أتذكرُ الآن إحدى قريباتي عندما فقدت أمّها قبل سنوات، وكنتُ أول من يصل إلى بيتها، فناولتني عقدا من الذهب وكان كل ما تملكه، ورجتني أن أبيعه لها. كنتُ مُندهشة من الطلب الغريب، قالت: "سيأتي الناس للغداء ومنهم للعشاء، وليس لديّ المال لضيافتهم". صعقتُ وبقيتُ قابضة على العقد غير مُصدقة طلبها، فهذه المرأة عوض أن تهتم بحزنها العميق بفقد أمّها، كانت تفكر ماذا سيأكل الناس في عزاء أمّها!

استعيد هذا الموقف الآن، غير مصدقة كم غيرنا كوفيد 19. الحقيقة لم أتوقع أن يأتي اليوم الذي يموت فيه جارٌ لنا، ويكتفي الناس بالمواساة عبر الهاتف. أنتمي لقرية صغيرة تُشبه معظم قرى عُمان، الكل يعرف فيها الكل.. جيرانه وجيران جيرانه. لم يكن يمرض أحدٌ أو يموت إلا ويتحرك الجميع زرافات، لأداء الواجب الاجتماعي، بالمعنى الإيجابي الذي يكشفُ التآزر المجتمعي من جهة، وبالمعنى السلبي حيث يشعرُ المضيف أنّه مضطر أن يقوم بواجب ضيافتهم.

السنة الماضية كان البعض أكثر معارضة لاندثار قيمهم المجتمعية وأكثر حرصا على التشبث بها. ولكن هذا العام اكتفت الكثير من الأسر في حزنها بمشاركة قرابة من الدرجة الأولى.

أتذكرُ أيضا العروس التي بكت أمامي لأنّ زوجها ضحى بتذاكر سفر شهر العسل، وذلك إرضاء للناس، فقد اضطر لإعداد عشرة "مراجل عيش" بخمسة ثيران، وهنالك من يستلفُ وتتدهور حياته الزوجية بسبب الضائقة المالية. لكن من كان يتصور أن يُقام عرسا نهاريا في عُمان نظرا لأنّ الحظر يبدأ من الخامسة مساء، من كان يتوقع أن يكتفي العريسان بأقرباء من الدرجة الأولى، وأن يتخلى بعضهم عن بهرجة القاعات الفخمة، ويكتفوا بمجلس صغير في البيت. شاهدتُ في السنة الماضية الكثير من الناس تؤجل وتؤجل حجوزاتها مُنتظرة انكشاف الغمة، ولكن هذا العام انطلق الكثير من العرسان لتتميم أمورهم في حدود ضيقة.

ثمّة ما يتغير فينا بصورة متسارعة خلال سنتيّ كوفيد 19، والذي بقدر ما سلب أرواحا نحبها وبقدر ما أثر على الاقتصاد العالمي وعلى الناس، إلا أننا أيضا لا نستطيع إغفال النظر عن الجانب المضيء والذي ربما لم يكن ليتغير لولا هذه الشدّة. فرغم بعض التقارير التي تشير لارتفاع العنف داخل البيت الأمر الذي لا نستطيع إنكاره، إلا أنّه من جهة أخرى أدى لبقاء الأسرة الصغيرة جوار بعضها البعض لساعات أطول. الكثير من الأسر كانت تتفنن في ابتكار أشكال من الألعاب مع الأبناء، أو التقرب منهم بالأحاديث، وهنالك العديد من الطاقات الإبداعية اندفعت خارج صندوقها المُغلق، الأمر الذي دفع الفرد أن يفكر في فرديته، وفي ذاته المستثناة من الجميع.

كوفيد 19 دفعنا لاستغلال التكنولوجيا في مسائل كثيرة أبرزها كان التعليم، وآمل ألا تضيع هذه التجربة الاستثنائية وتذهب سُدى. لاحظتُ أيضا أنّ الناس التي كانت تذهب للمستشفى لأي سبب كان، باتت تتهيب من ذلك، ولا تذهب إلا لما هو ضروري، الأمر الذي قلل زحام المرضى العاديين أمام زحام مرضى الكوفيد.

كم من الأشياء التي نفعلها لا تعدو المظاهر، فمجرد إحساسنا أننا لن نلتقي بكل الناس في العيد، دفعنا لأن نقنن تفصيل الملابس وشراء الأحذية واللحوم والاكتفاء بما يلزم العائلة الصغيرة.

لا نحاول تجميل الفاجعة أو الآلام التي عبرت العالم، وإنّما نرفع رأسنا قليلا لنقوم بأشياء نحبها لذاتنا، وليس لأنّ الآخرين يراقبوننا.

"لا يحتاج المرء أن يكون غرفة ليكون مسكونا، لا يحتاج أن يكون منزلا أيضا، فالدماغ يحتوي ممرات تفوق أي مكان. ذواتنا المستترة وراء ذواتنا، حري بها أن ترعبنا أكثر من سفاك مختبئ في شققِنا"، هذا ما كتبته أيملي ديكنسون1863، وأظن أنّنا نجابه في هذه الآونة الانكشاف على ذواتنا وطاقاتها المُخبأة، الانكشاف على الممرات السرية في أدمغتنا، دون انقياد أعمى وراء العادات والتقاليد. لكن السؤال الأهم: عندما يختفي شبح كورونا، هل سنعود إلى سيرتنا الأولى!