قد يحار قارئ رواية "أبناء حورة" للكاتب عبد الرحيم كمال الصادرة أخيرا عن دار الكرمة في تصنيفها: هل تنتمي إلى الفنتازيا، أم الدستوبيا، أم حتى الخيال العلمي؟ ذلك أن في الرواية عناصر تبرِّر حملها لأيٍّ من تلك اللافتات. ففيها من روايات الفنتازيا أن أحداثها تجري في غير هذا العالم، وفق قوانين مغايرة لقوانيننا المعهودة، وأن فيها حضورا للسحر والقوى الخرافية على نحو يذكِّرنا بروايات من قبيل لورد الخواتم وهاري بوتر وما يماثلها. وفيها من روايات الدستوبيا أن أحداثها تجري في مستقبل قريب، تؤدي فيه أحداث جسام إلى تغير العالم وخضوع بعض بلاده لسيطرة كائنات أخرى ذات قوة وقدرات هائلة تهون أمامها قوى البشر وقدراتهم. وفيها من روايات الخيال العلمي أن مخترعات جديدة تظهر فتغير من نمط الحياة كما عرفه البشر، ومن طبيعة علاقة الحاكم بالمحكوم.
ثم إن في "أبناء حورة"- فضلا عن هذه العناصر- سمة لعلها الحاسمة ـ في تقديري ـ لنسبتها إلى تراث الرواية الفنتازية، وهي أنها رواية تحركها الحبكة، أوهي بالتعبير الإنجليزي "plot-driven novel"، فأكثر ما يعنيها هو أن تحكي الحكاية، ويلي ذلك في الأهمية كل ما تعنى به الروايات من قبيل رسم الشخصيات أو التعمق في نفوسها. فنحن على مدار صفحات هذه الرواية التي تتجاوز الأربعمائة نبقى مبهوري الأنفاس، نلاحق شخصيات الرواية الكثيرة المتعاصرة والمتتالية من بلد إلى بلد مشدودين إلى أن نعرف ماذا سيكون من أمر تلك البقعة من الأرض التي سادها العمالقة حتى انتهى عهدهم، ليهددها من بعدهم حاكم مجنون كامن في أعماق البحر داخل غواصة بحجم مدينة تحوي جيشا يستعد لغزو العالم.
غير أن "أبناء حورة"، وإن أمكن قراءتها على مستوى من المستويات بهدف المتعة المحضة والتسلية اللاهية، ليست هذه الرواية وحسب. كما أن علاقتها بتراث رواية فنتازيا بالمعنى الغربي أوهى كثيرا على مستوى البنية من علاقتها بالملاحم الشعبية العربية الشهيرة كسيف بن ذي يزن أو السيرة الهلالية، وعلاقة خيالها بخيال ألف ليلة وليلة والحواديت الشعبية العربية وكرامات الأولياء متينة بل سُرِّية، فضلا عن أنها أبعد ما تكون عن الطبيعة التجارية ـ بل الانتهازية ـ في تلك الروايات التي تبيع لقارئها (الصغير مهما يكن عمره) التسلية والإثارة دون أن ترفق بهما ما يماثلهما في الأهمية أو يتجاوزهما. فالتسلية والإثارة هنا مطية واضحة لما هو أهم وأعمق.
وهي أيضا ليست رواية دستوبيا، وإن كانت كذلك فبطريقتها الخاصة الفريدة. فالمعتاد في أكثر أعمال الدستوبيا الروائية أو السينمائية أن العالم ينقلب رأسا على عقب إثر كارثة عاتية تحدث في المستقبل وتكون أكبر من طاقة البشر؛ ولأن هذه الكارثة تحدث في المستقبل يتسرب إلينا ـ نحن القراء ـ إننا الآن آمنون؛ ولأنها كارثة تتجاوز قدرات البشر فنحن أيضا أبرياء. وذلك في تقديري عيب أساسي في أعمال الدستوبيا: أنها تبرئنا من الذنب وتعفينا من المسؤولية وتحتفظ لنا بدور الشهود على الخراب القادم أو القائم أو ضحاياه المحتملين. أمَّا في "أبناء حورة" فالكوارث صغيرة في ظاهر الأمر، فضلا عن أنها وقعت بالفعل، وأننا ـ نحن قراء هذه الرواية في جيلنا هذا من البشر ـ شهدنا وقوعها ولعل منا من شارك فيها، لكن عبد الرحيم كمال يكشف عن عواقب لها جديرة بأن ننتبه أولا إليها ونقر ثانيا بمسؤوليتنا عنها.
لعلنا لم ننس مذبحة الطيور التي تلوثت أيدينا بدمائها ـ إما فعليا بالمشاركة في القتل أو مجازيا حين أقررناه بالصمت ـ إثر انتشار وباء إنفلونزا الطيور قبل سنين قليلة، أو مذبحة الخنازير إثر وباء إنفلونزا الخنازير، أو البقر في أيام جنون البقر. تلك هي الكوارث التي تقول الرواية إن العالم تغيَّر على إثرها حتى صار مرتعا لقوى قاهرة للبشر. فما الذي حدث حقا حينما حدثت تلك الكوارث؟ الإجابة هي أننا فقدنا قليلا قليلا إنسانيتنا، فقدنا إحساس الأخوة مع غيرنا من الكائنات، ثم مع بعضنا بعضا، فقدنا إحساسنا بالانتماء إلى الطبيعة في هذا العالم. وتأتي رواية أبناء حورة لتتخيل ما لعله حدث بالتزامن مع ذلك التدهور في إنسانية الإنسان فأدَّى في النهاية إلى أن يتهاوى العالم كما عرفناه ونعرفه ليبدأ عالم جديد ترصده الرواية ولا أدري حقا أهو أسوأ من عالمنا أم أفضل.
تقول الرواية إنه حدث في أثناء مجزرة الطيور أن اقترب شاب من إوزة يريد أن يذبحها، فإذا بها تقول له "أحبك". وإذا بالكلمة تحول الشاب من قاتل إلى عاشق، ويأتي العشق بكائن جديد نصفه طائر ونصفه بشر، لا تدري أهو ملاك أم كائن خرافي من كائنات الميثولوجيا الهجينة، كائن اسمه "حورة". تضع حورة بيضاتها في أربعة بلدان منها مصر وتونس والمغرب، ويخرج من البيضات الأربع أربعة عشر عملاقا يحكمون العالم لردح من الزمن مستقوين بقدرة فوق بشرية على النفاذ إلى ما تخفيه الصدور فيحاسبون الناس على نوايهم، ويجرِّمون حتى الإحساس بالغيرة وإن لم يتحول إلى فعل فيه إيذاء للغير. ثم ينتهي حكمهم، ليظهر مجنون أوروبي يسعى إلى احتلال العالم كله، أو هو بالأحرى يسعى إلى السيطرة على عقل العالم وروحه، راغبا في اجتثاث الحكايات من كل موضع في الأرض.
كما أن "أبناء حورة" تختلف عن روايات الدستوبيا في أن تركيزها لا ينصب على مناهج الحكم أو آليات الاستبداد أو مظاهر التغير الكبرى الطارئة على العالم، فهي وإن لم تغفل ذلك كله بدرجات متفاوتة من الاهتمام، تبقى حريصة على أن تولي انتباهها الأكبر إلى الصداقة والزواج ومشاعر الحب والغيرة وشتى ما يعني الناس حقا مهما تكن طبيعة الحكم الذي يسيطر عليهم. ولئن بدا أن أبطال الرواية الأساسيين هم "صناع القرار" وأهل الحكم والقيادة، فلا يمكن أن يغفل القارئ عن أن أكثر ذوي الحضور العظيم في الرواية والأثر الهائل في أحداثها هم في الحقيقة بسطاء، أو أناس ظاهرو البساطة، فكاتبا التاريخ في هذه الرواية ومؤلفا الكتاب الذي يتصارع عليه الملوك هما صاحبا متجرين صغيرين في القاهرة، وليس هذين وحسب، فأغلب من يحركون الأحداث ويتحكمون في مفاصل الدنيا ـ وفقا للرواية ـ هم دراويش هائمون ومجاذيب هم خزنة أسرار الوجود، ومتصوفة أداروا ظهورهم للدنيا وما فيها ولكنهم حراس الدنيا الحقيقيون بمن فيها وما فيها، ولصوص لكن قلوبهم عامرة بالجمال، ومطربات رخيصات إلى أن تسوقهن أرواحهن، فضلا عن غيلان من أهل البحر تحرس أهل البر، وطيور تحمل في مناقيرها ما تباد به في النهاية الجيوش الآثمة، وحراس، وحكاؤون، وقراصنة، ومكتبيون وعالم كامل من الناس الذين نقابل أمثالهم حيثما نولي أبصارنا فلا تكاد تتوقف عندهم أعيننا، وهذا ـ على الأرجح ـ بعض مما تريدنا الرواية أن نعيد النظر فيه.
لكن ليس البسطاء فقط هم الذين تدعونا الرواية إلى أن نتمهل قبل الحكم عليهم بالبساطة، وتزرع في أنفسنا أنهم قد يكونون سادة العالم الحقيقيين على بساطتهم وهوان شأنهم. هناك أيضا شعب هائل من البشر يعيشون بيننا لكنهم لم يعلنوا بعد أنهم شعب واحد.
يخرج من إحدى بيضات حورة من يفترض أن يكون حاكما على بلد فاضل، لعله البلد الفاضل الوحيد على وجه الأرض في المستقبل القريب: بلد اللاجئين. والحق أن اللاجئين أيضا- شأن الطيور والحيوانات والبيئة- امتحان آخر فشل فيه البشر، وراجِعوا إن شئتم أراشيف أخبار السنين القريبة ـ القريبة منكم بالمناسبة قرب هواتفكم الذكية ـ وانظروا مصائر قوارب اللاجئين الغارقة وأحوال مخيماتهم في العراء وألوان التحرشات التي يتعرضون لها من الشوفينيين في كل بلد على المستويين الرسمي والشعبي. في الرواية، لم ينجح إلا اللاجئون في إقامة أفضل بلاد الدنيا (لدرجة أن تقرَّ حورة لهذا البلد بحكم نفسه بنفسه، وتقصر حضور نسلها فيه على تمثيل شرفي من خلال مصاهرة)، ولم يكن سبب نجاح اللاجئين في ذلك إلا أنهم تحرروا من قيد الوطن، ونزعوا من أنفسهم كل ما يفرق بين الإنسان والإنسان من نعرات شوفينية.
يحكم أبناء حورة العالم غير طامعين في ثرواته، لكنهم طامعون في الارتقاء بأهله، يحاسبونهم على الغيرة والحقد والغدر، محاولين تنقية النفوس، وهو ما يبدو لي كابوسا حقيقيا، وإن لم يبد للرواية ـ في ما رأيت ـ مفزعا بالقدر نفسه. ينبِّه أبناء حورة الناس إلى مصادر الجمال في أنفسهم، ويساعدونهم بغسل قلوبهم ـ حرفيا ـ على أن يصيروا أفضل وأرحم، وينزلون أشد العقاب بمن لا صلاح له منهم. فكأنهم ملائكة إن لم نقل آلهة، لولا أنهم نتاج زواج حقيقي بين الإنسان والطبيعة، أو هم مزيج من أقوى ما في البشر وأقوى ما في الطبيعة.
أما الخطر الحقيقي على الإنسانية في المستقبل كما ترسمه الرواية فهو ذلك الحاكم المجنون الذي يطارد الحكايات، يريد أن يقتلعها من كل مكان، وفي سبيل ذلك يقتل ويريق الدماء ويستعد لخوض الحروب، ويتصدى له الجميع: المتصوفة والجنود والساسة والغيلان والطيور والزواحف، تتوحد أمامه البلاد من العراق إلى المغرب مرورا بسوريا ـ حيث ساحة المعركة ـ ومصر وتونس، وكأن ذلك حقا ما ينبغي أن يحارب من أجله الناس، وأن يموتوا من أجله، أو يعيشوا به: الحكايات ولا أحسب عبد الرحيم كمال يبالغ.
قبل أسابيع قليلة، قرأت - متأخرا كثيرا للأسف - رواية جميلة هي "محاولة الإيقاع بشبح" للكاتب هاني عبدالمريد، وفيها أسرة تحل عليها اللعنة فيتجمد بعض أفرادها، يصيرون تماثيل خالية من الحياة تعمل فيها عناصر الطبيعة عملها في الجمادات حتى توشك آن تتآكل وتندثر لولا امرأة تحكي الحكايات لتلك التماثيل، فتقاوم الحكايات قدرة الزمن نفسه على المحو. لكن هاني عبد المريد، شأن عبد الرحيم كمال، مدافع طبيعي عن الحكايات، بما أنهما روائيان صنعتهما الحكايات. في حين ينبغي علينا جميعا أن نعلم أنه لزام علينا أن نكون مدافعين أيضا عن الحكايات، وبالقدر نفسه من الحماس.
فما الذي يبقينا غير الحكايات؟ ما الذي نختلف عليه ـ إلى درجة التحارب أحيانا ـ إلا الحكايات؟ ما الذي يقسمنا إلى ملاحدة ومؤمنين إلا حكاية عما لا تدركه الأبصار؟ ما الذي يقسم أتباع أكبر الأديان إلا الاختلاف على تفصيلة واحدة في قصة؟ ما الذي يجعل أحدنا يطمئن ويهدأ ويزهد في الدنيا إلا حكاية عما بعد الدنيا يؤمن أنها الحق؟ وما الذي يجعل بعضنا يجري جري الوحوش وينهب كل ما تطاله يداه إلا الحكاية نفسها يؤمن أنها باطل؟ ما الذي يحول أفرادا إلى أمة إلا حكاية؟ هي جميعها حكايات : الوطن حكاية، والهوية حكاية، والتاريخ حكاية، العلم المرفوع حكاية، والخط الحدودي حكاية، والصورة على العملة حكاية، والشريط الأسود على الصور العائلية في صالونات البيوت المهجورة حكاية. وإن انتزعت منا تلك الحكايات، ومحيت من ذاكراتنا، فما أهوننا على من يريد استعبادنا.
على مدار أكثر من أربعمائة صفحة يهيم عبد الرحيم كمال في روحه وروح العالم، متأملا الخيوط الخفية التي تربط الشرق بالغرب والماضي بالحاضر والناس بالأشياء والأحياء بالجمادات، ناسجا شبكة هائلة عابرة للزمان والمكان، أو هي شبكة من الزمان والمكان، مما نراه ومما لا نراه، من حكايات تتوالد وتتراكم ويكمل بعضها بعضا، ليجعل من كل ذلك رواية لا تضن على قارئها بالمتعة والتسلية ولا تلهيه لحظة عما يجب أن ينتبه إليه، مقدما لنا عملا لا يحذر من المستقبل ولا يبشر به بقدر ما يدفع دفعا إلى رؤية متمهلة للحاضر، تميز غثه من سمينه، مثلما تدفع دفعا إلى رؤية أكثر تمهلا إلى الذات: أين ومن أنا؟ إلى أي طرف من أطراف الصراع القادم أو القائم أنتمي؟ ما الذي أرحب بالموت من أجله لأنني أعيش به، وأعيش له؟
ثم إن في "أبناء حورة"- فضلا عن هذه العناصر- سمة لعلها الحاسمة ـ في تقديري ـ لنسبتها إلى تراث الرواية الفنتازية، وهي أنها رواية تحركها الحبكة، أوهي بالتعبير الإنجليزي "plot-driven novel"، فأكثر ما يعنيها هو أن تحكي الحكاية، ويلي ذلك في الأهمية كل ما تعنى به الروايات من قبيل رسم الشخصيات أو التعمق في نفوسها. فنحن على مدار صفحات هذه الرواية التي تتجاوز الأربعمائة نبقى مبهوري الأنفاس، نلاحق شخصيات الرواية الكثيرة المتعاصرة والمتتالية من بلد إلى بلد مشدودين إلى أن نعرف ماذا سيكون من أمر تلك البقعة من الأرض التي سادها العمالقة حتى انتهى عهدهم، ليهددها من بعدهم حاكم مجنون كامن في أعماق البحر داخل غواصة بحجم مدينة تحوي جيشا يستعد لغزو العالم.
غير أن "أبناء حورة"، وإن أمكن قراءتها على مستوى من المستويات بهدف المتعة المحضة والتسلية اللاهية، ليست هذه الرواية وحسب. كما أن علاقتها بتراث رواية فنتازيا بالمعنى الغربي أوهى كثيرا على مستوى البنية من علاقتها بالملاحم الشعبية العربية الشهيرة كسيف بن ذي يزن أو السيرة الهلالية، وعلاقة خيالها بخيال ألف ليلة وليلة والحواديت الشعبية العربية وكرامات الأولياء متينة بل سُرِّية، فضلا عن أنها أبعد ما تكون عن الطبيعة التجارية ـ بل الانتهازية ـ في تلك الروايات التي تبيع لقارئها (الصغير مهما يكن عمره) التسلية والإثارة دون أن ترفق بهما ما يماثلهما في الأهمية أو يتجاوزهما. فالتسلية والإثارة هنا مطية واضحة لما هو أهم وأعمق.
وهي أيضا ليست رواية دستوبيا، وإن كانت كذلك فبطريقتها الخاصة الفريدة. فالمعتاد في أكثر أعمال الدستوبيا الروائية أو السينمائية أن العالم ينقلب رأسا على عقب إثر كارثة عاتية تحدث في المستقبل وتكون أكبر من طاقة البشر؛ ولأن هذه الكارثة تحدث في المستقبل يتسرب إلينا ـ نحن القراء ـ إننا الآن آمنون؛ ولأنها كارثة تتجاوز قدرات البشر فنحن أيضا أبرياء. وذلك في تقديري عيب أساسي في أعمال الدستوبيا: أنها تبرئنا من الذنب وتعفينا من المسؤولية وتحتفظ لنا بدور الشهود على الخراب القادم أو القائم أو ضحاياه المحتملين. أمَّا في "أبناء حورة" فالكوارث صغيرة في ظاهر الأمر، فضلا عن أنها وقعت بالفعل، وأننا ـ نحن قراء هذه الرواية في جيلنا هذا من البشر ـ شهدنا وقوعها ولعل منا من شارك فيها، لكن عبد الرحيم كمال يكشف عن عواقب لها جديرة بأن ننتبه أولا إليها ونقر ثانيا بمسؤوليتنا عنها.
لعلنا لم ننس مذبحة الطيور التي تلوثت أيدينا بدمائها ـ إما فعليا بالمشاركة في القتل أو مجازيا حين أقررناه بالصمت ـ إثر انتشار وباء إنفلونزا الطيور قبل سنين قليلة، أو مذبحة الخنازير إثر وباء إنفلونزا الخنازير، أو البقر في أيام جنون البقر. تلك هي الكوارث التي تقول الرواية إن العالم تغيَّر على إثرها حتى صار مرتعا لقوى قاهرة للبشر. فما الذي حدث حقا حينما حدثت تلك الكوارث؟ الإجابة هي أننا فقدنا قليلا قليلا إنسانيتنا، فقدنا إحساس الأخوة مع غيرنا من الكائنات، ثم مع بعضنا بعضا، فقدنا إحساسنا بالانتماء إلى الطبيعة في هذا العالم. وتأتي رواية أبناء حورة لتتخيل ما لعله حدث بالتزامن مع ذلك التدهور في إنسانية الإنسان فأدَّى في النهاية إلى أن يتهاوى العالم كما عرفناه ونعرفه ليبدأ عالم جديد ترصده الرواية ولا أدري حقا أهو أسوأ من عالمنا أم أفضل.
تقول الرواية إنه حدث في أثناء مجزرة الطيور أن اقترب شاب من إوزة يريد أن يذبحها، فإذا بها تقول له "أحبك". وإذا بالكلمة تحول الشاب من قاتل إلى عاشق، ويأتي العشق بكائن جديد نصفه طائر ونصفه بشر، لا تدري أهو ملاك أم كائن خرافي من كائنات الميثولوجيا الهجينة، كائن اسمه "حورة". تضع حورة بيضاتها في أربعة بلدان منها مصر وتونس والمغرب، ويخرج من البيضات الأربع أربعة عشر عملاقا يحكمون العالم لردح من الزمن مستقوين بقدرة فوق بشرية على النفاذ إلى ما تخفيه الصدور فيحاسبون الناس على نوايهم، ويجرِّمون حتى الإحساس بالغيرة وإن لم يتحول إلى فعل فيه إيذاء للغير. ثم ينتهي حكمهم، ليظهر مجنون أوروبي يسعى إلى احتلال العالم كله، أو هو بالأحرى يسعى إلى السيطرة على عقل العالم وروحه، راغبا في اجتثاث الحكايات من كل موضع في الأرض.
كما أن "أبناء حورة" تختلف عن روايات الدستوبيا في أن تركيزها لا ينصب على مناهج الحكم أو آليات الاستبداد أو مظاهر التغير الكبرى الطارئة على العالم، فهي وإن لم تغفل ذلك كله بدرجات متفاوتة من الاهتمام، تبقى حريصة على أن تولي انتباهها الأكبر إلى الصداقة والزواج ومشاعر الحب والغيرة وشتى ما يعني الناس حقا مهما تكن طبيعة الحكم الذي يسيطر عليهم. ولئن بدا أن أبطال الرواية الأساسيين هم "صناع القرار" وأهل الحكم والقيادة، فلا يمكن أن يغفل القارئ عن أن أكثر ذوي الحضور العظيم في الرواية والأثر الهائل في أحداثها هم في الحقيقة بسطاء، أو أناس ظاهرو البساطة، فكاتبا التاريخ في هذه الرواية ومؤلفا الكتاب الذي يتصارع عليه الملوك هما صاحبا متجرين صغيرين في القاهرة، وليس هذين وحسب، فأغلب من يحركون الأحداث ويتحكمون في مفاصل الدنيا ـ وفقا للرواية ـ هم دراويش هائمون ومجاذيب هم خزنة أسرار الوجود، ومتصوفة أداروا ظهورهم للدنيا وما فيها ولكنهم حراس الدنيا الحقيقيون بمن فيها وما فيها، ولصوص لكن قلوبهم عامرة بالجمال، ومطربات رخيصات إلى أن تسوقهن أرواحهن، فضلا عن غيلان من أهل البحر تحرس أهل البر، وطيور تحمل في مناقيرها ما تباد به في النهاية الجيوش الآثمة، وحراس، وحكاؤون، وقراصنة، ومكتبيون وعالم كامل من الناس الذين نقابل أمثالهم حيثما نولي أبصارنا فلا تكاد تتوقف عندهم أعيننا، وهذا ـ على الأرجح ـ بعض مما تريدنا الرواية أن نعيد النظر فيه.
لكن ليس البسطاء فقط هم الذين تدعونا الرواية إلى أن نتمهل قبل الحكم عليهم بالبساطة، وتزرع في أنفسنا أنهم قد يكونون سادة العالم الحقيقيين على بساطتهم وهوان شأنهم. هناك أيضا شعب هائل من البشر يعيشون بيننا لكنهم لم يعلنوا بعد أنهم شعب واحد.
يخرج من إحدى بيضات حورة من يفترض أن يكون حاكما على بلد فاضل، لعله البلد الفاضل الوحيد على وجه الأرض في المستقبل القريب: بلد اللاجئين. والحق أن اللاجئين أيضا- شأن الطيور والحيوانات والبيئة- امتحان آخر فشل فيه البشر، وراجِعوا إن شئتم أراشيف أخبار السنين القريبة ـ القريبة منكم بالمناسبة قرب هواتفكم الذكية ـ وانظروا مصائر قوارب اللاجئين الغارقة وأحوال مخيماتهم في العراء وألوان التحرشات التي يتعرضون لها من الشوفينيين في كل بلد على المستويين الرسمي والشعبي. في الرواية، لم ينجح إلا اللاجئون في إقامة أفضل بلاد الدنيا (لدرجة أن تقرَّ حورة لهذا البلد بحكم نفسه بنفسه، وتقصر حضور نسلها فيه على تمثيل شرفي من خلال مصاهرة)، ولم يكن سبب نجاح اللاجئين في ذلك إلا أنهم تحرروا من قيد الوطن، ونزعوا من أنفسهم كل ما يفرق بين الإنسان والإنسان من نعرات شوفينية.
يحكم أبناء حورة العالم غير طامعين في ثرواته، لكنهم طامعون في الارتقاء بأهله، يحاسبونهم على الغيرة والحقد والغدر، محاولين تنقية النفوس، وهو ما يبدو لي كابوسا حقيقيا، وإن لم يبد للرواية ـ في ما رأيت ـ مفزعا بالقدر نفسه. ينبِّه أبناء حورة الناس إلى مصادر الجمال في أنفسهم، ويساعدونهم بغسل قلوبهم ـ حرفيا ـ على أن يصيروا أفضل وأرحم، وينزلون أشد العقاب بمن لا صلاح له منهم. فكأنهم ملائكة إن لم نقل آلهة، لولا أنهم نتاج زواج حقيقي بين الإنسان والطبيعة، أو هم مزيج من أقوى ما في البشر وأقوى ما في الطبيعة.
أما الخطر الحقيقي على الإنسانية في المستقبل كما ترسمه الرواية فهو ذلك الحاكم المجنون الذي يطارد الحكايات، يريد أن يقتلعها من كل مكان، وفي سبيل ذلك يقتل ويريق الدماء ويستعد لخوض الحروب، ويتصدى له الجميع: المتصوفة والجنود والساسة والغيلان والطيور والزواحف، تتوحد أمامه البلاد من العراق إلى المغرب مرورا بسوريا ـ حيث ساحة المعركة ـ ومصر وتونس، وكأن ذلك حقا ما ينبغي أن يحارب من أجله الناس، وأن يموتوا من أجله، أو يعيشوا به: الحكايات ولا أحسب عبد الرحيم كمال يبالغ.
قبل أسابيع قليلة، قرأت - متأخرا كثيرا للأسف - رواية جميلة هي "محاولة الإيقاع بشبح" للكاتب هاني عبدالمريد، وفيها أسرة تحل عليها اللعنة فيتجمد بعض أفرادها، يصيرون تماثيل خالية من الحياة تعمل فيها عناصر الطبيعة عملها في الجمادات حتى توشك آن تتآكل وتندثر لولا امرأة تحكي الحكايات لتلك التماثيل، فتقاوم الحكايات قدرة الزمن نفسه على المحو. لكن هاني عبد المريد، شأن عبد الرحيم كمال، مدافع طبيعي عن الحكايات، بما أنهما روائيان صنعتهما الحكايات. في حين ينبغي علينا جميعا أن نعلم أنه لزام علينا أن نكون مدافعين أيضا عن الحكايات، وبالقدر نفسه من الحماس.
فما الذي يبقينا غير الحكايات؟ ما الذي نختلف عليه ـ إلى درجة التحارب أحيانا ـ إلا الحكايات؟ ما الذي يقسمنا إلى ملاحدة ومؤمنين إلا حكاية عما لا تدركه الأبصار؟ ما الذي يقسم أتباع أكبر الأديان إلا الاختلاف على تفصيلة واحدة في قصة؟ ما الذي يجعل أحدنا يطمئن ويهدأ ويزهد في الدنيا إلا حكاية عما بعد الدنيا يؤمن أنها الحق؟ وما الذي يجعل بعضنا يجري جري الوحوش وينهب كل ما تطاله يداه إلا الحكاية نفسها يؤمن أنها باطل؟ ما الذي يحول أفرادا إلى أمة إلا حكاية؟ هي جميعها حكايات : الوطن حكاية، والهوية حكاية، والتاريخ حكاية، العلم المرفوع حكاية، والخط الحدودي حكاية، والصورة على العملة حكاية، والشريط الأسود على الصور العائلية في صالونات البيوت المهجورة حكاية. وإن انتزعت منا تلك الحكايات، ومحيت من ذاكراتنا، فما أهوننا على من يريد استعبادنا.
على مدار أكثر من أربعمائة صفحة يهيم عبد الرحيم كمال في روحه وروح العالم، متأملا الخيوط الخفية التي تربط الشرق بالغرب والماضي بالحاضر والناس بالأشياء والأحياء بالجمادات، ناسجا شبكة هائلة عابرة للزمان والمكان، أو هي شبكة من الزمان والمكان، مما نراه ومما لا نراه، من حكايات تتوالد وتتراكم ويكمل بعضها بعضا، ليجعل من كل ذلك رواية لا تضن على قارئها بالمتعة والتسلية ولا تلهيه لحظة عما يجب أن ينتبه إليه، مقدما لنا عملا لا يحذر من المستقبل ولا يبشر به بقدر ما يدفع دفعا إلى رؤية متمهلة للحاضر، تميز غثه من سمينه، مثلما تدفع دفعا إلى رؤية أكثر تمهلا إلى الذات: أين ومن أنا؟ إلى أي طرف من أطراف الصراع القادم أو القائم أنتمي؟ ما الذي أرحب بالموت من أجله لأنني أعيش به، وأعيش له؟