«لم تعد ثمة كلماتٌ أخرى تقال؛

فلم يبق هناك سوى قنابل

تنفجر من رؤوسنا.

لم يبق هناك سوى قنابل

تمتصّ آخر نقطةٍ من دمائنا.

لم يبق هناك سوى قنابل

تصقل جماجمَ الموتى».

«قنابل» أو لم تعد ثمة كلمات أخرى تقال.. هو عنوان لمقطع نصٍّ شعريِّ مكثف يُلخص فيه -حسب قراءتي ورؤيتي- المسرحي والشاعر البريطاني Harold Pinter خطاب نصِّه المسرحي السياسيِّ الملغوم المعنون (مؤتمر مسرحي Press Conference) الذي كتبه عام 2002م وترجمه خالد الجبيلي، وتنتمي المسرحية إلى مسرح الهجاء السياسي الدقيق المكثف والشديد الاختصار.

يطرح النص العديد من المفاهيم الإنسانية والسياسية والثقافية غير المقتصدة، ويتعرض إلى العلاقات السائدة في محيط السلطة، وما يُمكن رؤيته منها أو عدم رؤيته، وما ينبغي الانشغال به، أو تلاشيه، والكيفية التي يمكن أن تدير بها العقول العليا الدولة ومخاطر الأعداء الذين يعيشون في الداخل، أو في خارجها. كما يثير النصّ بعض عناصر الفن المسرحي واقترابه من تلك الجماجم التي الحياة!! فهناك مفهوم شعرية المسرح واشتغالات النص كوحدة مركزية لعمل جسد الممثل، وهي مجمل ما يمكن الإشارة إليه بدور المؤلف وقيمة النص التي كان يحظى بها قبل ثورة أنطونان أرتو وبريخت اللذين طرحا شعرية جديدة للعرض المسرحي، يجري فيها التضحية بالبناء التقليدي للنص المسرحي، ثم قتلهما -أيّ المؤلف والنص- وإعادة الاعتبار للمسرح كطقس مشهدي لا أبعد من ذلك! فتذهب شعرية المسرح إلى التمييز بين جهدين متمايزين، الأول مساحات إخراج النص وفق المنظومة التقليدية لأرسطو، والثاني تتجه إلى فن التخلي عن الإرث التقليدي للمسرح، نصًّا وتمثيلا وإخراجا وسينوغرافيا. وإزاء هذين الجهدين يمكن استحضار مجموع الدراسات التي صارت مرجعيات لتطوير العرض المسرحي.

تجري أحداث مسرحية (مؤتمر مسرحي) بين حوار أجراه صحفي مع مسؤول في دولة ما، لا يجري الإفصاح عنها. فنتعرف على هذا المسؤول -القديم المتجدد- الذي لا يجد أي تناقض بين وظيفته السابقة كرئيس للشرطة السرية ووظيفته الجديدة وزيرا للثقافة. فقد كانت مسؤولياته السابقة تتركز بالتحديد على حماية التراث الثقافي وصونه من القوى الهدامة والدفاع عن أنفسهم ضدّ الدودة!! يستغرب الصحفي من إجابة الوزير الأخيرة، لكن الوزير يصّر عليها، ثم ينتقل حوار المؤتمر الصحفي إلى تفصيلات أخرى يحاول من خلال الأسئلة التي يطرحها الصحفي أن يفهم مِن هذا المسؤول غياب التناقض بين الوظيفتين اللتين شغلهما، فيسأله عندما كانَ رئيسا للشرطة السرية، ماذا كانت سياسته تجاه الأطفال؟ وكيف كانوا يطبقون سياستهم عليهم؟ وكيف كانوا يقتلونهم؟ ما الأسلوب الذي كانوا يتتبعونه؟ وما طبيعة الثقافة التي كانوا يقترحونها؟ وكيف كانوا يفهمون دورهم الحالي كوزير للثقافة؟ وماذا عن التنوع الثقافي؟ وماذا عن المعارضة النقدية؟ عند هذا السؤال يجيب الوزير قائلا: «إن المعارضة النقدية مقبولة – إذا ما بقيت في البيت. إن نصيحتي هي ــ اتركها في البيت. ضعها تحت السرير. مع وعاء البول»!

إننا في (مؤتمر صحفي) قد ننفعل ونُصدم ونستفرغ ونُذهل، لكن لا يحدث أي شعور بالتعاطف مع الطرفين المتحاورين الصحفي والوزير. كأن مقولة النص ظاهريا الوصول إلى تحقيق الشعور بالسهولة المضاعفة للتقبّل لدى المتلقين! فالصحفي يُنهي المؤتمر بشكر الوزير على كلماته الصريحة، بينما يغادر الوزير بعدما يضيف هذه الجملة: «حسب فلسفتنا... المفقود موجود. شكرًا لك!!».

كانت شعرية أرسطو تستند إلى المحاكاة وثبات الوحدات الثلاث. في هذا النص تفشل الشعرية المسرحية القديمة على مستويات متداخلة. فمن ناحية يمكن تخيل الكثير من تنامي الفشل أو تسربه؛ كفشل التلقي مثلا؛ فإذا كان المطلوب بعد قراءة المسرحية هو إثارة التعاطف ثم الخوف والتطهر بتعبيرات أرسطو، فهذا أبعد ما يكون الوصول إليه مع هارلود بنتر، أما إذا كان المطلوب طرح السؤال التقليدي؛ أين يكمن الصراع الدرامي؟ فعلى طلبة المعاهد أو الذين يدفعون بنصوصهم إلى التقييم والمشاركة في المهرجانات التريث في هذا النوع من الصراع المتشابك مع مسرح اللامعقول والدراما الثورية الحديثة، فتتبع شكل الصراع الذي في أبسط الأحوال سيصفه الناقد بالصراع الداخلي أو النفسي، كلها تخريجات مبتذلة لا تصمد أمام هذا النص الذي تملؤه القنابل والانفجارات في كل مكان من الجسد البشري. أما أعتى أنواع الفشل ضراوة وشراسة فيمكن تمثّله في علاقات القوى والحدود المتراخية بين الفن والحياة، وبين الفن والدين، وبين الفن والموت، وبين الفن والسلطة، والفن والثقافة، وفشل الكاتب وتحوله إلى أداة تنفيذية أو تسويقية للسلطة!

يظل الذهاب إلى ما وراء النص في مسرحية (مؤتمر صحفي) هو ذهاب بالضرورة إلى نقطة نجاح النصّ، ويتجسّد ذلك بوضوح كبير في اشتغال الممثل ولعبه على الخشبة وقدراته التمثيلية على استنطاق الأثر النفسي لجوهر بعض هذه الكلمات أمام الجمهور؛ (ندق رقابهم، عملية تربوية، عملية ثقافية، الولاء للسوق الحرة، وعاء البول، غرفة الاعتراف، الانسحاب، التوبة، وطيبة جيل الفطرية) إنها كلمات واقعية، حقيقية، صادمة، فكيف يمكن إخضاعها للتلويح أو التلميح أو الإيحاء؟ كلمات تقول نفسها واضحة ولا تقبل المواربة أو الضلال. عند هذه المساحة؛ مساحة التمثيل سيبدع الممثلان إلى جانب المخرج، الذي سيتيح له فضاء النص التعبير بواسطة الإخراج والسينوغرافيا والديكور والإضاءة إلى توسيع نطاق العرض، بالاستناد إلى ذاكرتين متلازمتين، ذاكرة الكلمات الخاصة بالتعذيب، وذاكرة التمثيل المضاد. فالنص عند قراءته يسير بنا في خط محدد، يتسم بالهدوء حتى الانتهاء بنا إلى الصفاقة، وعلى الرغم من وجود بعض الإشارات الإرشادية القليلة والمناسبة للمخرج مثل (يضحك، يتابع، يضحكان، تصفيق، يلوح بيده ويخرج، تطفأ الأنوار) فإنّ مهمة المخرج تكمن في الدفع بالتمثيل إلى أقصى مداه، واستخراج عناصر الجذب والشد لدى الممثل، بحيث نراهما (الصحفي والوزير) يجعلان الخشبة كلها في إيقاع مستمر، حتى لا يسقط النص ومؤلفه في مفهوم المسرح الأحمق!

في ظل المناداة والدعوات المتكررة إلى توظيف جماليات الشعرية ما بعد الدرامية على الخشبة، يتناهى إلى البال هذا السؤال: إن إمكانيات مسرحية (مؤتمر صحفي) بصغر حجمها (في الأصل الإنجليزي 16 صفحة) تنفتح على استيعابها لتقدم كشكل فني آخر؛ كحلقة درامية مصورة تماثل أعمالا تلفزيونية شهيرة مثل (بقعة ضوء أو مرايا) وهي أقرب كذلك إلى حلقات السيتكوم، فأين يكمن جمالها كنصٍّ للمسرح؟

المنحى الجمالي للنص يتمثّل في أن المسرحية أشبه بالدودة القابلة للتمدد! هذا نص ظاهريا يسهل التخلص منه، كما يمكن الاعتذار برفضه، بالإضافة إلى ذلك، النص لا يفضح أي حقائق أو أنظمة محددة، فالرسالة السياسية معلنة وصريحة؛ لأن الأشياء باتت معروفة للجميع، ومتخيلة أو محتملة الوقوع في أي مكان، بل يُمكن للمخرج الجيد توظيف إحساسه الداخلي لتطوير النص والاستعاضة عن تفاصيل المؤتمر الصحفي بتفاصيل أخرى متغيرة تحدث في بلده، فكّل شيء بحسب آن أوبرسفيلد قابل للتمسرح بمجرد نقله إلى الخشبة.

في تقديري، أن جمالية (مؤتمر صحفي) كنص مسرحي، تتبدى في قدرة النص منحنا كقراء من جهة، وكمتفرجين من جهة أخرى، تلك الفرصة المتكافئة لتخيل شكل الدودة التي يجب الدفاع عنها- وفي أحسن الأحوال قتلها- فما طولها؟ ما قدرتها على التوغل؟ ما لونها تلك الحقيرة؟ كيف تتغذى؟ وتخيل وعاء البول الأخرق الذي يكسر التوّهم المسرحي، عندما يكون الخيال وذلك الشيء معا في كفة متكافئة!