صدرت رواية فيليب روث "التآمر على أمريكا" عام ٢٠٠٤ وصدرت ترجمتها العربية هذا العام ٢٠٢١، عن دار المدى في العراق للمترجم القدير أسامة منزلجي. وهي مزج بين الواقعية التاريخية، مع قدر من التخييل فيما كان يمكن أن يحدث لو أن أمريكا في بدايات الأربعينات من القرن الماضي، خضعت لنازية هتلر التي امتدت في أصقاع العالم، وتسببت بالحرب العالمية الثانية، ويضع روث نفسه في قلب هذه القصة، اذ يظهر في الرواية الطفل الأصغر لأسرة يهودية تعيش في نيوآرك في مقاطعة نيوجرسي. مستثمرًا أباه وأمه وأخوه فيما لو تحقق ما يخشاه اليهود في العالم كله آنذاك، بعد حملات القتل الجماعية البشعة التي واجهوها في أوروبا.
يتسلم الطيار ليندبيرغ المعروف بدعمه للنازية، الحكم في الرواية بعد انتخابات انتصرَ فيها على روزفلت ممثل الحزب الديمقراطي، مقنعًا الجماهير بأنه سيجنب أمريكا العظيمة الخوض في براثن الحرب التي تحدث في أوربا، وأن يحميهم هم وأبنائهم من الموت في أراض بعيدة عن بلدهم، لكن والد روث واحد من بين اليهوديين الذين كانوا يعرفون أنها مسألة وقت حتى يضطروا إما للهرب من أمريكا، أو الموت فيها كما حدث لأقرانهم في أوروبا.
أعيد الاهتمام والبحث عن هذه الرواية، مع تسلم ترامب للحكم في الفترة الانتخابية الماضية في أمريكا، خصوصًا مع تصاعد النفس اليميني والمحافظ في فترة حكمه.
كوندي ناست وصفها بأنها تحفة فنية من التاريخ المضاد، وما تؤكده هذه الرواية وما يهمني كثيرًا في كتابتي في هذه المرحلة أن الحياة اليومية مرتبطة بصورة كبيرة بالنظام السياسي العام، فمن خلال هذه الرواية يعيش الطفل روث تفاصيل حميمة، كما يصفها ناست، تعتمد حياة روث الطفل بشكل حاسم على السياسة. لكن هنالك جانبًا مهمًا تحيط به الرواية، وهي قابلية الثقافة الأمريكية والجماهير هناك لعبادة المشاهير في مدونة Roman Clodia يدفع هذه المؤامرة الهستيريا والجهل والحقد والغباء والكراهية والخوف، ويمكن إعادة اكتشاف هذا الكتاب بتأثيره الموضوعي لا في أمريكا فحسب ولكن في المملكة المتحدة إذا أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تقسيم البلاد، مما أعاد إلى المجال العام أجندة انعزالية مريعة تجاه الأجانب، أجندة تصفها بضيق الأفق فيما يتعلق بالحياة العامة.
ما يعجبني شخصيًا في مجمل أعمال فيليب روث التي قرأت: «سخط» و «الوصمة البشرية» و«حكاية أمريكية» و «رجل عادي» و الآن «التآمر على أمريكا» لا السياسة التي يستطيع التقاطها ليعكس المناخات التي تعيش فيها شخصياته، والتعقيدات الاجتماعية المرتبطة بهذه المناخات، بل نثر روث، الذي يلتقط أكثر التفاصيل حميمية على الرغم من الصبغة السياسية للعمل – فيكتب في حكاية أمريكية: ".. وهل هي مهتمة بالسياسة أيضًا؟ - بابا كل شيء سياسي. كيف يمكن ألا تكون مهتمة بالسياسة إن كان لها عقل؟" فالعلاقات والأسئلة التي تثيرها شخصياته باستمرار، تتدفق من نهر حساسية عالٍ وبصيرة تنفتح على اليومي والدقيق مثلما تكتب الشاعرة اللبنانية زينة هاشم بك: "دع عني فكرة قائمة الأحلام/أريد فقط أن أرسم الحلزون الصغير". الأمر الذي لا يستطيع تحقيقه كثير من الكتاب، فإما الحفاظ على مستوى القصة، أو مستوى الكتابة الفنية داخل العمل، لكنه وببراعة شديدة وبحساسية قل نظيرها، يؤلف بين الخاص والعام مما يجعلك متلهفًا لمراقبة تقدم السرد، ووحشته، بل وتصبحُ معنيًا حتى بما سيبدو بالنسبة لك سردًا يتعلق بتاريخ مجتمع آخر.
قد يعتبر بعض القراء أنهم غير معنيون بقراءة هزيمة الحلم الأمريكي، أو تأثير ما أطلق عليه النقاد في الثقافة الأمريكية "التفاؤل القاسي" على الشعب الأمريكي خصوصًا وأن الكاتب لا يتوقف عند حدود القصة البسيطة، بل يذهب وبتمهل شديد لقص أطرف وأصغر الأحداث المرتبطة بموضوع حكايته، لعل هذا منسجم وبصورة كبيرة مع رأيه حول الأدب، إذ لا يراه "مسابقة جمال أدبية" وهو الذي صرح في أكثر من حوار أجري معه بأن يحب القص، ولم يكن خجلًا يومًا منه. إذن دهشة سحر الأدب في سريان القصة، التي تعتمد على ومضات سحرية خاطفة لا باستخدام اللغة، بل بالإمعان في النظر داخل الهواجس الإنسانية الهشة والمحطمة.
فلنتأمل الكتابة الساحرة في قوله: "كيف يمكن لشارع متواضع كشارعنا أن يفرز كل تلك النشوة لمجرد أنه تلألأ بالمطر؟ كيف يمكن لبقع المياه على الرصيف المغطاة بأوراق الشجر ويتعذر عبورها والأفنية الصغيرة المعشوشبة التي تنضح بمياه فيوض المزاريب تفوح برائحةٍ أن تنعش ابتهاجي وكأنني ولدت في غابة مطرية استوائية؟ كانت جادة سميث المشبعة ببريق ضوء ما بعد العاصفة تومضُ بالحياة كحيوان أليف، حيواني الأليف الناعم، نظفته سيول الأمطار وهو الآن يتمدد على طوله لكي يتشمس وسط النعيم." وأقتبس من العمل أيضًا" "اعتقدَ أحد أساتذتي أنني كنت أعاني من (أوهام العظمة) التي ألهمني بها ما كنتُ تعلمته في المدرسة عن سكة قطار تحت أرضية، أعدت قبل نشوب الحرب الأهلية لمساعدة العبيد على شق طريقهم نحو الشمال إلى الحرية.. لكن هذا غير صحيح أنا لم أكن أشبه أخي ساندي البتة، الذي كانت الفرصة تحث رغبته على أن يكون فتى في أعلى مستوى، يمتطي على متن التاريخ. أنا لم أرغب في أن تكون لي أي صلة بالتاريخ. أردتُ أن أكون فتى على أدنى مستوى ممكن. أردتُ أن أكون يتيمًا." لهذه الكتابة بالضبط، لا أستطيع أن أتخيل أعمال فيليب روث وقد تحولت لأعمال سينمائية وتلفزيونية، وعندما شاهدتُ ثلاث حلقات من المسلسل الذي حمل اسم هذه الرواية نفسها، شعرتُ بالامتنان لأنني أعرف روث عن طريق كتبه.
تملكني الفضول لمعرفة ردود فعل النقاد على الرواية عند صدورها في ٢٠٠٤، ربما تجعل السياقات الناجمة عن الأحداث المتوالية على العالم بعد تلك السنة، مبررًا للإيمان بأهمية الرواية، لكن كيف قرأ الناس الرواية عام ٢٠٠٤؟ يكتب بول بيرمان في ٣ أكتوبر عام ٢٠٠٤ في مقالة طويلة وملهمة عن الرواية: "كتب فيليب روث روايته هذه بنبرة رائعة مليئة بالاجترار والحزن - نغمة رجل مسن وحزين يتذكر طفولته، ثم مرة أخرى نبرة الباحث، كما لو كان الراوي في نضجه قد أصبح أستاذًا جامعيًا محترمًا، اعتاد على تثبيت كل حقيقة في مكانها بخفة. يتذكر الراوي أمسية صيفية عام 1940، عندما كان في السابعة من عمره. ذهب هو وشقيقه ساندي للنوم، بينما في غرفة أخرى، والدته ووالده وابن عمه ألفين يستمعون إلى إذاعة تبث تقارير حية من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في فيلادلفيا".
يتسلم الطيار ليندبيرغ المعروف بدعمه للنازية، الحكم في الرواية بعد انتخابات انتصرَ فيها على روزفلت ممثل الحزب الديمقراطي، مقنعًا الجماهير بأنه سيجنب أمريكا العظيمة الخوض في براثن الحرب التي تحدث في أوربا، وأن يحميهم هم وأبنائهم من الموت في أراض بعيدة عن بلدهم، لكن والد روث واحد من بين اليهوديين الذين كانوا يعرفون أنها مسألة وقت حتى يضطروا إما للهرب من أمريكا، أو الموت فيها كما حدث لأقرانهم في أوروبا.
أعيد الاهتمام والبحث عن هذه الرواية، مع تسلم ترامب للحكم في الفترة الانتخابية الماضية في أمريكا، خصوصًا مع تصاعد النفس اليميني والمحافظ في فترة حكمه.
كوندي ناست وصفها بأنها تحفة فنية من التاريخ المضاد، وما تؤكده هذه الرواية وما يهمني كثيرًا في كتابتي في هذه المرحلة أن الحياة اليومية مرتبطة بصورة كبيرة بالنظام السياسي العام، فمن خلال هذه الرواية يعيش الطفل روث تفاصيل حميمة، كما يصفها ناست، تعتمد حياة روث الطفل بشكل حاسم على السياسة. لكن هنالك جانبًا مهمًا تحيط به الرواية، وهي قابلية الثقافة الأمريكية والجماهير هناك لعبادة المشاهير في مدونة Roman Clodia يدفع هذه المؤامرة الهستيريا والجهل والحقد والغباء والكراهية والخوف، ويمكن إعادة اكتشاف هذا الكتاب بتأثيره الموضوعي لا في أمريكا فحسب ولكن في المملكة المتحدة إذا أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تقسيم البلاد، مما أعاد إلى المجال العام أجندة انعزالية مريعة تجاه الأجانب، أجندة تصفها بضيق الأفق فيما يتعلق بالحياة العامة.
ما يعجبني شخصيًا في مجمل أعمال فيليب روث التي قرأت: «سخط» و «الوصمة البشرية» و«حكاية أمريكية» و «رجل عادي» و الآن «التآمر على أمريكا» لا السياسة التي يستطيع التقاطها ليعكس المناخات التي تعيش فيها شخصياته، والتعقيدات الاجتماعية المرتبطة بهذه المناخات، بل نثر روث، الذي يلتقط أكثر التفاصيل حميمية على الرغم من الصبغة السياسية للعمل – فيكتب في حكاية أمريكية: ".. وهل هي مهتمة بالسياسة أيضًا؟ - بابا كل شيء سياسي. كيف يمكن ألا تكون مهتمة بالسياسة إن كان لها عقل؟" فالعلاقات والأسئلة التي تثيرها شخصياته باستمرار، تتدفق من نهر حساسية عالٍ وبصيرة تنفتح على اليومي والدقيق مثلما تكتب الشاعرة اللبنانية زينة هاشم بك: "دع عني فكرة قائمة الأحلام/أريد فقط أن أرسم الحلزون الصغير". الأمر الذي لا يستطيع تحقيقه كثير من الكتاب، فإما الحفاظ على مستوى القصة، أو مستوى الكتابة الفنية داخل العمل، لكنه وببراعة شديدة وبحساسية قل نظيرها، يؤلف بين الخاص والعام مما يجعلك متلهفًا لمراقبة تقدم السرد، ووحشته، بل وتصبحُ معنيًا حتى بما سيبدو بالنسبة لك سردًا يتعلق بتاريخ مجتمع آخر.
قد يعتبر بعض القراء أنهم غير معنيون بقراءة هزيمة الحلم الأمريكي، أو تأثير ما أطلق عليه النقاد في الثقافة الأمريكية "التفاؤل القاسي" على الشعب الأمريكي خصوصًا وأن الكاتب لا يتوقف عند حدود القصة البسيطة، بل يذهب وبتمهل شديد لقص أطرف وأصغر الأحداث المرتبطة بموضوع حكايته، لعل هذا منسجم وبصورة كبيرة مع رأيه حول الأدب، إذ لا يراه "مسابقة جمال أدبية" وهو الذي صرح في أكثر من حوار أجري معه بأن يحب القص، ولم يكن خجلًا يومًا منه. إذن دهشة سحر الأدب في سريان القصة، التي تعتمد على ومضات سحرية خاطفة لا باستخدام اللغة، بل بالإمعان في النظر داخل الهواجس الإنسانية الهشة والمحطمة.
فلنتأمل الكتابة الساحرة في قوله: "كيف يمكن لشارع متواضع كشارعنا أن يفرز كل تلك النشوة لمجرد أنه تلألأ بالمطر؟ كيف يمكن لبقع المياه على الرصيف المغطاة بأوراق الشجر ويتعذر عبورها والأفنية الصغيرة المعشوشبة التي تنضح بمياه فيوض المزاريب تفوح برائحةٍ أن تنعش ابتهاجي وكأنني ولدت في غابة مطرية استوائية؟ كانت جادة سميث المشبعة ببريق ضوء ما بعد العاصفة تومضُ بالحياة كحيوان أليف، حيواني الأليف الناعم، نظفته سيول الأمطار وهو الآن يتمدد على طوله لكي يتشمس وسط النعيم." وأقتبس من العمل أيضًا" "اعتقدَ أحد أساتذتي أنني كنت أعاني من (أوهام العظمة) التي ألهمني بها ما كنتُ تعلمته في المدرسة عن سكة قطار تحت أرضية، أعدت قبل نشوب الحرب الأهلية لمساعدة العبيد على شق طريقهم نحو الشمال إلى الحرية.. لكن هذا غير صحيح أنا لم أكن أشبه أخي ساندي البتة، الذي كانت الفرصة تحث رغبته على أن يكون فتى في أعلى مستوى، يمتطي على متن التاريخ. أنا لم أرغب في أن تكون لي أي صلة بالتاريخ. أردتُ أن أكون فتى على أدنى مستوى ممكن. أردتُ أن أكون يتيمًا." لهذه الكتابة بالضبط، لا أستطيع أن أتخيل أعمال فيليب روث وقد تحولت لأعمال سينمائية وتلفزيونية، وعندما شاهدتُ ثلاث حلقات من المسلسل الذي حمل اسم هذه الرواية نفسها، شعرتُ بالامتنان لأنني أعرف روث عن طريق كتبه.
تملكني الفضول لمعرفة ردود فعل النقاد على الرواية عند صدورها في ٢٠٠٤، ربما تجعل السياقات الناجمة عن الأحداث المتوالية على العالم بعد تلك السنة، مبررًا للإيمان بأهمية الرواية، لكن كيف قرأ الناس الرواية عام ٢٠٠٤؟ يكتب بول بيرمان في ٣ أكتوبر عام ٢٠٠٤ في مقالة طويلة وملهمة عن الرواية: "كتب فيليب روث روايته هذه بنبرة رائعة مليئة بالاجترار والحزن - نغمة رجل مسن وحزين يتذكر طفولته، ثم مرة أخرى نبرة الباحث، كما لو كان الراوي في نضجه قد أصبح أستاذًا جامعيًا محترمًا، اعتاد على تثبيت كل حقيقة في مكانها بخفة. يتذكر الراوي أمسية صيفية عام 1940، عندما كان في السابعة من عمره. ذهب هو وشقيقه ساندي للنوم، بينما في غرفة أخرى، والدته ووالده وابن عمه ألفين يستمعون إلى إذاعة تبث تقارير حية من المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في فيلادلفيا".