وحدي ولكني جميعٌ مفرَدٌ
يمشي يلملمُ داخلي أعدادي!
د. أحمد الدوسري
من أبشع صور الاغتراب وأقساها سطوة هو الاغتراب عن الذات حينما تدخل في شتاتها العظيم، جراء الفقد المتراكم الطويل، حين يصبح الفاقد هو المفقود ذاته، أو هو اغتراب الذات عن أناها. هنا تختفي الذات الأولى لتبحث عن وجودها في سائر التفاصيل والمصائر، فتتشظى وتنشأ عنها ذوات غريبة مكسورة أخرى، هي الأشباه والنظراء الجدد الذين يتكاثرون أو يتناسخون ويملؤن محيط الفرد ويغرقون عالمه. وفي هذه الحالة يرى المرء ذاته المنشطرة قطعانا جريحة تتجول لاهثة في مخيلته وتحاصره في كل لحظة وحيثما اتجه، فهو وفق الشاعر محمد حسين هيثم (رجل كثير). وهكذا نرى الشاعر إبراهيم جابر إبراهيم حاملا صورة فوتوغرافية يقول بأنها (صورة جماعية لي وحدي). وفي مظهر آخر من مظاهر هذا التشظي ينسى الشاعر عدنان الصائغ نفسه على طاولة في مكتب ثم يراها على هيئة أخرى تصافح الناس أمامه عيانا في الطرقات:
نسيت نفسي على طاولة مكتبي ومضيت
وحين فتحت خطواتي في الطريق
اكتشفت أنني لا شيء غير ظل لنصٍّ
أراه يمشي أمامي بمشقة
ويصافح الناس كأنه أنا".
ولئن كان البعض يرى نفسه مشتتا بين ذوات وأرواح كثيرة ويشعر بزحمة الأشباه في عالمه، فإن البعض يرى نقيض ذلك. ربما لشساعة الغربة وحجم الثقب في الروح، فيبحث عن من يكمل معه هذا الفراغ العظيم ويسد هذه الفجوة العميقة، على غرار الشاعر ياسر الأطرش الذي يلجأ لأنثاه صارخا: "وإني قليل فكوني كثيري".
ولكن رغم هذا الشتات الذي يعتري الكائن، فإن البعض يشعر بضرورة التصالح معه والتعايش مع هذه الشخوص التائهة حوله، فهي في نهاية المطاف جزء منه أو أناه المتعددة. نلمس ذلك في قول الشاعر عبدالأمير جرص:
يجب أن لا أتوقف عن كوني أنا
يجب أن أعتاد علي
يجب أن آلفني
كما أنه من الواجب حتماً
أن ألمَّ شمل هذه العائلة
المهجورة، المنكسرة،
تلك التي يسمّونها: نفسي!
هذه الحالة القصوى من الاغتراب والتشظي يلامسها المخرج النمساوي فيرجيل ودريتش ـ على نحو أو آخر ـ في فيلمه القصير (محل النسخ) (copy shop). يتحدث الفيلم عن عامل يشتغل في محل للنسخ. في صبيحة أحد الأيام يستيقظ الرجل كعادته على صوت المنبه ثم يتجه نحو دورة المياه ويغتسل ثم يخرج من داره متجها نحو المحل. يقابله في الطريق رجل برفقة كلبه، ويرمق بائعة الزهور على الرصيف التي تبادله نظرة خفيفة وابتسامة خاطفة. عند وصوله للمحل يضع في آلة النسخ رزمة من الأوراق استعدادا للعمل، ولكنه يتفاجأ بأن هذه الآلة بدأت تعمل أو "تتصرف" عن نحو تلقائي لا يخلو من الغرابة، إذ كانت الصور المستنسخة هي صور لأصابع يده وأخرى له عند استيقاظه من النوم وصورة أخرى له وهو يغتسل، وصور أخرى تعكس تفاصيل عالمه ومحيطه الخاص. أصيب الرجل بالهلع والصدمة فيما استمرت الآلة بالنسخ دون توقف، فما كان منه إلا أن سحب نقطة الكهرباء لإيقافها، ثم غادر مسرعا إلى منزله.
صباح اليوم التالي يستيقظ الرجل كعادته من النوم، ويستيقظ على إثره شبيه الآخر الذي يتبعه نحو دورة المياه. وهكذا يستمر هذا التناسخ الكابوسي المرعب لأشباه هذا الرجل حتى يضيع الأصل في زحمة الأشخاص المستنسخة. حتى بائعة الورد يجدها نسخة منه، وكذلك الرجل الذي يقبله ماشيا مع كلبه والجار الذي يقابله على سلم العمارة. يقع حادث دهس في الشارع، يكون السائق هو ذاته الذي تعرض للدهس!
محل النسخ الآن مزدحم بآلات النسخ التي يعمل عليها أشخاص متشابهون يمرون باللحظة ذاتها. يعمد الرجل الأصل إلى إيقاف هذه الآلات التي أخذت تستنسخ أشباهه حتى باتت المدينة بشوارعها وساحاتها مليئة بهم. يتمكن من سحب نقطة الكهرباء والهرب بها إلى خارج المحل. يجري خلفه الجميع، بما فيهم الشرطة الذين هم أشباهه أيضا. في أثناء فراره القصير يقتحم نافذة تؤدي به إلى غرفة طعام كبيرة، تتوسطها طاولة ضخمة، يجلس حولها عدد كبير من الأشخاص يتناولون الطعام، جميعهم كائنات مستنسخة منه. يبادلونه النظرات الحادة، ثم ينسل مواصلا هروبه. يصعد سلما طويلا إلى أعالي إحدى المداخن، ظنا منه بأنه قد نجى. ولكن حينما ينظر حوله يرى مداخن المدينة كلها قد احتلها أشباهه. ينظر إلى الأرض ليجد أعدادا هائلة من نظرائه يملأون المكان عن بكرة أبيه، كأنهم قطعان من النمل، وكأن الأرض مرآة مهمشة يطل من نثارها الهائل انعكاس شخص واحد. وبينما هو ينظر مندهشا انزلقت قدماه فهوى على أشباهه ليتهشم هو ويبقى الأشباه يجوسون نواحي المدينة!
الأمر ليس حفلا تنكريا أو طقسا للهالوين. وهو ليس كرنفالا غرائبيا أو سيركا تتراقص فيه البهلوانات ذات الوجوه الملونة والساخرة. كما أنه ليس تقمصا روحيا للتناسخ وفقا للمعتقدات البوذية أو الهندوسية أو السيخية أو ديانات حضارات الإنكا والمايا للشعوب الأصلية لقارة أمريكا. كما أنه ليس محاولة لإثبات الوجود جوهرا أو واقعا وفقا للكوجيتو الديكارتي. وهو أيضا ليس انفصاما (شيزوفرينيا) نفسيا أو عصبيا تنتج عنه الهلوسات والأوهام. إنه حالة أخرى من التشظي والإحساس بتفتت الكينونة يشعر بها المبدع في لحظة ارتطام روحي هائلة، حين يرى نفسه تتوزع أرواحا غريبة هائمة مشردة في هذا الوجود، كتلك التي شعر بها قديما عروة بن الورد عندما يشاطر الفقراء والبسطاء لقمة عيشه فيرى ذاته تتجلى فيهم جميعا، فعبر عن ذلك بقوله: (أقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرة).
هذه القطعان من الأرواح العائمة في الملكوت، وتلك الجسوم الكثيرة للمرء مبعثرة في طرقات العالم، جميعها تأتي إليه في لحظة عزلته ووحدته. تدق على بابه مثل الغرباء المتسكعين المتعبين من الريح والمطر ووحشة العالم ووحشيته وقسوته. يتحدثون بصوته ويبكون بدمعه. لذا يتساءل المرء حين يرى هذا الطيف الزائر القادم من مجاهيل الوجود:
مَنْ تُرى هذا الذي يَهْرُبُ بِاسْمي خارجَ اسْمي وثيابي؟
مَنْ تُرى هذا الذي يَسْرِقُ صَوْتي
ويُغَني في غيابي؟
إنه أنت وتلك ذاتك فحسب. ملامحك ذاتها. وصوتك المجروح هو عينه. بل إنه يحمل اسمك أيضا. لتتساءل في حيرة من هو صاحب الاسم الحقيقي إذن؟ ومن منا الذي صادر اسم الآخر وسطى عليه؟:
تتساءلُ في أحوالٍ سيئةٍ: لو أدنو منه قليلاً، لو ألْمَسُهُ. لكنْ لا آمنُ أنْ يَتَمَثَّلَ لي مَسْخًا شيطانيًّا، ويَرى أني صادَرْتُ اسْمَهْ!
إن أقسى الغربات التي تفتك بالمرء هي غربة الروح ومجافات الواقع من حوله، حينما يعيش في بيئات النفاق والتخلف والقمع وغياب الحرية. يشعر المرء بأنه غير قادر على أن يسير مع القطيع أو يتماهى مع اشتراطات الواقع الثقافي والاجتماعي المحيط به. إنه ينظر إلى الأمام ويحلم بالمستقبل، في يحين يعيش محيطه في ظلال الماضي ويهيمن عليه خطاب الأسلاف بثاراته ونزعاته ومقولاته البائدة. في هذه الحال يفقد المرء سكينته وأمنه الروحي ويشعر بأنه منبوذ أو مطارد ينتظر سطو الغارة في أية لحظة. لذا تتفجر هذه الأنا وتنكسر وتصاب بالخوف والتشظي وتشعر بالرغبة في الرحيل فرارا من المجهول إلى المجهول:
يا سُطوعي في سِوايْ
يا مجانيني وقتلايَ وأشباهي وضِدِّي وأنايْ
قُمْ بنا يا وغْدُ،
فالأسلافُ بالثاراتِ
آتونَ على وَقْعِ خُطايْ!
ومع الشاعر محمد إبراهيم يعقوب نتوقف مع كينونة تخاطب ذاتها في لحظة مكاشفة حادة وحاسمة. إنه يعترف بدءًا لجليسه بأنه (لا يحصى) وأن انكشافه كامل! ثم يلقنه الحكمة بأن يضئ بالتخلي وأن يتفقد القلب حينما يشعر بما هو ليس واضحا. ويمضي في حواره مع الأنا/ الآخر يخبره بما آل إليه حين توزع في الأشياء لأسباب غير واضحة أو معلنة على أقل تقدير. ويبلغه في آخر المطاف أن قدره هو المحو والرغبات المقموعة وأنه منذور للغياب والرحيل الأبدي، دون أمل نهائي للوصول.
لأنك لا تُحصى انكشافُك كاملُ
أضِئْ بالتخلِّي، لمْ تخُنْكَ الوسائلُ
وحاول إذا آنستَ ما ليس واضحاً
تفَقُدَ قلبٍ ما يزال يحاولُ
هو الطينُ بيَّاعُ الخطيئاتِ، وجْهةٌ
كأن طريقَ المعجزاتِ تآكلُ
توزعتَ في الأشياءِ، لمْ ترجُ حاجةً
رسائلُ عن قصدٍ تشفُّ الرسائلُ
مقامك ما جازفت، تمحو وتشتهي
وكل وصول آخر الأمر زائل
أسباب كثيرة لانشطار الأنا وتشظي الكينونة الإنسانية، تبدأ من عطب في الروح وهزائم الداخل، لتأخذ فيما بعد أشكالا متعددة من تفتت الذات ومحوها وتساقطها أجذاذا. يحدث ذلك في سكون تام دون أن يشعر العالم بحرائق هذه الذات التي تنقسم في اللحظة ملايين المرات.
يَتَكاثَرُ الرجلُ الوحيدُ على المقاعِدِ والرُّفوفِ، وكلما يدْنو مِنَ المرآةِ يَضْحَكُ خِلْسَةً، تبْدو نَواجِذُه المُصابةُ بالتآكلِ، تَسْقُطُ المِرآةُ في جِهَةٍ مُحايِدَةٍ، فَتَنْبُتُ هِجْرَتانِ على يَديْهِ ويَنْكَسِرْ!
يمشي يلملمُ داخلي أعدادي!
د. أحمد الدوسري
من أبشع صور الاغتراب وأقساها سطوة هو الاغتراب عن الذات حينما تدخل في شتاتها العظيم، جراء الفقد المتراكم الطويل، حين يصبح الفاقد هو المفقود ذاته، أو هو اغتراب الذات عن أناها. هنا تختفي الذات الأولى لتبحث عن وجودها في سائر التفاصيل والمصائر، فتتشظى وتنشأ عنها ذوات غريبة مكسورة أخرى، هي الأشباه والنظراء الجدد الذين يتكاثرون أو يتناسخون ويملؤن محيط الفرد ويغرقون عالمه. وفي هذه الحالة يرى المرء ذاته المنشطرة قطعانا جريحة تتجول لاهثة في مخيلته وتحاصره في كل لحظة وحيثما اتجه، فهو وفق الشاعر محمد حسين هيثم (رجل كثير). وهكذا نرى الشاعر إبراهيم جابر إبراهيم حاملا صورة فوتوغرافية يقول بأنها (صورة جماعية لي وحدي). وفي مظهر آخر من مظاهر هذا التشظي ينسى الشاعر عدنان الصائغ نفسه على طاولة في مكتب ثم يراها على هيئة أخرى تصافح الناس أمامه عيانا في الطرقات:
نسيت نفسي على طاولة مكتبي ومضيت
وحين فتحت خطواتي في الطريق
اكتشفت أنني لا شيء غير ظل لنصٍّ
أراه يمشي أمامي بمشقة
ويصافح الناس كأنه أنا".
ولئن كان البعض يرى نفسه مشتتا بين ذوات وأرواح كثيرة ويشعر بزحمة الأشباه في عالمه، فإن البعض يرى نقيض ذلك. ربما لشساعة الغربة وحجم الثقب في الروح، فيبحث عن من يكمل معه هذا الفراغ العظيم ويسد هذه الفجوة العميقة، على غرار الشاعر ياسر الأطرش الذي يلجأ لأنثاه صارخا: "وإني قليل فكوني كثيري".
ولكن رغم هذا الشتات الذي يعتري الكائن، فإن البعض يشعر بضرورة التصالح معه والتعايش مع هذه الشخوص التائهة حوله، فهي في نهاية المطاف جزء منه أو أناه المتعددة. نلمس ذلك في قول الشاعر عبدالأمير جرص:
يجب أن لا أتوقف عن كوني أنا
يجب أن أعتاد علي
يجب أن آلفني
كما أنه من الواجب حتماً
أن ألمَّ شمل هذه العائلة
المهجورة، المنكسرة،
تلك التي يسمّونها: نفسي!
هذه الحالة القصوى من الاغتراب والتشظي يلامسها المخرج النمساوي فيرجيل ودريتش ـ على نحو أو آخر ـ في فيلمه القصير (محل النسخ) (copy shop). يتحدث الفيلم عن عامل يشتغل في محل للنسخ. في صبيحة أحد الأيام يستيقظ الرجل كعادته على صوت المنبه ثم يتجه نحو دورة المياه ويغتسل ثم يخرج من داره متجها نحو المحل. يقابله في الطريق رجل برفقة كلبه، ويرمق بائعة الزهور على الرصيف التي تبادله نظرة خفيفة وابتسامة خاطفة. عند وصوله للمحل يضع في آلة النسخ رزمة من الأوراق استعدادا للعمل، ولكنه يتفاجأ بأن هذه الآلة بدأت تعمل أو "تتصرف" عن نحو تلقائي لا يخلو من الغرابة، إذ كانت الصور المستنسخة هي صور لأصابع يده وأخرى له عند استيقاظه من النوم وصورة أخرى له وهو يغتسل، وصور أخرى تعكس تفاصيل عالمه ومحيطه الخاص. أصيب الرجل بالهلع والصدمة فيما استمرت الآلة بالنسخ دون توقف، فما كان منه إلا أن سحب نقطة الكهرباء لإيقافها، ثم غادر مسرعا إلى منزله.
صباح اليوم التالي يستيقظ الرجل كعادته من النوم، ويستيقظ على إثره شبيه الآخر الذي يتبعه نحو دورة المياه. وهكذا يستمر هذا التناسخ الكابوسي المرعب لأشباه هذا الرجل حتى يضيع الأصل في زحمة الأشخاص المستنسخة. حتى بائعة الورد يجدها نسخة منه، وكذلك الرجل الذي يقبله ماشيا مع كلبه والجار الذي يقابله على سلم العمارة. يقع حادث دهس في الشارع، يكون السائق هو ذاته الذي تعرض للدهس!
محل النسخ الآن مزدحم بآلات النسخ التي يعمل عليها أشخاص متشابهون يمرون باللحظة ذاتها. يعمد الرجل الأصل إلى إيقاف هذه الآلات التي أخذت تستنسخ أشباهه حتى باتت المدينة بشوارعها وساحاتها مليئة بهم. يتمكن من سحب نقطة الكهرباء والهرب بها إلى خارج المحل. يجري خلفه الجميع، بما فيهم الشرطة الذين هم أشباهه أيضا. في أثناء فراره القصير يقتحم نافذة تؤدي به إلى غرفة طعام كبيرة، تتوسطها طاولة ضخمة، يجلس حولها عدد كبير من الأشخاص يتناولون الطعام، جميعهم كائنات مستنسخة منه. يبادلونه النظرات الحادة، ثم ينسل مواصلا هروبه. يصعد سلما طويلا إلى أعالي إحدى المداخن، ظنا منه بأنه قد نجى. ولكن حينما ينظر حوله يرى مداخن المدينة كلها قد احتلها أشباهه. ينظر إلى الأرض ليجد أعدادا هائلة من نظرائه يملأون المكان عن بكرة أبيه، كأنهم قطعان من النمل، وكأن الأرض مرآة مهمشة يطل من نثارها الهائل انعكاس شخص واحد. وبينما هو ينظر مندهشا انزلقت قدماه فهوى على أشباهه ليتهشم هو ويبقى الأشباه يجوسون نواحي المدينة!
الأمر ليس حفلا تنكريا أو طقسا للهالوين. وهو ليس كرنفالا غرائبيا أو سيركا تتراقص فيه البهلوانات ذات الوجوه الملونة والساخرة. كما أنه ليس تقمصا روحيا للتناسخ وفقا للمعتقدات البوذية أو الهندوسية أو السيخية أو ديانات حضارات الإنكا والمايا للشعوب الأصلية لقارة أمريكا. كما أنه ليس محاولة لإثبات الوجود جوهرا أو واقعا وفقا للكوجيتو الديكارتي. وهو أيضا ليس انفصاما (شيزوفرينيا) نفسيا أو عصبيا تنتج عنه الهلوسات والأوهام. إنه حالة أخرى من التشظي والإحساس بتفتت الكينونة يشعر بها المبدع في لحظة ارتطام روحي هائلة، حين يرى نفسه تتوزع أرواحا غريبة هائمة مشردة في هذا الوجود، كتلك التي شعر بها قديما عروة بن الورد عندما يشاطر الفقراء والبسطاء لقمة عيشه فيرى ذاته تتجلى فيهم جميعا، فعبر عن ذلك بقوله: (أقسِّم جسمي في جسومٍ كثيرة).
هذه القطعان من الأرواح العائمة في الملكوت، وتلك الجسوم الكثيرة للمرء مبعثرة في طرقات العالم، جميعها تأتي إليه في لحظة عزلته ووحدته. تدق على بابه مثل الغرباء المتسكعين المتعبين من الريح والمطر ووحشة العالم ووحشيته وقسوته. يتحدثون بصوته ويبكون بدمعه. لذا يتساءل المرء حين يرى هذا الطيف الزائر القادم من مجاهيل الوجود:
مَنْ تُرى هذا الذي يَهْرُبُ بِاسْمي خارجَ اسْمي وثيابي؟
مَنْ تُرى هذا الذي يَسْرِقُ صَوْتي
ويُغَني في غيابي؟
إنه أنت وتلك ذاتك فحسب. ملامحك ذاتها. وصوتك المجروح هو عينه. بل إنه يحمل اسمك أيضا. لتتساءل في حيرة من هو صاحب الاسم الحقيقي إذن؟ ومن منا الذي صادر اسم الآخر وسطى عليه؟:
تتساءلُ في أحوالٍ سيئةٍ: لو أدنو منه قليلاً، لو ألْمَسُهُ. لكنْ لا آمنُ أنْ يَتَمَثَّلَ لي مَسْخًا شيطانيًّا، ويَرى أني صادَرْتُ اسْمَهْ!
إن أقسى الغربات التي تفتك بالمرء هي غربة الروح ومجافات الواقع من حوله، حينما يعيش في بيئات النفاق والتخلف والقمع وغياب الحرية. يشعر المرء بأنه غير قادر على أن يسير مع القطيع أو يتماهى مع اشتراطات الواقع الثقافي والاجتماعي المحيط به. إنه ينظر إلى الأمام ويحلم بالمستقبل، في يحين يعيش محيطه في ظلال الماضي ويهيمن عليه خطاب الأسلاف بثاراته ونزعاته ومقولاته البائدة. في هذه الحال يفقد المرء سكينته وأمنه الروحي ويشعر بأنه منبوذ أو مطارد ينتظر سطو الغارة في أية لحظة. لذا تتفجر هذه الأنا وتنكسر وتصاب بالخوف والتشظي وتشعر بالرغبة في الرحيل فرارا من المجهول إلى المجهول:
يا سُطوعي في سِوايْ
يا مجانيني وقتلايَ وأشباهي وضِدِّي وأنايْ
قُمْ بنا يا وغْدُ،
فالأسلافُ بالثاراتِ
آتونَ على وَقْعِ خُطايْ!
ومع الشاعر محمد إبراهيم يعقوب نتوقف مع كينونة تخاطب ذاتها في لحظة مكاشفة حادة وحاسمة. إنه يعترف بدءًا لجليسه بأنه (لا يحصى) وأن انكشافه كامل! ثم يلقنه الحكمة بأن يضئ بالتخلي وأن يتفقد القلب حينما يشعر بما هو ليس واضحا. ويمضي في حواره مع الأنا/ الآخر يخبره بما آل إليه حين توزع في الأشياء لأسباب غير واضحة أو معلنة على أقل تقدير. ويبلغه في آخر المطاف أن قدره هو المحو والرغبات المقموعة وأنه منذور للغياب والرحيل الأبدي، دون أمل نهائي للوصول.
لأنك لا تُحصى انكشافُك كاملُ
أضِئْ بالتخلِّي، لمْ تخُنْكَ الوسائلُ
وحاول إذا آنستَ ما ليس واضحاً
تفَقُدَ قلبٍ ما يزال يحاولُ
هو الطينُ بيَّاعُ الخطيئاتِ، وجْهةٌ
كأن طريقَ المعجزاتِ تآكلُ
توزعتَ في الأشياءِ، لمْ ترجُ حاجةً
رسائلُ عن قصدٍ تشفُّ الرسائلُ
مقامك ما جازفت، تمحو وتشتهي
وكل وصول آخر الأمر زائل
أسباب كثيرة لانشطار الأنا وتشظي الكينونة الإنسانية، تبدأ من عطب في الروح وهزائم الداخل، لتأخذ فيما بعد أشكالا متعددة من تفتت الذات ومحوها وتساقطها أجذاذا. يحدث ذلك في سكون تام دون أن يشعر العالم بحرائق هذه الذات التي تنقسم في اللحظة ملايين المرات.
يَتَكاثَرُ الرجلُ الوحيدُ على المقاعِدِ والرُّفوفِ، وكلما يدْنو مِنَ المرآةِ يَضْحَكُ خِلْسَةً، تبْدو نَواجِذُه المُصابةُ بالتآكلِ، تَسْقُطُ المِرآةُ في جِهَةٍ مُحايِدَةٍ، فَتَنْبُتُ هِجْرَتانِ على يَديْهِ ويَنْكَسِرْ!