في جلسة ثقافية أقيمت عن بعد مساء أمس الأول أعاد أربعة من المتحدثين سيرة الروائي والقاص والصحفي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني الإنسان الأديب والمناضل، وشارك فيها كل من الباحثة الناقدة الفلسطينية ميادة الصعيدي، والروائية الكويتية جميلة سيد علي، والكاتب والشاعر سالم الرحبي، والصحفية الكاتبة اللبنانية سوسن الأبطح، فيما أدار الحوار الروائي والإعلامي سليمان المعمري الذي أشار في تقديمه إلى الدروس الكثيرة التي يمكن تعلمها من غسان كنفاني وقال «المعمري» : هو رمزٌ أدبي لأنه استطاع أن يكتب بفنية عالية أدبًا رفيعًا عن قضيته فلسطين بوصفها قضية إنسانية عادلة، هو الذي قال ذات يوم: «أن تكتب قصة قصيرة ناجحة، فهذا أدبٌ مقاوِم»، وما زال صدى تساؤله الممض في رواية «رجال في الشمس» يتردد إلى اليوم: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟».

وعرّج سليمان المعمري إلى مؤلفات «كنفاني» حيث قال: خلال عمر قصير نسبيًا هو ستٌّ وثلاثون سنة وثلاثة أشهر، ألف غسان كنفاني ثمانية عشر كتابًا بين قصة قصيرة ورواية وعمل مسرحي وبحث. في الرواية له «رجال في الشمس» (1963)، و»ما تبقى لكم» (1966)، و»أم سعد» (1969)، و»عائد إلى حيفا» (1970)، و»من قتل ليلى الحايك؟» (1969)، وفي القصة له مجموعات عديدة منها «موت سرير رقم 12»(1961)، و»أرض البرتقال الحزين» (1963)، «عالم ليس لنا» (1965) و»عن الرجال والبنادق» (1968)، و»القميص المسروق». وفي المسرح «الباب، البئر، القبعة والنبي، جسر إلى الأبد». وفي الدراسات النقدية له «أدب المقاومة في فلسطين» (1966)، و»الأدب الفلسطيني المقاوم» (1968)، وهو بذلك يعدّ أول من تحدث عن أدب المقاومة في فلسطين، ونعرف أيضًا من كتاب «المتن المجهول» لسيد محمود أنه هو أول من قدم الشاعر الكبير محمود درويش للقارئ العربي، وليس الناقد المصري رجاء النقاش كما كان شائعاً من قبل. وله أيضًا دراسة بعنوان «في الأدب الصهيوني» (1967).

وأضاف «المعمري»: يعد غسان كنفاني رمزا نضاليّا لأنه لم يكتفِ بالكتابة الأدبية، وإنما كان له أيضًا كما نعرف نضال سياسي كبير، أدى في النهاية إلى استشهاده، فقد انضم إلى حركة القوميين العرب وكتب في المجلات التي كانت تصدرها في دمشق والكويت. وكان عضوا في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد ساهم في وضع البيان التأسيسي للجبهة الذي أكد على أهمية العمل الفدائي والكفاح المسلح، كما كان من واضعي استراتيجيتها السياسية، ومتحدثًا باسمها، وكثيرون منا شاهدوا على اليوتيوب حواره الشهير مع الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون ببيروت، عام 1970، ورده على سؤال الصحفي: لماذا لم تنخرطوا في محادثات سلام مع الإسرائيليين؟. كان ردُّه: «أنت تقصد محادثات استسلام، هذا سيكون أشبه بالحوار بين السيف والرقبة»، مضيفًا أنه لم ير قَط من قبل أي حديث بين مستعمِر وحركة تحرر وطني. كما كانت له علاقات شخصية بثوريين عالميين وحركاتِ تحررٍّ وطنية خلال أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. وهو ما أدى في النهاية - كما ذكرتُ قبل قليل- إلى اغتياله من طرف الموساد الإسرائيلي في بيروت عام 1972.

وفي ختام مقدمته قال الروائي والإعلامي سليمان المعمري : يعتبر «كنفاني» رمزا إنسانيا، لأنّ همّه حين ناضل وحين كتب كان الإنسانَ أولا وقبل كل شيء، وحين صوّر الفلسطيني في أدبه صوّره بوصفه إنسانا في المقام الأول، تصلح حكايته لأن تروى في أي مكان من العالم، وهنا نستشهد بعبارة للناقد الأردني فخري صالح رأى فيها أنه «يمكن لقارئ أعمال غسان كنفاني أن يستبدل الشخصيات الفلسطينية في هذه الأعمال بشخصيات من جنسيات وأزمنة أخرى ليكتشف أن غسان حوّل فلسطين إلى تعبير رمزي معقد عن تراجيديا العيش الإنساني على الأرض». وأنا أضيف أنه حتى الشخصيات غير الفلسطينية ينطبق عليها هذا القول، فالعُماني محمد علي أكبر في قصته «موت سرير رقم 12» يمكن أن نغيّر جنسيته إلى مصري أو أفغاني أو جواتيمالي دون أن تتأثر الفكرة الرئيسة فيها. وهي فقدان المرء هُويتَه أو اسمه وتحولُّه لمجرد رقم. ويمكن أن نقرأ أمثلة كثيرة أخرى في هذا السياق في كتاب «النموذج الإنساني في أدب غسان كنفاني» للناقدة والأديبة الفلسطينية نجمة خليل حبيب.

عبقرية الأداء وهوية الانتماء

قالت ميادة أنور الناقدة والباحثة الفلسطينية في ورقتها: إن المحور الرئيسي الذي دارت حوله قصص غسان كنفاني هو فلسطين قضية وشعبا، فهما هاجسه الذي ملأ عليه فكره وقلبه ووجدانه، ولقد عاش كنفاني القضية ومات في سبيلها، وكان مبدعا في حياته ونضاله واستشهاده، كما كان مبدعا في كل كتاباته.

وعرجّت ميادة أنور في تفاصيل دراستها «أدب كنفاني: عبقرية الأداء، وهوية الانتماء» التي عرفّت على قصتي كنفاني: العروس، والبومة من ناحية موضوعية وفنية حيث قالت: إن «قصة البومة والعروس لم تخرجا عن هذا الإطار الذي اختطه لنفسه، فهما تتحدثان عن عشق الأرض وحمايتها من كل طامع دخيل، وعشق الأداة التي تحفظ لنا الأرض وتعيد لنا الحقوق، عشق البندقية والرصاصة التي افتقدناها طويلا وكانت سبب من أسباب النكبة».

كنفاني في الكويت

من جانبها خصصت الكاتبة الكويتية جميلة سيد علي ورقتها «غسان كنفاني وحياته في الكويت:1955- 1961» محاور عدة سردت تفاصيلها حول «اختيار غسان كنفاني للكويت للحياة فيها» و كيف أمضى حياته فيها، ومدى تأثر كتابات كنفاني بالبيئة الكويتية، حيث استعانت «المحاضرة» المصادر الحية والوثائق والأوراق العلمية والكتب الثقافية من أجل تغطية فكرتها، حيث أبرزت المعلومات من أديب الكويت وشاعرها الدكتور خليفة الوقيان دور الكويت وشعبها ومثقفيها في نصرة القضية الفلسطينية تاريخيا ومنذ العشرينيات من القرن الماضي بأمثلة متعددة يخلدها التاريخ.

فيما غطت «المحاضرة» المحور الثاني بالتعاون مع أسرة غسان كنفاني في الكويت ومنهم الدكتور زياد نجم ابن شقيقة غسان، وصديقه المقرب، غازي الغصين، الذي ارتبط معه في مرحلة ما قبل الوصول إلى الكويت للعمل كمدرسين وإلى ليلة وفاته في لبنان فتعرفت على طبيعة حياته في الكويت بكافة تفاصيلها.

كما أفسحت الباحثة جميلة سيد علي ما سلطت عليه الورقة العلمية للدكتورة مي النقيب بجامعة الكويت وهي باللغة الانجليزية والتي نشرتها في عام 1994 وهي دراسة مستفيضة تحليلية توضح أن مجموعته القصصية الأولى (موت سرير رقم 12) 1961 وروايته الأولى (رجال الشمس) 1963 كتبها في الكويت، حيث سردت الورقة نماذج من قصص كنفاني وخاصة روايته (رجال في الشمس) الصادرة عام 1963 واقترانها النصي بموقع كنفاني المحدد في الكويت وتأثره بالبيئة المحيطة به.

تصفية رموز اللغة

من جانبه عرض الشاعر العماني سالم الرحبي عبر مداخلته تأملاته السريعة في حادثة اغتيال غسان كنفاني التي وصفها بأنها «جاءت لتمحو الفواصل والفروق بين الاسم والمسمى وبين الذات والموضوع، وبين الأديب والمناضل، بين الكلمة والفعل» وقال: كان غسان كنفاني «يلاعب الحتف والنهاية» طوال حياته.

ووقف «الرحبي» عند ما أسماه بـ «القتل الرمزي» الذي طوره الموساد الإسرائيلي لتصفية رموز اللغة الفلسطينية، خاصة بعد إشهار ما عُرف في ذلك الوقت بــ«لائحة جولدا مائير» عقب الأحداث العالمية المزلزلة التي نفذتها منظمة أيلول الأسود، وقدم فيها بعض التأملات السريعة حول حادثة وائل زعيتر، الأديب والمترجم وممثل منظمة التحرير في روما، وحادثة اغتيال كمال ناصر، الشاعر الفلسطيني والناطق الرسمي باسم منظمة التحرير، إلى جوار القائدين كمال عدوان وأبو يوسف النجار. ثم تحدث عن «الزواج الأبدي» في تجربة غسان كنفاني الأدبية بين الذات والموضوع.

واختتم «الرحبي» ورقته بقراءة سريعة في قصته «موت سرير رقم 12» التي قال: إنها «انتبهت ونبهت إلى الشتات العماني، كما فتحت أقنوما جديداً للأدب العماني وجسرت مهمة الحفر والكتابة عن رحلة الأوديسا العمانية في القرن العشرين الموزعة بين الخليج وشرق إفريقيا».

كنفاني في لبنانوحول المرحلة اللبنانية من حياة غسان كنفاني (1960-1972) والتي وصفتها الإعلامية اللبنانية سوسن الأبطح في مداخلتها بأنها السنوات الأكثر خصباً في حياة الأديب، وهي السنوات التي لمع فيها نجمه، وصار خلالها الأديب الذي يقرأ ليس فقط بالعربية بل بترجمات أجنبية.

تقول سوسن الأبطح: في لبنان وتحديدا في بلدة الغازية الجنوبية التي وصلها من فلسطين سيرا على الأقدام مع عائلته، ذاق غسان كنفاني طعم اللجوء للمرة الأولى وهو في عمر الثانية عشرة، وفي هذا البلد أيضاً برز وعرف كصحفي وناقد ساخر ومرموق بعد أن تدرّج في المراتب، وصولاً إلى رئاسة التحرير، وفي مجلة «الآداب» نشر أهم دراساته عن أدب الداخل الفلسطيني، ومن خلالها سيلقي الضوء على كوكبة من الأدباء الذين كانوا لا يزالون مغمورين عربياً ومن بينهم محمود درويش، وفي بيروت اكتشف كنفاني رسام الكاريكاتير العبقري ناجي العلي، وأحب آني الدنماركية وتزوجها وأنجب طفليه فايز وليلى، وكتب أجمل رسائل العشق لغادة السمان، وبرز كمتحدث وناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كما كتب أروع رواياته على الإطلاق وأشهرها.

وأضافت «الأبطح» بالظروف البيروتية الاستثنائية في تلك الفترة وجد غسان كنفاني المفترق الذي كان يحتاجه، من حرية تعبير، إلى أجواء عروبية فوّارة، ومخاض فكري وثقافي. حيث منحت بيروت في الستينيات ما كان يحتاجه فعلاً، ليعطي أقصى ما لديه، وقد يكون هذا أيضاً السبب وراء اغتياله الإجرامي على يد الموساد، رغم أنه لم يكن سوى كاتب لكلمته فعل السيف القاطع.