في رحلتين لي لإسطنبول في السنوات الأخيرة، سألني كل من لقيته تقريباً إذا ما قرأتُ "مادونا صاحبة معطف الفرو" للكاتب التركي صباح الدين علي، وكانت إجابتي بالنفي حاضرة، كان ذلك يثير تعجبهم، في الوقت الذي أذهلُ فيه أن أناساً يعيشون أو يسافرون لإسطنبول باستمرار ولم يقرؤوا "إسطنبول المدينة والذكريات" للكاتب التركي أورهان باموق. لذلك ظننتُ دوماً أنه لا يجوز أن أقول بأنني عشتُ في إسطنبول ما لم أقرأ صباح الدين علي.

في زيارتي الأخيرة لهذه المدينة التي اختبرتُ اختلافها بين الشتاء والصيف، إذ تبدو وادعة في الشتاء، حتى أنك لا تشاهد أناسها خارج بيوتهم فيخيل لك بأنك وحدك الذي تقضي الشتاء في حارة في منطقة بي أوغلو بجانب تقسيم واحدة من أكثر مناطق إسطنبول حيوية، بل وتعد مركز المدينة، وصيفها هذا العام الذي تختبر فيه الركض من أجل الحصول على سيارة أجرة، أو مقعد فارغ في الترام، على الرغم من أن السياح يقصدون شمال تركيا، أو مناطقها الساحلية مثل بودروم.

كنتُ برفقة أصدقاء التقيتهم في إسطنبول نقضي ليلة في مقهى صغير في أحد تفريعات شارع استقلال، يعلقُ صاحب المقهى الذي يخدمك بنفسه، وهو يعمل وحيداً هناك، صوراً لكتاب يحبهم، أو شعارات تمكنت من التعرف عليها، كامو، ماركس، هيمنغواي، النسوية، المطرقة والمنجل، كتائب القسام، وليس هذا غريباً إذ ينادي التركي الفلسطيني "أخي" في كل مناسبة.

بجانب النافذة وفي وسط المقهى الذي يقع في الطابق الأول من عمارة قديمة، صورة مكبرة لشخصية لم أتعرف عليها، على الرغم من أنني سبق وأن رأيتها في مكان ما، سألتُ من يكون، وجاء الجواب مستنكراً بأنه صباح الدين علي مؤلف رواية "مادونا صاحبة معطف الفرو".

عزمتُ على شراء الرواية من مكتبة عربية تقع في منطقة الفاتح، وبعد أن حصلتُ عليها بترجمة جهاد الأماسي الصادرة عن دار أثر عام ٢٠١٥ وبعد قراءة خمسين صفحة، لم تكن مادونا قد حضرت بعد، أيام مملة تنقضي لموظف بنك، يراقب مترجماً عن الألمانية لا يتحدث إطلاقاً، وليس موهوباً في عمله. وكان أن حدثت المفاجأة لي بعد ذلك عندما حصل موظف البنك علي مذكرات رائف أفندي حول خمسة أشهر قضاها في ألمانيا، بعد أن بعثه والده لتعلم حرفة صناعة الصابون وتطوير مصنع الصابون الخاص بالعائلة؛ لأفاجأ بأن أحداث الرواية لا تدور في إسطنبول أو تركيا، بل في برلين مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وفترة الكساد فيها، ذُهلت لهذه الحقيقة وازداد فضولي، فلماذا يحب الأتراك هذه الرواية أكثر من غيرها؟

عندما يقف رائف في متحف يقع بمدينة برلين، تخطفه لوحة بعنوان "مادونا صاحبة معطف الفرو" ليعرف بعدها أن اللوحة بورتريه لشابة ألمانية من أم يهودية قادمة من التشيك تحديداً براغ، كانت تعمل ممرضة في الحرب، لكن الكساد بعدها دفعها للعمل كعازفة ومغنية متواضعة في ملهى ليلي يدعى "أتلانتيك" يقع رائف في غرام صاحبة اللوحة وتضعه الصدفة في طريقها. استدعى هذا المشهد رواية النفق (لساباتو) لذاكرتي، إذ يحركُ الأحداث أن الفنان وفي غمرة فوضى المعارض الفنية وابتذالها وعدم جدواها، يشاهد امرأة تحدق في لوحته باهتمام فيظن بأنه أخيرا قد حصل على حب حياته. حتى قبل أن يتحدث معها! عودة لمادونا، بعد وعود يقطعانها بأن يلتقيا في تركيا، ينقطع التواصل بينهما.

لم أكن الوحيدة التي سألت عن سر اهتمام الجمهور التركي بهذه الرواية تحديداً، ومن ضمن الإجابات التي حصلت عليها بعد البحث الذي أجريته "السيرة الذاتية لصباح الدين علي تعكس مخاوف وحياة جيل تركي جديد يتعامل مع الحكم الاستبدادي في تركيا، إذ كان هو نفسه شيوعياً سجن عدة مرات من قبل النظام التركي في عصره، والذي يقال بأن له يداً في حادثة مقتل علي عام ١٩٤٨"

ناظم حكمت قرأ هذه الرواية في السجن، وكتب عنها فيما بعد، وكان قد رأى في الفصول الأولى منها حكاية عن البرجوازية في تركيا، لكنها سرعان ما تصبح قصة حب عاصفة ومثيرة للحزن، شخصياً حدث أن كانت قصة الحب تلك في الكتاب مثل فاصل هائل، بين تردي الحياة اليومية، والعودة لها مجدداً في الفصول الأخيرة، إذ أن رائف يعيش غريباً وسط عائلته، ومنبوذاً في المكان الذي يعمل فيه، لديه أسئلة محيرة بخصوص جدوى الحياة، والأمل الوحيد الذي يتبقى لنا كقراء لانتشالنا من هذا العدم، هو فضول الموظف الوافد الجديد على مكتب رائف، إذ يبرز الفضول هنا كعلامة على الأمل، واستمرار التفكير حول الحياة والآخرين في عالم لا يبدي فيه الناس بطئاً مناسباً لمحاولة الفهم والتواصل الحقيقي.

في كل مرة كنت أشارك فيها اقتباساً من الرواية على "تويتر" أفاجأ بالتعليقات عن تعلق القراء بها، أو عن تذكرهم لتلك الجملة تحديداً، أو عن رغبتهم في قراءة العمل مرة ثانية، شاركتني صديقتي مقطعاً مسجلاً من الرواية بصوتها، مازلتُ غير قادرة حتى لحظة كتابة هذه المقالة، عن معرفة السحر الذي يجعل كل هؤلاء القراء يحبون هذا العمل البسيط، هل لأن في بساطته إيجاز عن الإنسان الوحيد المأزوم بالمسافات بينه وبين من هم حوله؟ أم لأن قصص الحب لا تشبه هذه التي يكتبُ عنها في هذه القصة؟ أم لأنهم يشبهون رائف أفندي هاربون من الواقع نحو أحلام اليقظة التي يصنعها الفن وتسقيها الكتب؟ مثل دون كيخوته بطل ثرباناتس الممسوس بما يقرأ والذي يخرج لمحاربة طواحين الهواء؟ سأتذكر شخصياً من هذه الرواية جملة "وحيدةٌ مثل كلب عليل" وأنها كتبت على فصول متفرقة بينما يقضي صباح الدين علي فترة تجنيده الثانية وكان قد أصيب فيها مما دعاه لتدفئة ذراعه في الماء أثناء كتابة هذا العمل. هنالك صوتٌ عاطفي يقول لي أن صدق الرواية والعاطفة والحسرة فيها هي ما جعل الناس يتعلقون بها على الرغم من بساطتها الفنية. ورغم أنها لم تكن عن تركيا، ولا عن إسطنبول كما كنتُ أتطلع طوال الوقت، إلا أن غبطة تغمرني الآن، وتجعلني أقرب لناس هذه البلاد، بل وأكثر فضولاً بشأنهم.

يكتب قارئ تركي عن الرواية : "منذ أن قرأت الكتاب، حلمتُ بصورة مادونا في معطف الفرو، مثل رائف بيك، أحاول أن أتخيل ما يعنيه الذهاب هناك كل يوم وإلقاء نظرة على اللوحة. أقارن ماريا بودر الخاصة بي بكل الأشخاص الذين جاؤوا وذهبوا في حياتي وأحاول معرفة كم هم مثلها."