من النظريات التي لاقت رواجاً واهتماماً كبيراً في العالم الغربي، وبقية العالم منذ القرن الثامن عشر وما بعده، من حيث الصدى الكبير لهذه النظرية، بين مؤيد ومعارض، ما صاغه هذا العالم الطبيعي والجيولوجي البريطاني "تشارلز داروين" (1809-1882)، بدأ تشارلز داروين حياته بدارسة الطب في ادنبرة ببريطانيا، ولكنه لم يجد ميلاً كبيرا لهذا التخصص والعمل بالطب، واتجه لدراسة العلوم في كمبردج، وشغف بالتاريخ الطبيعي والجيولوجي، وقام برحلته البحرية الشهيرة على الباخرة (بيجل) لفترة ما تقترب من خمس سنوات، وكانت هي البداية لأبحاثه في النشوء والارتقاء، في القرن الثامن عشر، وبعد هذه الدراسات في عدة أماكن، ظهر بعد ذلك كتابه الشهير (أصل الأنواع)، والذي نشره في 1859، ثم كتابه الثاني عام 1871م (أصل الإنسان) وكلها تتعلق بالجانب البيولوجي ، وقد لاقت أبحاث داروين في البداية قبولاً كبيراُ في المجتمعات الغربية، خاصة أن فكرة التطور في الحياة قضية مسلّم بها منذ القديم، لأنها من الشواهد التي تدل على ذلك، وقد ذكرنا في مقالنا الأسبوع الماضي ، أن آيات القرآن أشارت إلى مسألة التطور في آيات عديدة، لكن الاختلاف في كيفية هذا التطور والاختلاف مع ما قاله داروين وتلاميذه بعد ذلك في تفاصيل هذه النظرية.

ومما قاله في كتابه الأول (أصل الأنواع):"لا يمر بي خلجة من الشك في أن ما كنت أقطع به ـ كما قطع به الطبيعيون ـ من القول إن كل أنواع من الأنواع قد خلق مستقلاً بذاته خطأ محض، وأني اليوم لعلى تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التغير، وأن الأنواع التي نعتبرها من توابع الأجناس هي أعقاب متسلسلة من أنواع طواها الانقراض، وعلى الاعتبار ذاته تكون كل التنوعات التابعة لنوع ما أعقاباً متسلسلة عن ذلك النوع، وإني فوق ذلك لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيئ لحدوث التغايرات".

وقد لاقت قضية (أصل الأنواع)، خلافاً حولها، خاصة قوله إن الأجناس، تنتمي لأصل واحد، والنقد الذي وجه للنظرية في قضية أصل الأنواع، أما مسألة الانتخاب الطبيعي واصطفاء الأنواع، سيكون آخر الأسبوع المقبل نظرا للنقاش الواسع حولها.

والواقع أن نظرية داروين في أصل الأنواع ـ النشوء والارتقاء ـ نوقشت كثيراً إما موافقة على هذه النظرية، أو اعتراضا عليها، وتظل هي نظرية كما قالها صاحبها، مع أن البعض في بدايات ظهور هذه النظرية، يراها وكأنها العلم الذي يجوز مخالفته بأي حال من الأحوال، مع أن التطورات العلمية الحديثة جاء بعضها مخالفاً لهذه النظرية، ومن الباحثين المهتمين بقضية العلم والنظريات الحديثة، المفكر الهندي وحيد الدين خان، إذ يرى أن التجارب العلمية، ليست تجارب نهائية قطعية، في ثبات التجربة، فهناك الكثير من البحوث المتأخرة، ناقضت بعض التجارب، حتى التي اعتبرتها نهائية، ولذلك: "إن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة، لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة واسعة النطاق، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا".

ويضيف خان في رؤيته الناقدة لبعض هذه الأفكار المطروحة، فيقول: "أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها، والذي يطالع العلم الحديث يجد أن أكثر آرائه (تفسير للملاحظات) وأن هذه الآراء لم تجرب مباشرة، ذلك أن بعض الملاحظات تحمل العلماء على الإيمان بوجود بعض الحقائق غير مشاهدة قطعيا، فأي عالم من علماء عصرنا لا يستطيع أن يخطو خطوة دون الاعتماد على ألفاظ مثل: (القوة) Force ، و(الطاقة) Energy ،و(الطبيعة) Nature و(قانون الطبيعة)Law of Nature ، وما إلى ذلك، ولكن هذا العالم لا يدرى ما (القوة والطاقة والطبيعة وقانونها)؟ فهو قد صاغ كلمات تعبر عن وقائع معلومة، لكي يبين عن علل غير معلومة، وهذا العالم لا يقدر على تفسير هذه الألفاظ تماما كرجل الدين لا يستطيع تفسير صفات الإله، وكلاهما يؤمن ـ بدوره ـ بعلل غير معلومة".

والكثير من العلماء الغربيين، وجهوا سهام النقد لما قاله داروين سواء لما قاله في أصل الأنواع، أو الانتخاب الطبيعي، ويرون أن اجتهاد دارون في مسألة التطور يشوبها الكثير من الثغرات البيولوجية، والبعض يرى أنها مجرد اعتقاد، شبيه بالاعتقاد الديني، لأن القول عن آلاف السنين، يؤكد صحة ذلك،ويقول الدكتور ما نير ويلسون (McNair Wilson) في منشورات أكسفورد الطبية (Oxford Medical Publications) :"إن نظرية النشوء لا تقل عن أيّ قصة خرافية حافلة بأغرب المخلوقات، كالغيلان والقنتورات (كائنات خرافية نصفها رجل ونصفها فرس) والسيرانات (كائنات خرافية لها رؤوس نسوة وأجساد طيور)، ويعتمد أصحاب نظرية النشوء والارتقاء على دليل الأجنة وتشابهها الظاهري بين السمكة والفأر والإنسان، وهي التي قدمها أرنست هيكل (Ernest Haeckel) الذي يقول: "إن تاريخ الجنين هو إعادة لتاريخ الأنواع".

كما أن العالم "آرثر كيث"( (Arthur Keith وهو من علماء التشريح والأنثروبولوجيا ـ علم الإنسان ـ اعترف بقوله: "إننا كنا نتوقع أن يكرر الجنين الصفات المميزة لأسلافه، من أدنى أشكال الحيوان إلى أعلاها، ولكن بعد دراسة الجنين في كل مراحل تكوينه، خابت آمالنا، فالجنين (الإنساني) لم يكن قرداً في أي مرحلة من مراحله".

ويقول العالم الفسيولوجي تهميسيان (T.Tahmisian): "إن العلماء الذين يؤكدون أن التطور واقع علمي هم منافقون، وإن ما يروونه من أحداث إنما هو من الشعوذات التي ابتُدعت ولا تحتوي على نقطة من الحقيقة"، ويقول عن نظرية التطور: بأنها خليط مضطرب من الأحاجي وشعوذة الأرقام"، ولذلك فإن فرضية النشؤ والارتقاء، لم تثبت صحتها في الواقع المشاهد، بل التجربة في العديد من الدول تثبت عدم دقة هذه الفرضية، لأن الوقائع التي تمت متابعتها، برهنت على عكس توقعات صاحب هذه النظرية الشهيرة، ويقول د. محمد سعيد رمضان البوطي، في كتابه (كبرى اليقينيات الكونية)، أن التجارب أثبتت أن الكثير: "من نباتات مصر وحيواناتها، لم تتغير عن وضعها خلال قرون كثيرة متطاولة، يتضح ذلك من الأنسال الداجنة المنحوتة في بعض الآثار المصرية القديمة أو التي حفظت بالتحنيط وكيف أنها تشابه كل المشابهة الصور الباقية اليوم، بل ربما لا تكاد تفترق عنها بفارق ما، بل إن هنالك تلك الحيوانات العديدة التي لم يطرأ على تركيبها أي تحول منذ بداية العصر الجليدي، على الرغم من أنها قد وضعت تحت تأثيرات كثيرة في تغيير المناخ بل إنها كثيرًا ما هاجرت مسافات شاسعة على سطح الكرة الأرضية وذلك باعتراف داروين نفسه. فأين هذا الواقع الذي لا ريب فيه من فرضية النشوء والارتقاء؟".

ومن النقد الموجه لهذه النظرية ما كتبه د/ مصطفى محمود في بعض مؤلفاته أن نظرية داروين بها العديد من الأخطاء ذكرها في كتابه (حوار مع صديقي الملحد)، مع أنه يوافق هذه النظرية في مسألة التطور وحقيقته البديهية، إلا أنه يرى أن داروين وقع في العديد من الأخطاء في هذه النظرية ويقول عن ذلك: "وخطأ هذه النظرية أنها أقامت التطور على أساس الطفرات والأخطاء العشوائية.. وأسقطت عملية التدبير والإبداع تمامًا..ولا يمكن أن تصلح هذه الطفرات العشوائية أساسًا لما نرى حولنا من دقة وإبداع وإحكام في كل شيء..إن البعوضة تضع بيضها في المستنقع.. وكل بيضة تأتي إلى الوجود مزودة بكيسين للطفو..من أين تعلمت البعوضة قوانين أرشميدس لتزود بيضها بهذه الأكياس الطافية؟".

وللحق أن تشارلز داوين كان أميناً في رؤيته تجاه بعض الظواهر التي برزت بعضها تتقارب مع ما قاله، وأقر بهذه المصاعب في كتابه (أصل الأنواع)، وخصص لها: "الباب السادس" كما يقول د/سلطان العميري، والمتعلقة بالنظرية، وقال داروين: "قبل أن يصل القارئ إلى هذا الجزء الذي أقوم بتقديمه، فإن مجموعة كبيرة من الصعوبات ستكون قد واجهته، والبعض منها صعوبات في منتهى الجدية، إلى درجة أنني إلى هذا اليوم أجد صعوبة في إمعان التفكير فيها دون الشعور بدرجة من الذهول، ولكن طبقًا لأفضل تقديراتي فإن العدد الأكبر منها ظاهري فقط، وأنا أعتقد أن الصعوبات التي هي في الواقع حقيقية لا تمثل شيئًا قاتلًا للنظرية".

وتذكر الباحثة آنا بايس في دراستها ـ 2019، التي حملت عنوان :[تشارلز داروين و"اللغز الفظيع" الذي قضّ مضجعه حتى مماته]،وتقول الباحثة بايس: إن داروين كتب رسالة في 22 يوليو 1879 إلى صديقه جون بول فيقول: "قرأت للتو مقالة جون بول، ووجدتها تتسم بالشجاعة والإقدام"، جون بول هذا عالم طبيعيات إيرلندي، وكان داروين يشير في رسالته إلى البحوث التي أجراها بول في منطقة جبال الألب الأوروبية، ويبدو ـكما تقول الباحثة آنا بايس ـ أن الظهور المفاجئ للنباتات الملقحة ذاتيا (أو النباتات المزهرة)، التي يصفها داروين بالنباتات العليا، كان مقلقاً جدا له.

ومصدر صدمته الاحتمال القائل: إن التطور يمكن أن يكون سريعا وكبيراً، وتضيف الباحثة آنا بايس: إن وليام فريدمان، أستاذ علم الأحياء العضوي والتطوري في جامعة هارفارد الأمريكية، مقالا في سنة 2009 حلل فيها مراسلات داروين -هوكر قال فيه "كان داروين منزعجا إلى حد بعيد بما اعتبره الظهور المباغت والتسارع الكبير لعملية تنوّع النباتات المزهرة في أواسط الحقبة الطباشيرية"، لم يكن للنباتات الملقحة ذاتيا أي وجود في الجزء الأكبر من تاريخ الكرة الأرضية، ولكنها ظهرت بشكل مفاجئ وسريع، من أين جاءت هذه النباتات؟ وما هي الأدلة التي تثبت أنها تطورت من نباتات أقدم وأكثر بدائية؟"|..لكن ماذا عن الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي بين الأجناس، كما قال داروين؟ ... وللحديث بقية...