية عمانية فردية أو حصرية، خاصة وأن المصالح الإقليمية والدولية في الحفاظ على حرية واستمرار حركة الملاحة في الخليج آمنة لا تقل عن - إن لم تتجاوز- المصالح العمانية. وتجدر الإشارة إلى أن السلطنة حرصت منذ اللحظة الأولى لحادث الناقلة «مير سر ستريت» على تسيير طائرة وقطع بحرية إلى موقع الحادث للوقوف على طبيعة ما حدث ومداه، كما أنها أكدت على أهمية وضرورة الحفاظ على حرية حركة الملاحة واستمرارها آمنة وبما يتفق مع قواعد القانون الدولي.
وإذا كانت السلطنة تقوم عادة بدورها البناء في هذا المجال وتتعاون مع مختلف الأطراف المعنية، فإنه ينبغي على تلك الأطراف الأخرى العمل والتعاون الجاد والصادق للحفاظ على أمن وحرية واستمرار الملاحة في الخليج لصالح كل الدول والشعوب المطلة عليه ولصالح المنطقة والعالم من حولها، وبما يتفق مع قواعد القانون الدولي، خاصة وأن تحركات كل الأطراف باتت معروفة ومكشوفة بقدر أو بآخر.
بالرغم من حقيقة أن عمليات التحرش ببعض السفن التجارية وناقلات النفط في الخليج، سواء باحتجازها، أو بتعريضها للخطر باستخدام ألغام بحرية طافية، أو بإلصاق ألغام وعبوات ناسفة بجسم السفن المستهدفة، أو غير ذلك قد زادت خلال العامين الأخيرين، بشكل ملحوظ، وعلى نحو يرتبط بشكل أو بآخر بعمليات تخريب لسفن وناقلات نفط في شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، خاصة إذا كانت متجهة إلى سوريا، وهي عمليات تشير أصابع الاتهام فيها إلى إسرائيل كجزء من الحرب السرية والمتعددة الأوجه، بينها وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما دفع طهران إلى الرد على ذلك، والعمل على إرساء نمط من الردود الرادعة في مياه الخليج، والإعلان عن ذلك في حالات محددة- احتجاز سفينة بريطانية ردا على احتجاز بريطانيا لسفينة إيرانية في جبل طارق- إلا أن الأيام الممتدة من 29 يوليو الماضي، حتى الرابع من الشهر الجاري، حيث تم استهداف ناقلة النفط «ام/ تي ميرسر ستريت» التي يملكها الملياردير الإسرائيلي «ايال عوفر» وترفع علم ليبيريا، بطائرة مسيرة، يوم 29 من يوليو الماضي، وما نتج عن ذلك من قتل بحارين على متنها أحدهما بريطاني والآخر روماني، قد أثارت قلقا ومخاوف حقيقية بسبب عمليات التصعيد واستهداف السفن والردود المتبادلة بين الأطراف المعنية، وإمكانية خروج ذلك عن السيطرة، سواء بشكل متعمد أو بسبب خطأ غير محسوب من جانب أحد الأطراف. غير أن مما له دلالة عميقة أن هذه الموجة من التصعيد ما لبثت أن هدأت، وتحولت إلى ما يمكن تسميته «مجرد بروفة وعملية لجس النبض المتبادل» بين الأطراف المتنمرة والمتحفزة حيال بعضها، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولعل السؤال الذي بات يفرض نفسه هو هل انتهاء موجة التصعيد المشار إليها يعني انتهاء الخطر؟ سواء خطر التكرار والحدوث مرة أخرى، أو خطر الانفلات والخروج عن السيطرة والوقوع في خطيئة الحرب ؟ وبالتالي تهديد الأمن والاستقرار على نحو بالغ في هذه المنطقة الحيوية.
على أية حال، وفي ضوء التطورات التي جرت خلال الآونة الأخيرة، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: ليس من المبالغة في شيء القول: إن استهداف الناقلة «ميرسر ستريت» باستخدام طائرة مسيرة مسلحة، ومهاجمة السفينة مرتين متتاليتين وقتل اثنين من بحارتها، يشير بوضوح إلى نقلة نوعية خطرة في استهداف السفن والناقلات المارة في الخليج، فالغارة بطائرة مسيرة هي في النهاية عمل حربي سافر، ويعيد للأذهان ما كانت تتعرض له ناقلات النفط خلال فترة حرب الناقلات عامي 1986 و1987 أثناء الحرب العراقية الإيرانية وهي ممارسات لها تداعيات سلبية عديدة على أمن واستقرار الملاحة في الخليج، ولا تود شعوب ودول الخليج عودتها مرة أخرى تحت أية ظروف ولا بأية مبررات.
وبرغم ما تردد من أن الطائرة المسيرة التي هاجمت السفينة جاءت من اليمن، وهو ما يعني مسؤولية جماعة «أنصار الله» الحوثية، وعدم تأكيد الخارجية الأمريكية لذلك، فإن اتهام كل من واشنطن ولندن وتل أبيب لإيران بالمسؤولية عن الحادث- في تصريحات رسمية- ردت عليه طهران بنفيها بشدة لتورطها، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية «سعيد خطيب زاده» أن هذه الاتهامات «لا أساس لها وأن هذه البيانات المنسقة- بين واشنطن ولندن وتل أبيب- تتضمن عبارات متناقضة وفي حال توفر لديهم أي دليل لدعم مزاعمهم التي لا أساس لها يجب عليهم توفيره.» وبينما أكدت الخارجية الأمريكية أنها تدرس «ردا مناسبا» على الهجوم بالتشاور مع حلفائها، فإن إيران أكدت وبشكل واضح وحازم أنها سترد على أي استفزاز أو «مغامرة»، وأنها لن تتردد في الدفاع عن أمنها ومصالحها القومية وسترد بشكل فوري وحاسم على أية مغامرة محتملة.» وفي حين تعكس هذه المواقف المعلنة بين إيران من ناحية وواشنطن ولندن وتل أبيب من ناحية ثانية، حالة التنمر والتربص المتبادلة، وهو ما ازداد بسبب عملية انتقال رئاسة الجمهورية في إيران من الرئيس السابق «روحاني» إلى الرئيس المنتخب مؤخرا «إبراهيم رئيسي»، والتخوف من احتمال استغلال هذا الحدث للقيام بعمل ما ضد إيران، فإنه لم يكن مصادفة أن تزداد حالة التوتر خلال الأيام السابقة لهذا الحدث، وهو ما جسدته عدة حوادث، منها فقدان السيطرة على بعض السفن لأسباب غير معروفة- تعرضت سفينتين على الأقل لذلك لبعض الوقت- وقيام عناصر مسلحة بالسيطرة على إحدى السفن، ثم الانسحاب منها وتركها بعد مدة وجيزة، ودون الإعلان أو تحديد هوية تلك العناصر بشكل محدد، فضلا عن مهاجمة الناقلة «ميرسير ستريت»، غير أن هذه الحوادث كلها انتهت متزامنة مع بعضها، وأصبح ينظر إليها على أنها مجرد (بروفة) لما يمكن أن يحدث على مياه الخليج في حالة استهداف إيران بعمل مباشر أو غير مباشر يؤثر على مصالحها أو أمنها. ومن المعروف أن الرئاسة الإيرانية الجديدة قد أكدت بوضوح أنها ستعمل على الحفاظ على مصالح إيران وأمنها وعلى سياسة الردع في الخليج . ويشكل ذلك في الواقع أحد أسباب تأخر أو عدم حدوث ما أسمته واشنطن «ردا مناسبا» على ضرب الناقلة المملوكة للملياردير الإسرائيلي.
ثانيا: أنه بالرغم من حدة ووضوح التصريحات الإيرانية، وتحذيرات طهران من المساس بها أو بمصالحها، خاصة في الظروف الراهنة، فإنه يمكن القول أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تود الانجرار إلى تصعيد يؤدي، أو قد يؤدي إلى مواجهة مسلحة في الخليج مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو إسرائيل أو معهم جميعا. وما يعزز هذا الافتراض أن القيادة الإيرانية ترغب بالفعل في إتاحة الفرصة ليس فقط لإنهاء العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، بل والعمل على تحقيق قدر من التنمية والتقدم الاقتصادي للبلاد والاستفادة من الموارد الإيرانية بشكل يعود بالخير على الإيرانيين، وذلك عبر استعادة مليارات الدولارات المجمدة في الخارج، وعودة التجارة، وتصدير النفط وحركة الأموال والتحويلات الدولية عبر نظام «سويفت» وغير ذلك من المصالح التي تأثرت بعقوبات الرئيس الأمريكي السابق دوناد ترامب التي فرضها على إيران.
وإذا كان ذلك يرتبط بالضرورة بنجاح مفاوضات فيينا بين إيران والدول الموقعة على الاتفاق النووي عام 2015 التي تشارك فيها واشنطن بشكل غير مباشر حتى الآن، فإن إيران حددت ما تراه ضروريا بالنسبة لها للعودة إلى الاتفاق النووي والالتزام بمسؤوليتها حياله، وفي مقدمة ذلك عودة واشنطن إلى الاتفاق الذي انسحب منه ترامب في عام 2018 ورفع العقوبات الأمريكية، وبعد ذلك يمكن لطهران بحث ما يتصل بالعلاقات الإيرانية الأمريكية والوضع في الخليج وأية موضوعات أخرى تقبل بطرحها على مائدة المفاوضات.
وحتى الآن لا توافق إيران على إدخال أية تعديلات على اتفاق 2015 ولا إدخال أطراف أخرى فيه غير الدول الموقعة عليه وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا إلى جانب إيران بالطبع.
وفي حين توصلت واشنطن وطهران إلى الاتفاق على نحو 90 في المائة من الموضوعات الخلافية بينهما، إلا أنه من المهم والضروري مواصلة مفاوضات فيينا حتى يتم العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 كمدخل لتناول أية قضايا أخرى بعد ذلك، ومن المأمول عودة المفاوضات التي توقفت بسبب عملية تولي الرئيس إبراهيم رئيسي مهامه وبالطبع إدخال تعديلات على فريق التفاوض الإيراني.
على المستوى الأمريكي فإن إدارة بايدن تتوق لعودة مفاوضات فيينا ونجاحها، وإن كانت تتريث حتى تتيقن من اتجاهات السياسة والمواقف الإيرانية في ظل الرئيس إبراهيم رئيسي من ناحية، ومحاولة الحصول على ضمانات من طهران حول الالتزام بشروط اتفاق 2015 خاصة في مجال مستويات تخصيب اليورانيوم التي تجاوزتها إيران بكثير من ناحية ثانية، وهو ما يقربها «طهران» في الواقع من امتلاك دورة التخصيب وصولا إلى إمكانية صنع قنبلة نووية قالت إسرائيل أنها باتت على مسافة زمنية محدودة.
والمؤكد أن نجاح إدارة بايدن في مفاوضات فيينا من شأنه أن يعزز سياسة واشنطن، سواء فيما يتصل بخطوات إعادة ترتيب علاقتها بدول المنطقة، أو فيما يتصل بسياسة أمريكا حيال الصين. ونظرا لأن الصين توصلت إلى اتفاق تعاون استراتيجي ضخم مع إيران؛ فإن واشنطن تسعى لمعادلة ذلك من خلال العمل على إعادة بناء العلاقات والثقة بين واشنطن وطهران مرة أخرى، ومن غير المستبعد تحقيق ذلك، خاصة أن واشنطن وطهران يمتلكان علاقات ممتدة بينهما قبل عام 1979 وتدرك كل منهما أهمية وقيمة الطرف الآخر استراتيجيا وسياسيا وأمنيا أيضا. وفي ضوء ذلك فإن الرد الأمريكي «المناسب» على حادث مهاجمة الناقلة «مير سر ستريت» قد يطول انتظاره، وقد يكون تحذيريا أيضا، حتى لا يعكر أو ينعكس سلبا على محادثات فيينا.
وعلى الصعيد الإسرائيلي فإنه مع إدراك أن تل أبيب عارضت الاتفاق النووي الإيراني، وتعارض العودة إلى الاتفاق، وتنظر إليه على أنه يسمح لإيران بالسير على طريق امتلاك قنبلة نووية بشكل أو بآخر، فإنه يمكن القول بأن حكومة نفتالي بينيت لا تتوفر لها نفس الحماسة التي توفرت لحكومة نتانياهو لتوجيه ضربة لإيران لمنعها من امتلاك قنبلة نووية. صحيح أن «بينيت» ووزير خارجيته يائير ليبيد أكدا استمرار إسرائيل في العمل على منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، إلا أن حكومة إسرائيل ترى - حتى الآن على الأقل - السير في ركاب واشنطن، سواء لضمان التزام واشنطن بمنع طهران من امتلاك قنبلة نووية، أو للحصول على أكبر قدر من المساعدات والأسلحة الأمريكية المتطورة؛ تحسبا لأية احتمالات في المستقبل. ومن ثم فإن مما له دلالة أن تلجأ حكومة بينيت إلى مجلس الأمن الدولي بالنسبة لحادث السفينة، ومعروف أنها هي نفسها لا تحترم ولا تلتزم بقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية.
على أية حال فإن زيارة وليم بيرينز رئيس المخابرات المركزية الأمريكية لإسرائيل قبل أيام عملت على الأرجح على تهدئة مخاوف إسرائيل من العودة إلى اتفاق 2015 مع إيران، وضمان عدم انجرار إسرائيل إلى أية مغامرة ضد إيران، وكذلك بحث الأوضاع في المنطقة وعلى نحو يحافظ على درجة من الهدوء تسمح بنجاح مفاوضات فيينا في الفترة القادمة وتبديد أية مخاوف إسرائيلية حيال النشاط النووي الإيراني أيضا.
ثالثا: أنه إذا كانت محصلة ما تم الإشارة إليه تشير بوضوح إلى تراجع احتمالات الحرب في الخليج، واحتمالات ضرب إسرائيل لإيران أيضا، فإنه من الأهمية بمكان التأكيد أن موجة التصعيد الأخيرة تؤكد في الواقع على أهمية وضرورة العمل على دعم الأمن والاستقرار في الخليج والحفاظ على حركة وحرية الملاحة في مياهه وعدم تهديدها. وعلى هذا الصعيد فإن السلطنة رأت باستمرار أنه في الوقت الذي تقوم فيه بدورها ومسؤوليتها في الحفاظ على حركة وحرية الملاحة في مضيق هرمز الاستراتيجي، باعتبار أن خطوط الملاحة في المضيق تقع في مياهها الإقليمية، إلا أن المسؤولية تتسع بالضرورة لتشمل الدول والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملاحة في الخليج، وأن الأمر ليس مسؤولية عمانية فردية أو حصرية، خاصة وأن المصالح الإقليمية والدولية في الحفاظ على حرية واستمرار حركة الملاحة في الخليج آمنة لا تقل عن - إن لم تتجاوز- المصالح العمانية. وتجدر الإشارة إلى أن السلطنة حرصت منذ اللحظة الأولى لحادث الناقلة «مير سر ستريت» على تسيير طائرة وقطع بحرية إلى موقع الحادث للوقوف على طبيعة ما حدث ومداه، كما أنها أكدت على أهمية وضرورة الحفاظ على حرية حركة الملاحة واستمرارها آمنة وبما يتفق مع قواعد القانون الدولي.
وإذا كانت السلطنة تقوم عادة بدورها البناء في هذا المجال وتتعاون مع مختلف الأطراف المعنية، فإنه ينبغي على تلك الأطراف الأخرى العمل والتعاون الجاد والصادق للحفاظ على أمن وحرية واستمرار الملاحة في الخليج لصالح كل الدول والشعوب المطلة عليه ولصالح المنطقة والعالم من حولها، وبما يتفق مع قواعد القانون الدولي، خاصة وأن تحركات كل الأطراف باتت معروفة ومكشوفة بقدر أو بآخر.