الإسلام.. أنشأ حضارة شامخة، تمكنت من وراثة الأمم السابقة، وأضافت إليها، كأي حضارة تضيف إلى المسيرة البشرية، حضارة منتصبة صواها إلى اليوم. وهي من الحضارات التي تنتسب إلى الدين، وكان الدين عمدتها. وقد تشكلت وتطورت تحت الضوء؛ أي أن معظم وقائعها وأحداثها وعناصرها ونصوصها مدوّنة محفوظة، بغض النظر عن السليم منها والسقيم. ولا عجب.. فقد احتفى القرآن بالقراءة والقلم والكتاب والعلم. إن دراسة وقائع هذه الحضارة؛ والنظر في عِبرها؛ زادٌ غيرُ مستغنىً عنه عند أهل الفكر وأولي النظر، كما أن استلهام الهداية من الإسلام رشدٌ لا ينبغي للمسلمين الإعراض عنه. في هذا المقال.. الذي يتفيأ ظلال الاحتفاء بالهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ أستحضر بعض الوقفات التي أستلهمها من الحدث الجليل.
الحضارات.. عادةً؛ تقوم على سبب من أسباب الهجرة، فما من حضارة إلا كانت الهجرة جرثومة في قيامها، بل والدين كذلك يقوم عليها، ويعود ذلك إلى أن الدين -والحضارة من بعده- تقوم على أساس من التغيير والحرية، فعموم الناس؛ بدايةً.. لا يُقبِلون على الدين الذي ينشأ بين ظهرانيهم، ولا يرون نبيه إلا واحداً منهم، صبأ عن دينهم وحنف عن سبيلهم. فيسعى النبي بعد الإياس من قومه إلى البحث عن أفضل الأمكنة ليحتضن دعوته، فيهاجر إليه، فيجد وأتباعه حريتهم في المهجر، كما تنتعش الدار التي تستقبلهم بما يضيفونه من ديناميكية على مجتمعها، وهكذا.. تتساوق الأحداث حتى يكمل شأوُ الدين، فتنبثق منه الحضارة. وهذا ما حصل للإسلام، وهو ما حصل لغيره، مع اختلاف في الأحداث لاختلاف الظروف التي تمر بها تلك الأحداث.
في الهجرة النبوية.. يُلحظ ثلاثة متغيرات كبرى لأجل ثابت واحد. ولأبدأ بالثابت؛ وهو المبدأ الإيماني الذي خامر قلوب المؤمنين: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. والمبدأ عموماً.. لا يرسخ في النفس إلا إن استعد المؤمن بأن يضحي لأجله بالنفس والمال والمكان والعلاقات والذكريات. ولذلك.. عليك ألا تحارب المؤمن؛ لاسيما.. إن كان حديث إيمان، ففي حربك إياه أنت الخاسر وهو المنتصر، مهما بدا لك من ضعفه وقلة حيلته، ومهما ألهبتْ غضبَك قوتُك وكثرةُ عددك، هذه واقع أقرّه التأريخ على مساره الطويل. فالمبدأ الإيماني.. يولد وتولد معه قوته الذاتية المتسلحة بالصبر والتضحية والأمل؛ خاصةً.. إن كان يرى معتقِدُه بأنه ثورة على ضلال المجتمع. لقد كثّفت «سورة العصر» طبيعة هذا المبدأ الإيماني، يقول الله: (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وهي سورة من أول ما نزل من القرآن.
هناك قاعدة.. أن المعتقَد الجديد يغلب المعتقَد القديم، وذلك.. لاخلولاق القديم، وثقله بركام الماضي، وإثخان جراحه بمُدية النقد. وأما الجديد فهو حادث على النفس، وكل حديث له إبهار لا يقاوَم، وهو خفيف من حمولة الماضي، ولم يُجرَّب عليه من النقد شيء، بل هو نفسه جاء لينقد ما سبقه، وهذا أمر عام في المعتقدات، فما بالكم بمَن كان إيمانه بالله يمده بقوة لا يُقتدر على تكييفها.
وأما المتغيرات.. فهي:
- الهجرة من الوطن.. فليس أصعب على الإنسان من هجر الأرض التي لامس أديمُها بشرتَه لأول مرة. فأن يخرج النبي والمؤمنون من بلدهم الذي نشأوا فيه وتقلّب آباؤهم على ترابه؛ مُكرَهين تحت سياط الاضطهاد، وانغلاق سبل التفاهم مع أهليهم وقومهم، فهو لا يعني مفارقة المكان وذكرياته فحسب، وإنما يدل على أن مرحلة أخرى عليهم أن يبدؤوها، وأن يبتدعوا طريقهم بتهشيم صخوره الصلدة، وأن يتحملّوا كل ما يجدونه من معاناة ومكابدة. فهجرة المكان.. لسيت سَيراً نحو الضعف، وإنما هي ذاتها قوة لا تكاد تقهر. إنهم يهجرون المكان ليبقوا على المبدأ، الذي لا يقبلون عليه المساومة.
- مفارقة منبت الدين ومنطلقه.. فمكة؛ لم تكن مجرد بلد جعله القدر موطن النبي والمؤمنين، وإنما يقع في بطنها بيت الله الحرام، أول بيت للتوحيد، فيه مقام إبراهيم نبي الملة التي ارتضاها الله للناس أجمعين، قال الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ). فانظر كم هي المشقة النفسية والمعاناة الوجدانية! فها هم المؤمنون تقصيهم هيمنة الرفض الاجتماعي عن موئل الإيمان ومنبع الدين، يغادرون مكة؛ وتظل قلوبهم معلقة بأستار كعبتها، يقول الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، فليكن موضع البيت مع قدسيته هو المتغيّر، ويظل الإيمان هو المبدأ الأعلى الراسخ في النفس؛ يعمل عمله.. إخلاصاً باتجاه الله، وأخلاقاً باتجاه الإنسان.
- التجدد في لغة القرآن.. فقد كان للسور القرآنية النازلة في مكة أسلوبها الخاص، المرتكز على المطلق الإيماني والكليات الأخلاقية، يخاطب الناس بطبيعتهم الإنسانية العامة. أسلوب.. ترك التفاصيل للمبادئ العليا في الدين، ولتفعيل الأخلاق في الحياة، بحسبما يرسخ في النفس من قوة الإيمان. انتقل المؤمنون إلى المدينة فاختلفت لغة القرآن لتواكب طبيعة المجتمع؛ مجتمع يسود فيه أهل الكتاب، فهناك.. كتاب وشرائع وأحكام تفصيلية سابقة عليهم، وهناك.. داخلون كُثر في الإسلام، فلم تعد تربية الجماعة هي العنصر الأوحد للنبي والصحابة الأوائل، بل شاركتها تحديات كثيرة عليهم تذليلها، فكان القرآن ينزل ليعالج النوازل بما يناسبها. وهكذا.. نرى أنه قد يتغيّر كل شيء، بما في ذلك الخطاب القرآني نفسه، لأجل المبدأ الأسمى؛ وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.
لم تكن مجرد هجرة أجساد مضطهدة، ولا تحوّل عن مكان أثير في النفس، وإنما هي إعادة تأهيل كامل، يختلف في مرحلته عمّا سبقها من مرحلة. وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم، وهو التحول الجذري عن أوضاعهم الحالية، التي ركدت بهم إلى الأرض، وأوقعتهم في خنادق الصراع، وأسكنتهم سراديب التخلف الحضاري، ومكّنت منهم الأمم. لقد جاء الوقت لكي ينتقل المسلمون إلى مرحلة حية من الاجتماع البشري والفعل الحضاري، وإلى فهم أحكم لرسالة ربهم، وإلى منهاج أقوم في علومهم ومعارفهم.
اللافت للنظر في الهجرة النبوية.. أن النبي والمؤمنين به؛ لم يتركوا دار هجرتهم بعد أن تمكّنوا من فتح مكة، بل كانوا أوفياء لها، فعشر سنوات في المدنية ليست كافيةً بأن تمسح شوق المهاجرين إليها، وتعلق أفئدتهم بعتباتها، لاسيما.. أنها مقر بيت الله الحرام. ولكنه الوفاء -وهو شيمة العظماء- لمَن وقف معهم في حال شدتهم، فاكتفوا بفتح مكة، وتخليص البيت الحرام من الأوثان، وأن يقيموا فيها شعائر الإسلام، ويفتحوا أبوابها للذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئاً، ثم عادوا إلى المدينة. وقد ظل النبي مدةً في مكة يقيم صلاته ركعتين ركعتين، ليبيّن للناس أنها على علو قدرها عنده، وتعظيم شأنها عند العرب والمسلمين، لم تصرفه عن البلد الذي آواه ونصره؛ هو وأتباعه، حين تمكّن الإسلام في الأرض.
ثم إن النبي يضرب مثلاً أعلى للعفو؛ فهو على ما عاناه مع المؤمنين من أذى قريش، في مكة وخارجها، فالقرشيون وأحلافهم.. لم يكتفوا بأن يبعدوا محمد عنهم، بل تبعوه بالجيوش، وترصدوا لأتباعه كل سهل وحَزَن، إلا أنه لمّا عاد إلى مكة منتصراً، لم ينتقم ممن آذوه، بل عفا عنهم، وفتح لهم قلبه للدخول في دينه. وهذا الخُلُق ينبغي أن يكون مبدأ كل من هاجر عن بلده، فلا يسعى لمضرته، ولا يجلب الخبال للانتقام من أهله، وإنما عليه أن يسعى لاستقرار بلاده وخير أهله.
الحضارات.. عادةً؛ تقوم على سبب من أسباب الهجرة، فما من حضارة إلا كانت الهجرة جرثومة في قيامها، بل والدين كذلك يقوم عليها، ويعود ذلك إلى أن الدين -والحضارة من بعده- تقوم على أساس من التغيير والحرية، فعموم الناس؛ بدايةً.. لا يُقبِلون على الدين الذي ينشأ بين ظهرانيهم، ولا يرون نبيه إلا واحداً منهم، صبأ عن دينهم وحنف عن سبيلهم. فيسعى النبي بعد الإياس من قومه إلى البحث عن أفضل الأمكنة ليحتضن دعوته، فيهاجر إليه، فيجد وأتباعه حريتهم في المهجر، كما تنتعش الدار التي تستقبلهم بما يضيفونه من ديناميكية على مجتمعها، وهكذا.. تتساوق الأحداث حتى يكمل شأوُ الدين، فتنبثق منه الحضارة. وهذا ما حصل للإسلام، وهو ما حصل لغيره، مع اختلاف في الأحداث لاختلاف الظروف التي تمر بها تلك الأحداث.
في الهجرة النبوية.. يُلحظ ثلاثة متغيرات كبرى لأجل ثابت واحد. ولأبدأ بالثابت؛ وهو المبدأ الإيماني الذي خامر قلوب المؤمنين: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. والمبدأ عموماً.. لا يرسخ في النفس إلا إن استعد المؤمن بأن يضحي لأجله بالنفس والمال والمكان والعلاقات والذكريات. ولذلك.. عليك ألا تحارب المؤمن؛ لاسيما.. إن كان حديث إيمان، ففي حربك إياه أنت الخاسر وهو المنتصر، مهما بدا لك من ضعفه وقلة حيلته، ومهما ألهبتْ غضبَك قوتُك وكثرةُ عددك، هذه واقع أقرّه التأريخ على مساره الطويل. فالمبدأ الإيماني.. يولد وتولد معه قوته الذاتية المتسلحة بالصبر والتضحية والأمل؛ خاصةً.. إن كان يرى معتقِدُه بأنه ثورة على ضلال المجتمع. لقد كثّفت «سورة العصر» طبيعة هذا المبدأ الإيماني، يقول الله: (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، وهي سورة من أول ما نزل من القرآن.
هناك قاعدة.. أن المعتقَد الجديد يغلب المعتقَد القديم، وذلك.. لاخلولاق القديم، وثقله بركام الماضي، وإثخان جراحه بمُدية النقد. وأما الجديد فهو حادث على النفس، وكل حديث له إبهار لا يقاوَم، وهو خفيف من حمولة الماضي، ولم يُجرَّب عليه من النقد شيء، بل هو نفسه جاء لينقد ما سبقه، وهذا أمر عام في المعتقدات، فما بالكم بمَن كان إيمانه بالله يمده بقوة لا يُقتدر على تكييفها.
وأما المتغيرات.. فهي:
- الهجرة من الوطن.. فليس أصعب على الإنسان من هجر الأرض التي لامس أديمُها بشرتَه لأول مرة. فأن يخرج النبي والمؤمنون من بلدهم الذي نشأوا فيه وتقلّب آباؤهم على ترابه؛ مُكرَهين تحت سياط الاضطهاد، وانغلاق سبل التفاهم مع أهليهم وقومهم، فهو لا يعني مفارقة المكان وذكرياته فحسب، وإنما يدل على أن مرحلة أخرى عليهم أن يبدؤوها، وأن يبتدعوا طريقهم بتهشيم صخوره الصلدة، وأن يتحملّوا كل ما يجدونه من معاناة ومكابدة. فهجرة المكان.. لسيت سَيراً نحو الضعف، وإنما هي ذاتها قوة لا تكاد تقهر. إنهم يهجرون المكان ليبقوا على المبدأ، الذي لا يقبلون عليه المساومة.
- مفارقة منبت الدين ومنطلقه.. فمكة؛ لم تكن مجرد بلد جعله القدر موطن النبي والمؤمنين، وإنما يقع في بطنها بيت الله الحرام، أول بيت للتوحيد، فيه مقام إبراهيم نبي الملة التي ارتضاها الله للناس أجمعين، قال الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ). فانظر كم هي المشقة النفسية والمعاناة الوجدانية! فها هم المؤمنون تقصيهم هيمنة الرفض الاجتماعي عن موئل الإيمان ومنبع الدين، يغادرون مكة؛ وتظل قلوبهم معلقة بأستار كعبتها، يقول الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)، فليكن موضع البيت مع قدسيته هو المتغيّر، ويظل الإيمان هو المبدأ الأعلى الراسخ في النفس؛ يعمل عمله.. إخلاصاً باتجاه الله، وأخلاقاً باتجاه الإنسان.
- التجدد في لغة القرآن.. فقد كان للسور القرآنية النازلة في مكة أسلوبها الخاص، المرتكز على المطلق الإيماني والكليات الأخلاقية، يخاطب الناس بطبيعتهم الإنسانية العامة. أسلوب.. ترك التفاصيل للمبادئ العليا في الدين، ولتفعيل الأخلاق في الحياة، بحسبما يرسخ في النفس من قوة الإيمان. انتقل المؤمنون إلى المدينة فاختلفت لغة القرآن لتواكب طبيعة المجتمع؛ مجتمع يسود فيه أهل الكتاب، فهناك.. كتاب وشرائع وأحكام تفصيلية سابقة عليهم، وهناك.. داخلون كُثر في الإسلام، فلم تعد تربية الجماعة هي العنصر الأوحد للنبي والصحابة الأوائل، بل شاركتها تحديات كثيرة عليهم تذليلها، فكان القرآن ينزل ليعالج النوازل بما يناسبها. وهكذا.. نرى أنه قد يتغيّر كل شيء، بما في ذلك الخطاب القرآني نفسه، لأجل المبدأ الأسمى؛ وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.
لم تكن مجرد هجرة أجساد مضطهدة، ولا تحوّل عن مكان أثير في النفس، وإنما هي إعادة تأهيل كامل، يختلف في مرحلته عمّا سبقها من مرحلة. وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم، وهو التحول الجذري عن أوضاعهم الحالية، التي ركدت بهم إلى الأرض، وأوقعتهم في خنادق الصراع، وأسكنتهم سراديب التخلف الحضاري، ومكّنت منهم الأمم. لقد جاء الوقت لكي ينتقل المسلمون إلى مرحلة حية من الاجتماع البشري والفعل الحضاري، وإلى فهم أحكم لرسالة ربهم، وإلى منهاج أقوم في علومهم ومعارفهم.
اللافت للنظر في الهجرة النبوية.. أن النبي والمؤمنين به؛ لم يتركوا دار هجرتهم بعد أن تمكّنوا من فتح مكة، بل كانوا أوفياء لها، فعشر سنوات في المدنية ليست كافيةً بأن تمسح شوق المهاجرين إليها، وتعلق أفئدتهم بعتباتها، لاسيما.. أنها مقر بيت الله الحرام. ولكنه الوفاء -وهو شيمة العظماء- لمَن وقف معهم في حال شدتهم، فاكتفوا بفتح مكة، وتخليص البيت الحرام من الأوثان، وأن يقيموا فيها شعائر الإسلام، ويفتحوا أبوابها للذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئاً، ثم عادوا إلى المدينة. وقد ظل النبي مدةً في مكة يقيم صلاته ركعتين ركعتين، ليبيّن للناس أنها على علو قدرها عنده، وتعظيم شأنها عند العرب والمسلمين، لم تصرفه عن البلد الذي آواه ونصره؛ هو وأتباعه، حين تمكّن الإسلام في الأرض.
ثم إن النبي يضرب مثلاً أعلى للعفو؛ فهو على ما عاناه مع المؤمنين من أذى قريش، في مكة وخارجها، فالقرشيون وأحلافهم.. لم يكتفوا بأن يبعدوا محمد عنهم، بل تبعوه بالجيوش، وترصدوا لأتباعه كل سهل وحَزَن، إلا أنه لمّا عاد إلى مكة منتصراً، لم ينتقم ممن آذوه، بل عفا عنهم، وفتح لهم قلبه للدخول في دينه. وهذا الخُلُق ينبغي أن يكون مبدأ كل من هاجر عن بلده، فلا يسعى لمضرته، ولا يجلب الخبال للانتقام من أهله، وإنما عليه أن يسعى لاستقرار بلاده وخير أهله.