"لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا"
-الأفوه الأودي-
الشاعر العربي القديم الحكيم رأى قبل ألفين من السنين أو أكثر أن حياة الناس تضطرب وتختل إن عظم دور الجهلاء وتقهقر دور الصفوة ممن يحيطون بالعلم والمعرفة ويحملون العزيمة والرأي وعمق الإدراك وسلامة التدبير. المعرفة في مقابل الجهل والذين يعلمون في مواجهة من يجهلون من أجل تقويم اعوجاج المسار ولتصويب السلوك الإنساني وتوجيهه وجهة أكثر سلامة وسدادا.
الصفوة من الناس هم الذين يكون لهم حضورهم وتميزهم في مجتمعاتهم لما يقدمونه من خير ولما يقومون به من عمل نافع لخدمة الجميع ولما يبشرون به من مبادئ وقيم تبتغي الصلاح ولما يحملونه من القلوب النيرة الملأى بكل المشاعر السامية والعواطف النقية الصادقة ولما تختزنه نفوسهم من العلم الغزير والمعرفة الواسعة المتعددة الجوانب والفكر العميق الثاقب المتأمل المازج بين أصالة العلم ونباهة العقل بين المعرفة الواعية والفكرة الراسخة. قوم كهؤلاء هم الذين نسميهم الصفوة أو صفوة الصفوة. يحيون للعطاء بسخاء لا حدود له ثم يموتون تاركين وراءهم الذكر الحسن والمآثر الخالدة الحية التي تظل تمنح البشر الضياء والهدى والمبادئ الثابتة القويمة. حياتهم كلها شعلة من النشاط المتصل فلا تكاد تجدهم إلا في محاضرة أو ندوة أو مقالة تدعو لقضية أو تدافع عن فكرة أو كتاب يؤصل لقيمة عالية ويقدم جديدا من الفكر والعلم. شغلهم الشاغل هو الجدل العلمي والنقاش الفكري والتبشير بالرؤى المتقدمة الهادفة وإثارة الحوار حول أمور الناس والمجتمع ومستقبل الأمة وغدها وآمالها وطموحاتها. يفعلون ذلك غير مبالين بالمتاعب يلاقونها والمعاناة يتعرضون لها من جراء دعواتهم المقتحمة وأفكارهم الجريئة التي ربما رأتها بعض الجهات وبعض الفئات أنها تعترض مصالحها الآنية أو تصطدم برؤاها الضيقة أو تخترق السائد وتتجاوز المألوف مما عهده أولاء وأولئك واستقروا عليه من المفاهيم والأفكار وحتى المعارف والعلوم. فأهل التجديد من أمثال هؤلاء تكون رؤيتهم المتجاوزة للسائد وتطلعاتهم للجديد والأكثر جدة في الفكر والوعي والحياة تكون دوما مثار الجدل الصاخب وتواجه بالرفض والإنكار ولكنهم يطرحون التحدي بثقة واطمئنان ولا يأبهون بعواصف الغبار مهما كانت هائجة متعالية تسد الآفاق لأنهم يدركون أن عاصفة الغبار سرعان ما تتبدد وتنجلي ويسطع الضوء قويا يرسل أشعته المشرقة لتملأ الدنيا وتبعث الجديد في الأفق القريب والبعيد.. أولئك هم أهل الفكر الأصيل والثقافة الحية الواعية والرؤية المبصرة المتجددة والإرادات القوية الصابرة والطموح الواسع الممتد إلى ما لا نهاية. وهؤلاء هم الذين يضعون أسس التقدم ويبذرون بذور التطور والرقي في نهضات الأمم ومسيراتها المندفعة في سبل الحضارة والبناء بناء عقل الإنسان وتطور وعيه لما هو أكمل وأرقى وأكثر انسجاما مع قضايا الحرية والحق والعدل.
أربعة من الصفوة ممن عرفت .
إنهم من الصفوة حقا هكذا أومن أنا وهكذا يقر لهم أكثر الناس ممن عرفهم من نظرائهم وأمثالهم أومن تلامذتهم الذين يتلقون العلم عنهم في الجامعات مباشرة أو من مريديهم الذين يتحلقون حولهم ويأخذون عنهم ويلتزمون مجالسهم ولقاءاتهم أو جمهرة المثقفين والمتابعين من المهتمين الذين يغشون ندواتهم ويسعون لحضور محاضراتهم ومناقشاتهم. ويتابعون ما تجود به أقلامهم من البحوث والمقالات والكتب. مقاييس الصفوة في تقديري تنطبق عليهم وشروطها موجودة فيهم من غزارة العلم وسعة المعرفة إلى دقة الفكر وعمق الفهم إلى قوة الحجة ونزاهة الجدل وتأسيس الرأي والثبات على المبدأ والدفاع عن القيم والإصرار على قناعاتهم وأفكارهم والتصدي بصلابة لكل ما يرونه من وجهة نظرهم يدخل في المغالطات والمماحكات والبعد عن الحقيقة الصافية التي ينبغي أن تكون مطلب الجميع وهدف الكل مهما تباينت الطرق إليها أو اختلفت الوسائل. صفوة هم إن كانت الصفوة مقياسها العلم فقد كانوا في العلم من الأساتذة الأعلام الذين يحتكم إليهم في تخصصاتهم والميادين التي عرفوا بالتضلع فيها فهم المرجع والقول الفصل في مجال تخصصهم يقر لهم بذلك خصمهم في غير تردد. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي تأسيس الرأي والتبشير بالجديد من الفكر والتوصل إلى المستحدث من المفاهيم والمعارف. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي الإيمان بقناعات معينة ومبادئ محددة يدافعون عنها ويتمسكون بها ويثبتون عليها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي دعوة للحق واستماتة في سبيل العدل ومخاصمة شديدة للجور والباطل والتزييف للحقيقة وللوعي السليم وانتصارا لحقوق الإنسان في شتى صورها ومظاهرها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي المؤلفات العديدة والكتب المتنوعة والبحوث الجادة التي تخدم العلم والمعرفة سواء في مجال تخصصاتهم الدقيقة أو في مجال الثقافة الإنسانية الواسعة. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي احترام الرأي المخالف وتقدير الآخر وإدارة النقاش على أساس من الحوار الراقي وأدب الجدل القائم على المناهج العلمية البحتة بعيدا عن التعصب الشخصي والتطرف الفكري والتحامل على الآخر المناقض مهما كانت حدة الخلاف والرفض لفكر ذلك الآخر وتوجهاته فالخلاف والرفض هو للفكرة ذاتها وليس لقائلها والداعي إليها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي مكانة عالية ومنزلة رفيعة وسمعة عريضة وشهرة تجاوزت القريب الملاصق أو البعيد القاصي. فرادة في الشخصية وفيما تحمله تلك الشخصية من القيم والأفكار وصفوة هم إن كانت الصفوة هي التواضع الشديد ولطافة المعاملة وحسن المعاشرة وكرم الأخلاق في أوضح معانيها.
والأربعة الذين أقف معهم اليوم وقفة الوفاء هذه ثلاثة منهم من النقاد وعلماء الأدب ومن أهل الإبداع الفني ورابعهم من علماء السياسة وأساتذتها الأكاديميين.
ثلاثة من مصر وواحد من فلسطين..
د. عبد المحسن طه بدر
عالم من علماء اللغة الأفذاذ وأستاذ من أساتذتها المتميزين له البحوث الممتازة والكتب الدقيقة الرصينة عرف بشخصيته الوقورة العالية التهذيب وبصلابته وسمو روحه الشامخة التي ترفض الانحناء وتمتد عاليا في الاستمساك بما تؤمن به. حريصا لا يقبل النفاق والتملق. مواقفه معروفة لا تتغير لأنها تنبعث من قناعات أخلص لها وآمن بصوابها واحتشد دوما للدفاع عنها باعتبارها قيم سامية لا يجوز النكوص عنها بل يجب نشرها والتبشير بها والإصرار عليها. يدعى للمنصة فتشخص القلوب والعقول والأبصار تنتظر كيف ينطلق بيانه العذب ولغته الراقية الحلوة لإيضاح مقاصده والتبشير برؤيته والدفاع عن أفكاره ونظراته في أسلوب هو غاية في الروعة والحسن ليس في لغته الجميلة فحسب بل في تحليله المنطقي المدهش وفي موازنته للأمور ومقارنته للأشياء وتوضيحه للحقائق وتأكيده على المبادئ وإظهاره للأخطاء وسخريته من الخصوم ومنازلتهم في آرائهم وأطروحاتهم بما ينقضها ويهز عناصرها داحضا إياها مبرهناً على خطورتها وفسادها. مما يجعل الجمهور ينساق إليه في انجذاب وحماس. تنظر إليه وهو يتحدث من على منصته شارحا أفكاره أو متعقبا آراء معترضيه أو مجيبا لسائليه فتحسبه محاميا شديد العارضة قوي الحجة يدافع عن قضية عادلة.
أذهب إليه في جلساته فيدهشني علمه الغزير ومعرفته المتعددة الجوانب وشخصيته البسيطة المتواضعة. ويأسرني بتواضعه وسلوكه الرفيع وسرعة بديهته وقوة منطقه وبراعة أسلوبه في الحديث وقوة إرادته التي لا تلين. أجدني كلما اقتربت منه أكثر كلما ازددت إعجابا به في شخصه وفي علمه. وكلما زادت معرفتي به كلما اكتشفت جديدا من معارفه الجمة أو من صفاته الجليلة. أسعى إلى ندواته فيشدني حواره وجدله وطريقته في النقاش والمساجلة وتبهرني روحه المرحة وصلابة نفسه المتحدية وإنسانيته العذبة الصافية وثقافته الشديدة الثراء.
في أول معرفة لي به أحسست كأني لم أستطع الولوج إليه فقد بدا لي لحظتها كما لو كان متعاليا وأنا لا أطيق هذه الصفة حتى في العظماء وحسبته من أولئك الأكاديميين المتقعرين المتقوقعين في شرنقتهم الأكاديمية وجاءني انطباع بأنه أقرب إلى الانطواء والتحفظ وليس من الذين يفتحون لك نفوسهم وقلوبهم ولكن سرعان ما تبددت هذه الانطباعات وتلاشت تماما عندما التقينا في المرة التالية وجذبنا الحديث إلى آفاق بعيدة وقريبة فإذا بنا وكأننا قد تعارفنا منذ سنوات طويلة وإذا به يفتح لي نفسه وقلبه ويتحدث لي حديث الصديق للصديق. وكنت باستمرار أدعوه لحضور الحفل السنوي لسفارتنا في القاهرة بمناسبة عيد عمان الوطني وكان يستجيب بأريحية قائلا إنني لا أحبذ كثيرا حضور احتفالات السفارات ولكنني أقبل دعوتكم وألبيها في المقام الأول من أجل اسم عمان التي احبها واكبر تاريخها العربي العريق الناصع البياض وماضيها المجيد إضافة لتقديري البالغ لكم وللسفير السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي الذي ارتاح له كثيرا لدماثته وجميل أخلاقه فهو رجل رائع معاملة وكرما. ووصفه للسفير السيد عبدالله بن حمد كان في محله تماما.
ومرة سألني سؤال استنكار لماذا فلان يرأس موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية وهو متخصص في العلوم السياسية ولا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع الموسوعة؟ وكانت إجابتي التي لعلها لم تقنعه إنه عالم متمكن في أكثر من مجال.
وهكذا تمضي بنا الأيام وكلما مر يوم أجدني أقرب إلى هذا العلم الكبير الصريح الصادق الذي لا يعرف المواربة في يومه هذا أو في الذي سبقه. ولقد حرصت ما استطعت أن أكون من المتابعين لندواته وجلساته بالحضور المباشر لها أو القراءة عنها قدر ما أمكن ومن المؤسف أن الحظ لم يسعفني كثيرا بصحبة هذا العالم الجليل والأستاذ الكبير فقد مات بعد أقل من ثلاث سنوات من تعارفنا.
د. علي شلش.
في ندوة الناقد الكبير الدكتور عبدالقادر القط التي يعقدها كل جمعة في "مطعم غرناطة" بمصر الجديدة في القاهرة سعدت بمعرفة الدكتور علي شلش الناقد المعروف والباحث الموسوعي المقيم في لندن والذي يأتي للقاهرة زائرا مرة أو مرتين في العام ومنذ اللقاء الأول والحوار الذي دار بيننا فيه نشأت صداقتنا وقدم لي كتبه القيمة الغنية بالمعرفة والفكر سواء في مجال النقد وهو تخصصه أو في مجال التاريخ المعاصر أو البحوث الإعلامية وكان يكلمني كلما جاء للقاهرة فأسعى إليه متعجلا ليمتد حوارنا لقاء بعد لقاء.
والدكتور شلش من أولئك الموسوعيين المغرمين بالبحث والتنقيب عن المعرفة حتى لقد استقال من العمل ورفض الارتباط بأي وظيفة محددة متفرغا للبحث والكتابة والتأليف بالإضافة إلى محاضرات منتظمة كان يقدمها لطلابه في جامعة لندن في الإعلام وفي النقد الأدبي. وبعض البحوث التي يسهم بها بين الحين والآخر لهذه الجهة أو تلك. وكان ينقب في الأرشيفات ومراكز الوثائق والمحفوظات العالمية وفي الجامعات المختلفة ويخرج من ذلك التنقيب بمعلومات مهمة وقيمة كانت مجهولة ومنسية في ملفات المحفوظات ولم يكن العثور على معلومات قيمة ونادرة كهذه من الأمور الميسورة والسهلة بل كانت نتيجة بحث مضن ومعقد يستغرق الأشهر الطويلة لجمع المادة من مصادرها المتفرقة والمتباعدة ثم تبويبها وتصنيفها وإخراجها في بحث متكامل بعد ذلك يغدو مرجعا مهما يصعب الاستغناء عنه في موضوعه. كما هو الحال في بحثه عن الصحافة العربية التي نشأت في أوربا في مختلف بلدانها في القرن التاسع عشر والذي تضمن الكثير من المعلومات عن هذه الصحف ومؤسسيها وتواريخ صدورها والقضايا التي كانت تتناولها. وهذه الصحف على أهميتها من ناحية السبق الزمني المتقدم ومن ناحية الموضوعات المهمة التي طرحتها يكاد أغلبها مجهول بالمرة للقارئ العربي إذ لم يسمع أحد قبل هذا البحث حتى بمجرد أسمائها فكأنها من مطويات الزمن المنسية. وللأسف فإن هذا البحث المهم لم يظهر بعد في كتاب وإنما تم نشره في الصحافة متفرقا في حلقات عدة نأمل من القائمين على تراث الدكتور شلش أن يسارعوا بإصدار هذا الكتاب ليكون مرجعا للباحثين والمهتمين سيما وأن الدكتور كان قد هيأه للصدور في كتاب كما أخبرني قبل وفاته ولعلهم بالفعل قد قاموا بذلك. وبحوث الدكتور شلش كثيرة ومتنوعة ويثير بعضها ردود فعل ونقاشات حامية حول المعلومات التي وردت بها مثلما حصل مع كتابه عن السيد جمال الدين الأفغاني الذي أثار كثيرا من الضجيج والتعقيبات حين صدوره.
ولأن الدكتور شلش حريص أشد الحرص على استقلاليته وحريته في طرح الأفكار التي يريد من دون تحرج أوتهيب فقد آثر عدم الارتباط بجهة معينة تقيده بسياستها وآرائها وظل يبحث ويحاضر ويكتب بالطريقة التي يراها مستقلة لا تتأثر إلا بالمنهج العلمي البحت ولهذا كان موضع التقدير والاحترام من الجميع. والرجل كان صريحا من غير مدارة أو مداهنة فيما يعتقد أنه الصحيح رافضا أن ينحاز إلا لما يحسبه الحقيقة العلمية المجردة وحدها. يحب الناس ويسعد بهم ونفسه مفتوحة دائما لكل من يعرفه. ولكن حبه الأول والأخير للحقيقة والمعرفة التي لا يرضى أن تزيف أو تمتهن أو توظف التوظيف غير السوي. وأصدقاؤه كثيرون من شتى الاتجاهات والمذاهب ولكنه لا ينحاز لأحد منهم ضد الآخر بل هو وسطي معتدل في أفكاره وتوجهاته وسلوكه وتعامله. وقد أحرز بذلك محبة الجميع والكل يسعى إليه ويرغب في صحبته حيث يسعهم بلطفه وإنسانيته العالية.
وللدكتور شلش العديد من الكتب أغلبها في النقد الأدبي وبعضها في التاريخ والشخصيات وآخرها الكتاب الذي صدر بعد موته بأيام قليلة وكان عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعنوانه (طه حسين مطلوب حيا وميتا) وقد دافع فيه دفاعا مجيدا عن طه حسين وأصالته الفكرية وريادته بطريقة دقيقة موثقة بالأدلة والحقائق كما هي عادته دوما في كتاباته ومؤلفاته. وكان هذا الكتاب هو خاتمة جهاد هذا العالم المدقق الذي وهب حياته كلها للعلم والبحث والحقيقة الصافية البعيدة عن الغرض والهوى.
وكان موت هذا الرجل مثيرا أيضا كحال حراكه الحياتي وحال بحوثه وكتاباته فقد فاجأه الموت في مهرجان الشعر الذي أقيم في القاهرة بعد إلقائه محاضرته التي أثارت مناقشات صاخبة ومحاورات مثرية مع السائلين والمعقبين حيث قال لبعض من حوله انه محتاج لقليل من النوم ثم يعود بعد قليل لمتابعة الجلسات وصعد إلى غرفته بالفندق ولكنه لم يعد وعندما افتقدوه وذهبوا لالتماسه وجدوه قد فارق الدنيا مودعا لها بتلك المحاضرة القيمة.
أوقف عالمنا حياته كلها في سبيل العلم والاجتهاد فيه ومازال الكثير من بحوثه وكتاباته التي بدأها تنتظر من يكملها ويلملم شتاتها.
هكذا انتهت حياة الدكتور علي شلش وسط دهشة الكثيرين وذهولهم وقد خرج شعراء العربية ونقادها لتشييع جثمانه كأنهم قد جاءوا من أقطارهم المختلفة لتوديعه الوداع الأخير أو كأنه هو الذي ما شاء أن يموت إلا وسط هذه النخبة من المبدعين والنقاد العرب من نظرائه وأصدقائه. وقد علمت فيما بعد أن كتابا جديرا بالاقتناء قد صدر عن "الهيئة المصرية للكتاب" ضم مقالات وآراء وقصائد شعر لأغلب المفكرين والأدباء العرب تتحدث كلها عن الراحل الكبير حديث المودة والتقدير..
د. جبرا إبراهيم جبرا
"الحديث عن جبرا لا يخلو من إغراء لأن هناك الكثير الذي يمكن أن يقال وفي مجالات شتى ومع ذلك فإن هذا الحديث سيكون شائكا لأن جبرا بمقدار ما هو فرد فإنه متعدد وتناول جانب واحد من إبداعه لا يوفيه حقه وقد يخفي جوانب أخرى لا تقل أهمية" هكذا قال د. عبدالرحمن منيف الروائي العربي الكبير صديق جبرا الحميم وصاحبه الأقرب يصف صديقه والمواهب المتعددة التي اشتمل عليها وليس هناك من هو أكثر معرفة بجبرا من منيف للروابط الوثيقة التي تجمعهما وحسبك دليلا على قربهما من بعضهما ذلك النص الروائي المهم الذي اشتركا في كتابته معا في سابقة هي الأولى من نوعها على صعيد الأدب العربي أن يكتب اثنان رواية واحدة متلاحمة الأجزاء مترابطة الأحداث منسجمة أشد الانسجام في لغتها وفي إيقاعها الفني العام لكأنها خرجت من فكر واحد وإبداع واحد مؤكدة بذلك اتحاد الكاتبين وانسجامهما. وكانت روايتهما تلك التي اسمياها (عالم بلا خرائط) من بديع الروايات العربية وقد اشتهرت شهرة واسعة وطبعت عدة مرات. ووصف منيف لصاحبه بأنه متعدد جوانب الإبداع هو تقرير لحقيقة ساطعة يعلمها الجميع فجبرا شاعر مهم من شعراء المدرسة الجديدة وله أربعة دواوين صدر آخرها عام 1993 باسم (قصائد بعضها للطيف وبعضها للجسد) وأعادت (دار رياض الريس) عام 1990 طباعة دواوينه الثلاثة الأولى التي صدرت فيما بين الخمسينات والسبعينات في مجموعة واحدة احتوت على (تموز والمدينة) وهو ديوانه الأول الذي كان صدوره أول مرة عام 1959 والديوانان الآخران (المدار المغلق) و(لوعة الشمس) اللذان صدرا في الستينات والسبعينات فهو بذلك من الأصوات الشعرية المهمة في ما أطلق عليه اصطلاحا اسم "قصيدة النثر" على الرغم من أن جبرا قد رفض أن يدخل شعره في إطار هذا المسمى وفضل تسميته بالشعر الحر. ولقد ظل هاجس الشعر معه لم يفارقه حتى وفاته فقد رأينا ما نشرته مجلة (نزوى) في أحد أعدادها من آخر ما كتب قبيل وفاته كما رأينا كذلك ديوانه الأخير الذي صدر قبل وفاته بعام واحد وهو (قصائد بعضها للطيف وبعضها للجسد) نشير لذلك لندلل أن النقد الذي امتهنه كحرفة أساسية قد تكون طغت على جوانبه الإبداعية الأخرى لم يستطع أن يزحزحه عن الشعر كما حصل مع آخرين من نقادنا الكبار الذين بدأوا شعراء ثم سحبهم النقد كلية عن كتابة الشعر وتعاطيه لينشغلوا فقط بالنقد وبحوثه. ومع أن جبرا الذي ظل مع الشعر حتى موته كان له رأي شهير ردده في بعض محاضراته وبعض كتاباته يتنبأ فيه بموت الشعر في هذا العصر التقني المعقد الذي يصعب على الشعر برهافته وحساسيته الائتلاف مع علميته الجافة القائمة على العمليات الحسابية والآلات الدقيقة. وقد صدمت نظريته هذه الكثير من عشاق الشعر وراغبيه وكتب كثيرون يعارضون رأيه هذا ووجهت إليه الأسئلة حول هذا الموضوع في العديد من المقابلات واللقاءات. وكنت واحدا من أولئك الذين لم تعجبهم هذه النظرية وأحسبني ما أزال. وقد وجدتني ذات مرة في أمسية قاهرية أشتبك معه بعد محاضرة ألقاها كرر فيها رأيه ذاك وكان ذاك الاشتباك بداية للتعارف بيننا وقد أشرت لذلك في مقالة نشرت لي بجريدة عمان قبل عدة سنوات. ومن غريب الأمر أنه ظل متمسكا برأيه هذا في الوقت الذي ظل فيه مستمرا مع الشعر وتلك مفارقة عجبية. وإذا تركنا الشعر وإسهاماته فيه كما رأينا إسهامات بارزة مؤثرة فهو كاتب قصة قصيرة من الطراز الجيد وله مجموعة قصصية نشرت في بيروت عام 1960 بعنوان (عرق وقصص أخرى) ثم أعيد نشرها في بغداد في طبعة رابعة موسعة عام 1983 بعنوان (عرق وبدايات من حرف الياء) وفي مجال الرواية له آيات بينات ومن أشهر رواياته الرائعة (السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) و(الغرف الأخرى) و(يوميات سراب عفان) و(صيادون في شارع ضيق) وهذه الرواية تحديدا صدرت أول ما صدرت بالإنجليزية في لندن عام 1960 ثم ترجمت للعربية عام 1974 بالإضافة إلى رائعته الأكثر شهرة تلك التي كتبها بالاشتراك مع صديقه د. عبد الرحمن منيف وهي "عالم بلا خرائط" وجبرا بعد ذلك مترجم من النوع الممتاز وقد أثرى العربية بعشرات من الكتب الأجنبية في الرواية والنقد والقصة والدراسات الجادة وبلغ عدد ما نقله إلى العربية من اللغات الأخرى قرابة الثلاثين كتابا من أبرزها (مسرحيات شكسبير) و(لغصن الذهبي) لـ(فريزر) وكل الكتب التي ترجمها ينتقيها بدقة من عيون الفكر الإنساني العالمي. هذا بالإضافة إلى مئات البحوث الرصينة التي ترجمها ونشرها في المجلات والدوريات العربية.
أما النقد فهو فيه العلم المبرز والاسم المتميز وهو من النقاد الأكثر أهمية ليس في الأدب العربي فحسب بل في الآداب الأجنبية أيضا وله فيها مؤلفات ودراسات لا يقل مستواها عن مؤلفاته ودراساته في العربية وينظر إليه في الأوساط النقدية العالمية بكثير من الإكبار وتحاط نظرياته وأطروحاته عندهم بحظوة خاصة باعتبارها من المراجع المهمة في النقد ولمكانته المميزة هذه كان يدعى محاضرا زائرا في "أكسفورد" و"كامبردج" و"لندن" و"درهام" و"كاليفورنيا" و"ستيت نيوفرسيتي" و"تكساس" و"ستانفورد" وغيرها من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية ذات المستوى الرفيع في روسيا وفرنسا واليابان والصين بل في معظم أقطار العالم من شماله إلى جنوبه إلى جانب جامعات الوطن العربي في المشرق والمغرب.
وهو بعد ذلك من الرسامين العالميين المشاهير ومن أبرز نقاد الفن والرسم وكان يدعى لعضوية لجان تحكيم مهرجانات الفن ومعارضه الدولية العالمية وله في ذلك دراسات وبحوث تعتبر مراجع في بابها بالعربية وباللغات الأخرى كما أن له اهتمامات بالموسيقى والمسرح والسينما.
أي ثراء أكثر من هذا الثراء وأي خصوبة فكرية ومعرفية أوسع من هذه الخصوبة.
جبرا فلسطيني من مدينة بيت لحم أجبرته النكبة عام 1948 على الخروج من وطنه فاستوطن العراق وتزوج إحدى مواطناته ومات فيه ودفن بأرضه وكان مسيحيا فاعتنق الإسلام وقد دون شذرات قليلة من سيرته الذاتية الواسعة الممتلئة التي يصعب على المجلدات الضخمة الإحاطة بها في كتابين صغيرين جداً (البئر الأول) و(شارع الأميرات) بالإضافة إلى معلومات يسيرة وإشارات تتعلق بحياته وردت في بعض رواياته وكتاباته الأخرى.
د. إبراهيم صقر.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة كان أستاذا كبيرا كأروع وأضخم ما يكون الأستاذ المعلم. وكانت علاقته بتلامذته أشبه بعلاقة الوالد بأبنائه من حيث الرعاية والاهتمام.
وكان نقي النفس طاهر الروح شامخا بعلمه وفكره وشخصيته المهيبة في غير تكبر أو استعلاء أو انتفاخ مصطنع بل إنه التواضع كله واللطف جميعه تأبى عليه مروءته وأخلاقه العالية أن يكون منافقا أو متصنعا أو مداهنا فهو صريحا شديد الصراحة لا يبالي أن يقول ما يعتقد أنه الحق مهما كان ذلك الشخص الذي أمامه ومهما كانت النتائج السلبية التي قد تعود عليه من تلك الصراحة في مكاسبه المادية أو منزلته الوظيفية. وكان يعلم أن مبادئه تلك وأفكاره وصراحته البالغة هي التي تحول بينه وبين الوظائف القيادية التي يرتقي إليها بعض تلامذته الأقل شهرة ومكانة وتأهيلا ولكنه ما كان يبتغي مغنما ماديا بل كانت كل هممه محصورة في العلم والبحث وتعليم الأجيال المبادئ والقيم والنضال في سبل الأفكار التي آمن بها واقتنع بصوابها مبشرا بها وداعيا إليها. يجلجل صوته في المحافل مناقشا ومحاورا ومدافعا ومقاتلا ببسالة عن آرائه ومبادئه.
في مناسبة كبيرة بجامعة القاهرة يتقدم منه أحد الدكاترة المناط به الإشراف على تلك الندوة وهو من تلامذته ليهمس في أذنيه قبيل بدء الاحتفال الكبير راجيا منه التخفيف من شدة صراحته المعهودة لأن راعي المناسبة اليوم هو رئيس الدولة الذي لا معقب لقوله وهو كما يعلم يضيق بمثل هذه التعقيبات وقد تثير آراء الدكتور الصريحة ومجادلاته الحامية شيئا من الحرج!! وهز الدكتور رأسه مبتسما وظن محدثه أنه ضمن صمته ولكن الدكتور كان أول المعقبين على حديث الرئيس وبعبارات لاذعة شديدة الرفض تحمل الانتقاد الحاد والاعتراضات الصريحة المسببة والإدانات القوية لكل ما قاله ذلك الزعيم وما أشار له من سياسات وتوجهات داعيا لمقاومتها وعدم قبولها. وكنت من شهود تلك الندوة في جامعة القاهرة وقد انتابني كبير الفزع من جرأته خوفا عليه من الاعتقال الفوري وكان ذلك ربما سوف يحصل لولا الجماهيرية العالية التي يحظى بها ولولا الحضور الكثيف الذي امتلأت به القاعة وكان متفاعلا بقوة مع تعقيبه ولعل الجهة الرسمية كانت في خشية من خروج الطلاب في مظاهرات حاشدة لو تم التعرض له بسوء.
والدكتور صقر مشهور في كل أحاديثه منطقيا بارع الحجة في ما يرفضه ويعارضه أو في ما يحبذه ويدافع عنه ويبشر به.
وقد اعتاد الناس من الدكتور صقر شدة التهذيب في مناقشاته ومجادلاته ومحاوراته مع من يختلف أو يتفق معهم فهو عفيف الكلمة دقيق العبارة بعيدا عن الإسفاف والسباب والتجريح الشخصي يناقش الفكرة ويجادلها ويرفضها بمنطق عقلي واع دون المساس بشخص صاحبها والخلاف عنده خلاف في الرأي والمبدأ لا خلاف ذاتي لهذا كثيرا ما يشاهد متأبطا ذراع أحدهم بعد انتهاء ندوة كان فيها نارا شديدة على آراء ذلك الشخص نفسه الذي يلتزمه الآن ذاهبا به لمكان يشربان فيه القهوة أو يتناولان الطعام في علاقة إنسانية هي أقرب للود مهما كانت المسافات بعيدة بينهما في السياسة والفكر. فهو يحترم الرأي الآخر مهما كان مناقضا لرأيه وعنده إيمان قوي بالمبدأ القائل "إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" وبقدر ما تراه محتشدا بكل مواهبه وحججه وبراهينه لدفع الرأي المخالف ونسفه والإجهاز عليه بقدر ما تراه يرعى العلاقة الإنسانية مع صاحب ذلك الرأي المختلف مواسيا له في المكروه ومهنئا في لحظات السرور!!
لا يملك المرء الذي يعرفه أكان متفقا معه أم مخالفا له إلا أن يحني رأسه احتراما وإجلالا لشخصيته وصدقه ونقاء سريرته وعفة لسانه واستقامة سلوكه وكريم معاملته للمؤيدين والمخالفين فهو من الفرسان النادرين حقا الذين لا يطعنون من الخلف ولا يظهرون غير ما يبطنون. السياسة عنده التي يعلمها لتلاميذه في الجامعات هي المبادئ السامية والقيم الرفيعة وليست الكذب والنصب والاحتيال. السياسة عند الدكتور إبراهيم صقر هي أن يكون لك مبدأ ثابت تؤمن به وأن يكون لك موقف صادق تدافع عنه وأن يكون خير الناس وصلاحهم هو هدفك ومبتغاك بالوسائل الشريفة والطرق العلمية وليس بالغش والمخادعة وقد ظل حياته كلها إلى أن مات متمسكا بهذا ومناديا به يلقنه طلبته ويدربهم عليه في قدرة العالم وعمق المفكر وبراعة الأستاذ.
والدكتور صقر ناصري شديد الولاء لأفكار الزعيم عبد الناصر ولإنجازاته الكبرى التي أدت في النهاية إلى تآمر أمريكا والغرب عليه ومحاولة اغتياله أكثر من مرة كما كان الدكتور يكرر لنا دائما مبينا شواهده المساندة لأفكاره في أقواله ومحاوراته المباشرة أو في مقالاته وكتبه وبحوثه لا يقبل في ذلك أي تشكيك ولا يطيق أي اعتراض من أي كان.
وأخيرا أسطري هذه ليست سوى تحية من القلب إلى هؤلاء الأربعة العظام الذين أسعدني الحظ يوما بلقائهم والاقتراب منهم ومعرفتهم والاستفادة المباشرة من علمهم وفكرهم والاسترواح في رحاب إنسانيتهم وعواطفهم السخية الراقية. تحية تذهب إليهم هناك في عالم الغيب بعد أن رحلوا عن دنيانا هذه تاركين وراءهم السيرة العطرة والذكر الحميد والفكر الخالد الذي يتحدى الفناء ويبث أنواره للعالمين على مدى الأجيال والقرون. وهذا المقال كتبته قبل فترة بعيدة تعد بعشرات الأعوام وإعادة نشره اليوم لتعديلات طفيفة أجريت عليه.
ولا سراة إذا جهالهم سادوا"
-الأفوه الأودي-
الشاعر العربي القديم الحكيم رأى قبل ألفين من السنين أو أكثر أن حياة الناس تضطرب وتختل إن عظم دور الجهلاء وتقهقر دور الصفوة ممن يحيطون بالعلم والمعرفة ويحملون العزيمة والرأي وعمق الإدراك وسلامة التدبير. المعرفة في مقابل الجهل والذين يعلمون في مواجهة من يجهلون من أجل تقويم اعوجاج المسار ولتصويب السلوك الإنساني وتوجيهه وجهة أكثر سلامة وسدادا.
الصفوة من الناس هم الذين يكون لهم حضورهم وتميزهم في مجتمعاتهم لما يقدمونه من خير ولما يقومون به من عمل نافع لخدمة الجميع ولما يبشرون به من مبادئ وقيم تبتغي الصلاح ولما يحملونه من القلوب النيرة الملأى بكل المشاعر السامية والعواطف النقية الصادقة ولما تختزنه نفوسهم من العلم الغزير والمعرفة الواسعة المتعددة الجوانب والفكر العميق الثاقب المتأمل المازج بين أصالة العلم ونباهة العقل بين المعرفة الواعية والفكرة الراسخة. قوم كهؤلاء هم الذين نسميهم الصفوة أو صفوة الصفوة. يحيون للعطاء بسخاء لا حدود له ثم يموتون تاركين وراءهم الذكر الحسن والمآثر الخالدة الحية التي تظل تمنح البشر الضياء والهدى والمبادئ الثابتة القويمة. حياتهم كلها شعلة من النشاط المتصل فلا تكاد تجدهم إلا في محاضرة أو ندوة أو مقالة تدعو لقضية أو تدافع عن فكرة أو كتاب يؤصل لقيمة عالية ويقدم جديدا من الفكر والعلم. شغلهم الشاغل هو الجدل العلمي والنقاش الفكري والتبشير بالرؤى المتقدمة الهادفة وإثارة الحوار حول أمور الناس والمجتمع ومستقبل الأمة وغدها وآمالها وطموحاتها. يفعلون ذلك غير مبالين بالمتاعب يلاقونها والمعاناة يتعرضون لها من جراء دعواتهم المقتحمة وأفكارهم الجريئة التي ربما رأتها بعض الجهات وبعض الفئات أنها تعترض مصالحها الآنية أو تصطدم برؤاها الضيقة أو تخترق السائد وتتجاوز المألوف مما عهده أولاء وأولئك واستقروا عليه من المفاهيم والأفكار وحتى المعارف والعلوم. فأهل التجديد من أمثال هؤلاء تكون رؤيتهم المتجاوزة للسائد وتطلعاتهم للجديد والأكثر جدة في الفكر والوعي والحياة تكون دوما مثار الجدل الصاخب وتواجه بالرفض والإنكار ولكنهم يطرحون التحدي بثقة واطمئنان ولا يأبهون بعواصف الغبار مهما كانت هائجة متعالية تسد الآفاق لأنهم يدركون أن عاصفة الغبار سرعان ما تتبدد وتنجلي ويسطع الضوء قويا يرسل أشعته المشرقة لتملأ الدنيا وتبعث الجديد في الأفق القريب والبعيد.. أولئك هم أهل الفكر الأصيل والثقافة الحية الواعية والرؤية المبصرة المتجددة والإرادات القوية الصابرة والطموح الواسع الممتد إلى ما لا نهاية. وهؤلاء هم الذين يضعون أسس التقدم ويبذرون بذور التطور والرقي في نهضات الأمم ومسيراتها المندفعة في سبل الحضارة والبناء بناء عقل الإنسان وتطور وعيه لما هو أكمل وأرقى وأكثر انسجاما مع قضايا الحرية والحق والعدل.
أربعة من الصفوة ممن عرفت .
إنهم من الصفوة حقا هكذا أومن أنا وهكذا يقر لهم أكثر الناس ممن عرفهم من نظرائهم وأمثالهم أومن تلامذتهم الذين يتلقون العلم عنهم في الجامعات مباشرة أو من مريديهم الذين يتحلقون حولهم ويأخذون عنهم ويلتزمون مجالسهم ولقاءاتهم أو جمهرة المثقفين والمتابعين من المهتمين الذين يغشون ندواتهم ويسعون لحضور محاضراتهم ومناقشاتهم. ويتابعون ما تجود به أقلامهم من البحوث والمقالات والكتب. مقاييس الصفوة في تقديري تنطبق عليهم وشروطها موجودة فيهم من غزارة العلم وسعة المعرفة إلى دقة الفكر وعمق الفهم إلى قوة الحجة ونزاهة الجدل وتأسيس الرأي والثبات على المبدأ والدفاع عن القيم والإصرار على قناعاتهم وأفكارهم والتصدي بصلابة لكل ما يرونه من وجهة نظرهم يدخل في المغالطات والمماحكات والبعد عن الحقيقة الصافية التي ينبغي أن تكون مطلب الجميع وهدف الكل مهما تباينت الطرق إليها أو اختلفت الوسائل. صفوة هم إن كانت الصفوة مقياسها العلم فقد كانوا في العلم من الأساتذة الأعلام الذين يحتكم إليهم في تخصصاتهم والميادين التي عرفوا بالتضلع فيها فهم المرجع والقول الفصل في مجال تخصصهم يقر لهم بذلك خصمهم في غير تردد. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي تأسيس الرأي والتبشير بالجديد من الفكر والتوصل إلى المستحدث من المفاهيم والمعارف. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي الإيمان بقناعات معينة ومبادئ محددة يدافعون عنها ويتمسكون بها ويثبتون عليها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي دعوة للحق واستماتة في سبيل العدل ومخاصمة شديدة للجور والباطل والتزييف للحقيقة وللوعي السليم وانتصارا لحقوق الإنسان في شتى صورها ومظاهرها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي المؤلفات العديدة والكتب المتنوعة والبحوث الجادة التي تخدم العلم والمعرفة سواء في مجال تخصصاتهم الدقيقة أو في مجال الثقافة الإنسانية الواسعة. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي احترام الرأي المخالف وتقدير الآخر وإدارة النقاش على أساس من الحوار الراقي وأدب الجدل القائم على المناهج العلمية البحتة بعيدا عن التعصب الشخصي والتطرف الفكري والتحامل على الآخر المناقض مهما كانت حدة الخلاف والرفض لفكر ذلك الآخر وتوجهاته فالخلاف والرفض هو للفكرة ذاتها وليس لقائلها والداعي إليها. وصفوة هم إن كانت الصفوة هي مكانة عالية ومنزلة رفيعة وسمعة عريضة وشهرة تجاوزت القريب الملاصق أو البعيد القاصي. فرادة في الشخصية وفيما تحمله تلك الشخصية من القيم والأفكار وصفوة هم إن كانت الصفوة هي التواضع الشديد ولطافة المعاملة وحسن المعاشرة وكرم الأخلاق في أوضح معانيها.
والأربعة الذين أقف معهم اليوم وقفة الوفاء هذه ثلاثة منهم من النقاد وعلماء الأدب ومن أهل الإبداع الفني ورابعهم من علماء السياسة وأساتذتها الأكاديميين.
ثلاثة من مصر وواحد من فلسطين..
د. عبد المحسن طه بدر
عالم من علماء اللغة الأفذاذ وأستاذ من أساتذتها المتميزين له البحوث الممتازة والكتب الدقيقة الرصينة عرف بشخصيته الوقورة العالية التهذيب وبصلابته وسمو روحه الشامخة التي ترفض الانحناء وتمتد عاليا في الاستمساك بما تؤمن به. حريصا لا يقبل النفاق والتملق. مواقفه معروفة لا تتغير لأنها تنبعث من قناعات أخلص لها وآمن بصوابها واحتشد دوما للدفاع عنها باعتبارها قيم سامية لا يجوز النكوص عنها بل يجب نشرها والتبشير بها والإصرار عليها. يدعى للمنصة فتشخص القلوب والعقول والأبصار تنتظر كيف ينطلق بيانه العذب ولغته الراقية الحلوة لإيضاح مقاصده والتبشير برؤيته والدفاع عن أفكاره ونظراته في أسلوب هو غاية في الروعة والحسن ليس في لغته الجميلة فحسب بل في تحليله المنطقي المدهش وفي موازنته للأمور ومقارنته للأشياء وتوضيحه للحقائق وتأكيده على المبادئ وإظهاره للأخطاء وسخريته من الخصوم ومنازلتهم في آرائهم وأطروحاتهم بما ينقضها ويهز عناصرها داحضا إياها مبرهناً على خطورتها وفسادها. مما يجعل الجمهور ينساق إليه في انجذاب وحماس. تنظر إليه وهو يتحدث من على منصته شارحا أفكاره أو متعقبا آراء معترضيه أو مجيبا لسائليه فتحسبه محاميا شديد العارضة قوي الحجة يدافع عن قضية عادلة.
أذهب إليه في جلساته فيدهشني علمه الغزير ومعرفته المتعددة الجوانب وشخصيته البسيطة المتواضعة. ويأسرني بتواضعه وسلوكه الرفيع وسرعة بديهته وقوة منطقه وبراعة أسلوبه في الحديث وقوة إرادته التي لا تلين. أجدني كلما اقتربت منه أكثر كلما ازددت إعجابا به في شخصه وفي علمه. وكلما زادت معرفتي به كلما اكتشفت جديدا من معارفه الجمة أو من صفاته الجليلة. أسعى إلى ندواته فيشدني حواره وجدله وطريقته في النقاش والمساجلة وتبهرني روحه المرحة وصلابة نفسه المتحدية وإنسانيته العذبة الصافية وثقافته الشديدة الثراء.
في أول معرفة لي به أحسست كأني لم أستطع الولوج إليه فقد بدا لي لحظتها كما لو كان متعاليا وأنا لا أطيق هذه الصفة حتى في العظماء وحسبته من أولئك الأكاديميين المتقعرين المتقوقعين في شرنقتهم الأكاديمية وجاءني انطباع بأنه أقرب إلى الانطواء والتحفظ وليس من الذين يفتحون لك نفوسهم وقلوبهم ولكن سرعان ما تبددت هذه الانطباعات وتلاشت تماما عندما التقينا في المرة التالية وجذبنا الحديث إلى آفاق بعيدة وقريبة فإذا بنا وكأننا قد تعارفنا منذ سنوات طويلة وإذا به يفتح لي نفسه وقلبه ويتحدث لي حديث الصديق للصديق. وكنت باستمرار أدعوه لحضور الحفل السنوي لسفارتنا في القاهرة بمناسبة عيد عمان الوطني وكان يستجيب بأريحية قائلا إنني لا أحبذ كثيرا حضور احتفالات السفارات ولكنني أقبل دعوتكم وألبيها في المقام الأول من أجل اسم عمان التي احبها واكبر تاريخها العربي العريق الناصع البياض وماضيها المجيد إضافة لتقديري البالغ لكم وللسفير السيد عبدالله بن حمد البوسعيدي الذي ارتاح له كثيرا لدماثته وجميل أخلاقه فهو رجل رائع معاملة وكرما. ووصفه للسفير السيد عبدالله بن حمد كان في محله تماما.
ومرة سألني سؤال استنكار لماذا فلان يرأس موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية وهو متخصص في العلوم السياسية ولا علاقة له من قريب أو بعيد بموضوع الموسوعة؟ وكانت إجابتي التي لعلها لم تقنعه إنه عالم متمكن في أكثر من مجال.
وهكذا تمضي بنا الأيام وكلما مر يوم أجدني أقرب إلى هذا العلم الكبير الصريح الصادق الذي لا يعرف المواربة في يومه هذا أو في الذي سبقه. ولقد حرصت ما استطعت أن أكون من المتابعين لندواته وجلساته بالحضور المباشر لها أو القراءة عنها قدر ما أمكن ومن المؤسف أن الحظ لم يسعفني كثيرا بصحبة هذا العالم الجليل والأستاذ الكبير فقد مات بعد أقل من ثلاث سنوات من تعارفنا.
د. علي شلش.
في ندوة الناقد الكبير الدكتور عبدالقادر القط التي يعقدها كل جمعة في "مطعم غرناطة" بمصر الجديدة في القاهرة سعدت بمعرفة الدكتور علي شلش الناقد المعروف والباحث الموسوعي المقيم في لندن والذي يأتي للقاهرة زائرا مرة أو مرتين في العام ومنذ اللقاء الأول والحوار الذي دار بيننا فيه نشأت صداقتنا وقدم لي كتبه القيمة الغنية بالمعرفة والفكر سواء في مجال النقد وهو تخصصه أو في مجال التاريخ المعاصر أو البحوث الإعلامية وكان يكلمني كلما جاء للقاهرة فأسعى إليه متعجلا ليمتد حوارنا لقاء بعد لقاء.
والدكتور شلش من أولئك الموسوعيين المغرمين بالبحث والتنقيب عن المعرفة حتى لقد استقال من العمل ورفض الارتباط بأي وظيفة محددة متفرغا للبحث والكتابة والتأليف بالإضافة إلى محاضرات منتظمة كان يقدمها لطلابه في جامعة لندن في الإعلام وفي النقد الأدبي. وبعض البحوث التي يسهم بها بين الحين والآخر لهذه الجهة أو تلك. وكان ينقب في الأرشيفات ومراكز الوثائق والمحفوظات العالمية وفي الجامعات المختلفة ويخرج من ذلك التنقيب بمعلومات مهمة وقيمة كانت مجهولة ومنسية في ملفات المحفوظات ولم يكن العثور على معلومات قيمة ونادرة كهذه من الأمور الميسورة والسهلة بل كانت نتيجة بحث مضن ومعقد يستغرق الأشهر الطويلة لجمع المادة من مصادرها المتفرقة والمتباعدة ثم تبويبها وتصنيفها وإخراجها في بحث متكامل بعد ذلك يغدو مرجعا مهما يصعب الاستغناء عنه في موضوعه. كما هو الحال في بحثه عن الصحافة العربية التي نشأت في أوربا في مختلف بلدانها في القرن التاسع عشر والذي تضمن الكثير من المعلومات عن هذه الصحف ومؤسسيها وتواريخ صدورها والقضايا التي كانت تتناولها. وهذه الصحف على أهميتها من ناحية السبق الزمني المتقدم ومن ناحية الموضوعات المهمة التي طرحتها يكاد أغلبها مجهول بالمرة للقارئ العربي إذ لم يسمع أحد قبل هذا البحث حتى بمجرد أسمائها فكأنها من مطويات الزمن المنسية. وللأسف فإن هذا البحث المهم لم يظهر بعد في كتاب وإنما تم نشره في الصحافة متفرقا في حلقات عدة نأمل من القائمين على تراث الدكتور شلش أن يسارعوا بإصدار هذا الكتاب ليكون مرجعا للباحثين والمهتمين سيما وأن الدكتور كان قد هيأه للصدور في كتاب كما أخبرني قبل وفاته ولعلهم بالفعل قد قاموا بذلك. وبحوث الدكتور شلش كثيرة ومتنوعة ويثير بعضها ردود فعل ونقاشات حامية حول المعلومات التي وردت بها مثلما حصل مع كتابه عن السيد جمال الدين الأفغاني الذي أثار كثيرا من الضجيج والتعقيبات حين صدوره.
ولأن الدكتور شلش حريص أشد الحرص على استقلاليته وحريته في طرح الأفكار التي يريد من دون تحرج أوتهيب فقد آثر عدم الارتباط بجهة معينة تقيده بسياستها وآرائها وظل يبحث ويحاضر ويكتب بالطريقة التي يراها مستقلة لا تتأثر إلا بالمنهج العلمي البحت ولهذا كان موضع التقدير والاحترام من الجميع. والرجل كان صريحا من غير مدارة أو مداهنة فيما يعتقد أنه الصحيح رافضا أن ينحاز إلا لما يحسبه الحقيقة العلمية المجردة وحدها. يحب الناس ويسعد بهم ونفسه مفتوحة دائما لكل من يعرفه. ولكن حبه الأول والأخير للحقيقة والمعرفة التي لا يرضى أن تزيف أو تمتهن أو توظف التوظيف غير السوي. وأصدقاؤه كثيرون من شتى الاتجاهات والمذاهب ولكنه لا ينحاز لأحد منهم ضد الآخر بل هو وسطي معتدل في أفكاره وتوجهاته وسلوكه وتعامله. وقد أحرز بذلك محبة الجميع والكل يسعى إليه ويرغب في صحبته حيث يسعهم بلطفه وإنسانيته العالية.
وللدكتور شلش العديد من الكتب أغلبها في النقد الأدبي وبعضها في التاريخ والشخصيات وآخرها الكتاب الذي صدر بعد موته بأيام قليلة وكان عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعنوانه (طه حسين مطلوب حيا وميتا) وقد دافع فيه دفاعا مجيدا عن طه حسين وأصالته الفكرية وريادته بطريقة دقيقة موثقة بالأدلة والحقائق كما هي عادته دوما في كتاباته ومؤلفاته. وكان هذا الكتاب هو خاتمة جهاد هذا العالم المدقق الذي وهب حياته كلها للعلم والبحث والحقيقة الصافية البعيدة عن الغرض والهوى.
وكان موت هذا الرجل مثيرا أيضا كحال حراكه الحياتي وحال بحوثه وكتاباته فقد فاجأه الموت في مهرجان الشعر الذي أقيم في القاهرة بعد إلقائه محاضرته التي أثارت مناقشات صاخبة ومحاورات مثرية مع السائلين والمعقبين حيث قال لبعض من حوله انه محتاج لقليل من النوم ثم يعود بعد قليل لمتابعة الجلسات وصعد إلى غرفته بالفندق ولكنه لم يعد وعندما افتقدوه وذهبوا لالتماسه وجدوه قد فارق الدنيا مودعا لها بتلك المحاضرة القيمة.
أوقف عالمنا حياته كلها في سبيل العلم والاجتهاد فيه ومازال الكثير من بحوثه وكتاباته التي بدأها تنتظر من يكملها ويلملم شتاتها.
هكذا انتهت حياة الدكتور علي شلش وسط دهشة الكثيرين وذهولهم وقد خرج شعراء العربية ونقادها لتشييع جثمانه كأنهم قد جاءوا من أقطارهم المختلفة لتوديعه الوداع الأخير أو كأنه هو الذي ما شاء أن يموت إلا وسط هذه النخبة من المبدعين والنقاد العرب من نظرائه وأصدقائه. وقد علمت فيما بعد أن كتابا جديرا بالاقتناء قد صدر عن "الهيئة المصرية للكتاب" ضم مقالات وآراء وقصائد شعر لأغلب المفكرين والأدباء العرب تتحدث كلها عن الراحل الكبير حديث المودة والتقدير..
د. جبرا إبراهيم جبرا
"الحديث عن جبرا لا يخلو من إغراء لأن هناك الكثير الذي يمكن أن يقال وفي مجالات شتى ومع ذلك فإن هذا الحديث سيكون شائكا لأن جبرا بمقدار ما هو فرد فإنه متعدد وتناول جانب واحد من إبداعه لا يوفيه حقه وقد يخفي جوانب أخرى لا تقل أهمية" هكذا قال د. عبدالرحمن منيف الروائي العربي الكبير صديق جبرا الحميم وصاحبه الأقرب يصف صديقه والمواهب المتعددة التي اشتمل عليها وليس هناك من هو أكثر معرفة بجبرا من منيف للروابط الوثيقة التي تجمعهما وحسبك دليلا على قربهما من بعضهما ذلك النص الروائي المهم الذي اشتركا في كتابته معا في سابقة هي الأولى من نوعها على صعيد الأدب العربي أن يكتب اثنان رواية واحدة متلاحمة الأجزاء مترابطة الأحداث منسجمة أشد الانسجام في لغتها وفي إيقاعها الفني العام لكأنها خرجت من فكر واحد وإبداع واحد مؤكدة بذلك اتحاد الكاتبين وانسجامهما. وكانت روايتهما تلك التي اسمياها (عالم بلا خرائط) من بديع الروايات العربية وقد اشتهرت شهرة واسعة وطبعت عدة مرات. ووصف منيف لصاحبه بأنه متعدد جوانب الإبداع هو تقرير لحقيقة ساطعة يعلمها الجميع فجبرا شاعر مهم من شعراء المدرسة الجديدة وله أربعة دواوين صدر آخرها عام 1993 باسم (قصائد بعضها للطيف وبعضها للجسد) وأعادت (دار رياض الريس) عام 1990 طباعة دواوينه الثلاثة الأولى التي صدرت فيما بين الخمسينات والسبعينات في مجموعة واحدة احتوت على (تموز والمدينة) وهو ديوانه الأول الذي كان صدوره أول مرة عام 1959 والديوانان الآخران (المدار المغلق) و(لوعة الشمس) اللذان صدرا في الستينات والسبعينات فهو بذلك من الأصوات الشعرية المهمة في ما أطلق عليه اصطلاحا اسم "قصيدة النثر" على الرغم من أن جبرا قد رفض أن يدخل شعره في إطار هذا المسمى وفضل تسميته بالشعر الحر. ولقد ظل هاجس الشعر معه لم يفارقه حتى وفاته فقد رأينا ما نشرته مجلة (نزوى) في أحد أعدادها من آخر ما كتب قبيل وفاته كما رأينا كذلك ديوانه الأخير الذي صدر قبل وفاته بعام واحد وهو (قصائد بعضها للطيف وبعضها للجسد) نشير لذلك لندلل أن النقد الذي امتهنه كحرفة أساسية قد تكون طغت على جوانبه الإبداعية الأخرى لم يستطع أن يزحزحه عن الشعر كما حصل مع آخرين من نقادنا الكبار الذين بدأوا شعراء ثم سحبهم النقد كلية عن كتابة الشعر وتعاطيه لينشغلوا فقط بالنقد وبحوثه. ومع أن جبرا الذي ظل مع الشعر حتى موته كان له رأي شهير ردده في بعض محاضراته وبعض كتاباته يتنبأ فيه بموت الشعر في هذا العصر التقني المعقد الذي يصعب على الشعر برهافته وحساسيته الائتلاف مع علميته الجافة القائمة على العمليات الحسابية والآلات الدقيقة. وقد صدمت نظريته هذه الكثير من عشاق الشعر وراغبيه وكتب كثيرون يعارضون رأيه هذا ووجهت إليه الأسئلة حول هذا الموضوع في العديد من المقابلات واللقاءات. وكنت واحدا من أولئك الذين لم تعجبهم هذه النظرية وأحسبني ما أزال. وقد وجدتني ذات مرة في أمسية قاهرية أشتبك معه بعد محاضرة ألقاها كرر فيها رأيه ذاك وكان ذاك الاشتباك بداية للتعارف بيننا وقد أشرت لذلك في مقالة نشرت لي بجريدة عمان قبل عدة سنوات. ومن غريب الأمر أنه ظل متمسكا برأيه هذا في الوقت الذي ظل فيه مستمرا مع الشعر وتلك مفارقة عجبية. وإذا تركنا الشعر وإسهاماته فيه كما رأينا إسهامات بارزة مؤثرة فهو كاتب قصة قصيرة من الطراز الجيد وله مجموعة قصصية نشرت في بيروت عام 1960 بعنوان (عرق وقصص أخرى) ثم أعيد نشرها في بغداد في طبعة رابعة موسعة عام 1983 بعنوان (عرق وبدايات من حرف الياء) وفي مجال الرواية له آيات بينات ومن أشهر رواياته الرائعة (السفينة) و(البحث عن وليد مسعود) و(الغرف الأخرى) و(يوميات سراب عفان) و(صيادون في شارع ضيق) وهذه الرواية تحديدا صدرت أول ما صدرت بالإنجليزية في لندن عام 1960 ثم ترجمت للعربية عام 1974 بالإضافة إلى رائعته الأكثر شهرة تلك التي كتبها بالاشتراك مع صديقه د. عبد الرحمن منيف وهي "عالم بلا خرائط" وجبرا بعد ذلك مترجم من النوع الممتاز وقد أثرى العربية بعشرات من الكتب الأجنبية في الرواية والنقد والقصة والدراسات الجادة وبلغ عدد ما نقله إلى العربية من اللغات الأخرى قرابة الثلاثين كتابا من أبرزها (مسرحيات شكسبير) و(لغصن الذهبي) لـ(فريزر) وكل الكتب التي ترجمها ينتقيها بدقة من عيون الفكر الإنساني العالمي. هذا بالإضافة إلى مئات البحوث الرصينة التي ترجمها ونشرها في المجلات والدوريات العربية.
أما النقد فهو فيه العلم المبرز والاسم المتميز وهو من النقاد الأكثر أهمية ليس في الأدب العربي فحسب بل في الآداب الأجنبية أيضا وله فيها مؤلفات ودراسات لا يقل مستواها عن مؤلفاته ودراساته في العربية وينظر إليه في الأوساط النقدية العالمية بكثير من الإكبار وتحاط نظرياته وأطروحاته عندهم بحظوة خاصة باعتبارها من المراجع المهمة في النقد ولمكانته المميزة هذه كان يدعى محاضرا زائرا في "أكسفورد" و"كامبردج" و"لندن" و"درهام" و"كاليفورنيا" و"ستيت نيوفرسيتي" و"تكساس" و"ستانفورد" وغيرها من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية ذات المستوى الرفيع في روسيا وفرنسا واليابان والصين بل في معظم أقطار العالم من شماله إلى جنوبه إلى جانب جامعات الوطن العربي في المشرق والمغرب.
وهو بعد ذلك من الرسامين العالميين المشاهير ومن أبرز نقاد الفن والرسم وكان يدعى لعضوية لجان تحكيم مهرجانات الفن ومعارضه الدولية العالمية وله في ذلك دراسات وبحوث تعتبر مراجع في بابها بالعربية وباللغات الأخرى كما أن له اهتمامات بالموسيقى والمسرح والسينما.
أي ثراء أكثر من هذا الثراء وأي خصوبة فكرية ومعرفية أوسع من هذه الخصوبة.
جبرا فلسطيني من مدينة بيت لحم أجبرته النكبة عام 1948 على الخروج من وطنه فاستوطن العراق وتزوج إحدى مواطناته ومات فيه ودفن بأرضه وكان مسيحيا فاعتنق الإسلام وقد دون شذرات قليلة من سيرته الذاتية الواسعة الممتلئة التي يصعب على المجلدات الضخمة الإحاطة بها في كتابين صغيرين جداً (البئر الأول) و(شارع الأميرات) بالإضافة إلى معلومات يسيرة وإشارات تتعلق بحياته وردت في بعض رواياته وكتاباته الأخرى.
د. إبراهيم صقر.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة كان أستاذا كبيرا كأروع وأضخم ما يكون الأستاذ المعلم. وكانت علاقته بتلامذته أشبه بعلاقة الوالد بأبنائه من حيث الرعاية والاهتمام.
وكان نقي النفس طاهر الروح شامخا بعلمه وفكره وشخصيته المهيبة في غير تكبر أو استعلاء أو انتفاخ مصطنع بل إنه التواضع كله واللطف جميعه تأبى عليه مروءته وأخلاقه العالية أن يكون منافقا أو متصنعا أو مداهنا فهو صريحا شديد الصراحة لا يبالي أن يقول ما يعتقد أنه الحق مهما كان ذلك الشخص الذي أمامه ومهما كانت النتائج السلبية التي قد تعود عليه من تلك الصراحة في مكاسبه المادية أو منزلته الوظيفية. وكان يعلم أن مبادئه تلك وأفكاره وصراحته البالغة هي التي تحول بينه وبين الوظائف القيادية التي يرتقي إليها بعض تلامذته الأقل شهرة ومكانة وتأهيلا ولكنه ما كان يبتغي مغنما ماديا بل كانت كل هممه محصورة في العلم والبحث وتعليم الأجيال المبادئ والقيم والنضال في سبل الأفكار التي آمن بها واقتنع بصوابها مبشرا بها وداعيا إليها. يجلجل صوته في المحافل مناقشا ومحاورا ومدافعا ومقاتلا ببسالة عن آرائه ومبادئه.
في مناسبة كبيرة بجامعة القاهرة يتقدم منه أحد الدكاترة المناط به الإشراف على تلك الندوة وهو من تلامذته ليهمس في أذنيه قبيل بدء الاحتفال الكبير راجيا منه التخفيف من شدة صراحته المعهودة لأن راعي المناسبة اليوم هو رئيس الدولة الذي لا معقب لقوله وهو كما يعلم يضيق بمثل هذه التعقيبات وقد تثير آراء الدكتور الصريحة ومجادلاته الحامية شيئا من الحرج!! وهز الدكتور رأسه مبتسما وظن محدثه أنه ضمن صمته ولكن الدكتور كان أول المعقبين على حديث الرئيس وبعبارات لاذعة شديدة الرفض تحمل الانتقاد الحاد والاعتراضات الصريحة المسببة والإدانات القوية لكل ما قاله ذلك الزعيم وما أشار له من سياسات وتوجهات داعيا لمقاومتها وعدم قبولها. وكنت من شهود تلك الندوة في جامعة القاهرة وقد انتابني كبير الفزع من جرأته خوفا عليه من الاعتقال الفوري وكان ذلك ربما سوف يحصل لولا الجماهيرية العالية التي يحظى بها ولولا الحضور الكثيف الذي امتلأت به القاعة وكان متفاعلا بقوة مع تعقيبه ولعل الجهة الرسمية كانت في خشية من خروج الطلاب في مظاهرات حاشدة لو تم التعرض له بسوء.
والدكتور صقر مشهور في كل أحاديثه منطقيا بارع الحجة في ما يرفضه ويعارضه أو في ما يحبذه ويدافع عنه ويبشر به.
وقد اعتاد الناس من الدكتور صقر شدة التهذيب في مناقشاته ومجادلاته ومحاوراته مع من يختلف أو يتفق معهم فهو عفيف الكلمة دقيق العبارة بعيدا عن الإسفاف والسباب والتجريح الشخصي يناقش الفكرة ويجادلها ويرفضها بمنطق عقلي واع دون المساس بشخص صاحبها والخلاف عنده خلاف في الرأي والمبدأ لا خلاف ذاتي لهذا كثيرا ما يشاهد متأبطا ذراع أحدهم بعد انتهاء ندوة كان فيها نارا شديدة على آراء ذلك الشخص نفسه الذي يلتزمه الآن ذاهبا به لمكان يشربان فيه القهوة أو يتناولان الطعام في علاقة إنسانية هي أقرب للود مهما كانت المسافات بعيدة بينهما في السياسة والفكر. فهو يحترم الرأي الآخر مهما كان مناقضا لرأيه وعنده إيمان قوي بالمبدأ القائل "إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" وبقدر ما تراه محتشدا بكل مواهبه وحججه وبراهينه لدفع الرأي المخالف ونسفه والإجهاز عليه بقدر ما تراه يرعى العلاقة الإنسانية مع صاحب ذلك الرأي المختلف مواسيا له في المكروه ومهنئا في لحظات السرور!!
لا يملك المرء الذي يعرفه أكان متفقا معه أم مخالفا له إلا أن يحني رأسه احتراما وإجلالا لشخصيته وصدقه ونقاء سريرته وعفة لسانه واستقامة سلوكه وكريم معاملته للمؤيدين والمخالفين فهو من الفرسان النادرين حقا الذين لا يطعنون من الخلف ولا يظهرون غير ما يبطنون. السياسة عنده التي يعلمها لتلاميذه في الجامعات هي المبادئ السامية والقيم الرفيعة وليست الكذب والنصب والاحتيال. السياسة عند الدكتور إبراهيم صقر هي أن يكون لك مبدأ ثابت تؤمن به وأن يكون لك موقف صادق تدافع عنه وأن يكون خير الناس وصلاحهم هو هدفك ومبتغاك بالوسائل الشريفة والطرق العلمية وليس بالغش والمخادعة وقد ظل حياته كلها إلى أن مات متمسكا بهذا ومناديا به يلقنه طلبته ويدربهم عليه في قدرة العالم وعمق المفكر وبراعة الأستاذ.
والدكتور صقر ناصري شديد الولاء لأفكار الزعيم عبد الناصر ولإنجازاته الكبرى التي أدت في النهاية إلى تآمر أمريكا والغرب عليه ومحاولة اغتياله أكثر من مرة كما كان الدكتور يكرر لنا دائما مبينا شواهده المساندة لأفكاره في أقواله ومحاوراته المباشرة أو في مقالاته وكتبه وبحوثه لا يقبل في ذلك أي تشكيك ولا يطيق أي اعتراض من أي كان.
وأخيرا أسطري هذه ليست سوى تحية من القلب إلى هؤلاء الأربعة العظام الذين أسعدني الحظ يوما بلقائهم والاقتراب منهم ومعرفتهم والاستفادة المباشرة من علمهم وفكرهم والاسترواح في رحاب إنسانيتهم وعواطفهم السخية الراقية. تحية تذهب إليهم هناك في عالم الغيب بعد أن رحلوا عن دنيانا هذه تاركين وراءهم السيرة العطرة والذكر الحميد والفكر الخالد الذي يتحدى الفناء ويبث أنواره للعالمين على مدى الأجيال والقرون. وهذا المقال كتبته قبل فترة بعيدة تعد بعشرات الأعوام وإعادة نشره اليوم لتعديلات طفيفة أجريت عليه.