قبل أيام ورد خبر يقول إن مبيعات شركة شيؤومي الصينية من الهواتف الذكية قد تجاوز مبيعات شركة أبل الأمريكية من تلك الأجهزة، وذلك لأول مرة منذ بدأت الشركتان إنتاج الهواتف الذكية. لم يكن في ذلك الخبر ما يفاجئ، لأن الاقتصاد الصيني كله على وشك أن يتجاوز الاقتصاد الأمريكي بمقياس الناتج المحلي الإجمالي أو أنه ربما قد تجاوزه، لكن الخبر يكرر السؤال المثار عن السبب الذي يقف وراء تحقيق الصين وشركاتها نجاحات كبرى في السوق الدولية، لا سيما في العشرين سنة الأخيرة.

ومع التسليم بأن افتراض العمل في سوق دولية ذات منافسة تامة perfect competition هو افتراض غير واقعي، إلا إنه من المؤكد أن كلتا الشركتين تعملان في ظروف منافَسة شبه تامة أو بدون ممارسات احتكارية معيقة. بعبارة أخرى إن التجارة الدولية في الوقت الحاضر تنساب بشكل معقول في ظل اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، وإن التنافس بين الشركتين يتم دون عائق يعيق إحداهما على حساب الأخرى، خاصة خارج بلديهما، وأنهما لا تقومان بممارسة سياسة الإغراق، أي بيع منتجاتهما بسعر أقل من التكلفة.

خبر قدرة الشركة الصينية الصاعدة على تجاوز شركة أبل الأمريكية ذات الشهرة العالمية الواسعة في مبيعاتها وعلامتها التجارية المعروفة، أثار انتباهي إلى موضوع الإنتاجية التي هي السبب الرئيس وراء قدرة الشركات والدول على تحقيق المكاسب الاقتصادية والتوسع في الأسواق الدولية، سواء كان ذلك في حالات التنافس أو في حالات التكامل. ومن المعروف في علم الاقتصاد أن الإنتاج يعتمد بصورة عامة على أربعة عناصر هي الأرض والعمل ورأس المال وريادة الأعمال، وهذا العنصر الأخير يسميه بعض الاقتصاديين التنظيم أو المخاطرة. أمّا الإنتاجية فهي مقياس يقيس معدل ما يمكن الحصول عليه من الإنتاج مقابل ما يصرف للحصول على ذلك الإنتاج.

وتعرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD الإنتاجية بأنها النسبة بين حجم المدخلات والمخرجات في انتاج معين. أي أنها تقيس مدى كفاءة مدخلات عناصر الإنتاج، مثل العمل ورأس المال والتنظيم، للوصول إلى مستوى معين من الإنتاج في الاقتصاد. ولقياس درجة إنتاجية اقتصاد بلد ما تستخدم عدة طرق، أكثرها شيوعاً هي نسبة الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل. أما تحسين الإنتاجية فيعني القدرة على زيادة الإنتاج من غير حاجة إلى زيادة في الجهد أو في الموارد المستخدمة في ذلك الإنتاج. ويناقش هذا المقال إنتاجية العامل worker تحديدا وليس إنتاجية عناصر الإنتاج الأخرى، لأن إنتاجية العامل تتعلق بالمستوى الحقيقي للأجور وعلاقة ذلك بالرضا الوظيفي للعامل ومستوى رفاهيته، التي تنعكس بدورها على مستوى الرفاه العام في المجتمع.

كان موضوع إنتاجية العمال ودوافعها وأسباب ارتفاعها في بعض الاقتصادات والمجتمعات وتدنيها في اقتصادات ومجتمعات أخرى مثار اهتمام لدي منذ فترة، وأقصد هنا العمال عامة بغض النظر عن مهنهم ومستوياتهم الوظيفية أو القطاعات التي يعملون فيها. وفي سياق ذلك الاهتمام اقترحتُ على بعض الأصدقاء، ممن اعتقد أنهم على معرفة أوسع بالموضوع مني، القيام بدراسة للتحليل والمقارنة بين ما يسمى في الفكر الماركسي بنظرية "فائض القيمة" وبين الإنتاجية وعلاقتها بالأجور والدخول كما جاءت في كتابات بعض المفكرين الاقتصاديين المعاصرين مثل جوزيف ستيغليتز Joseph Stieglitz، لكن للأسف لم يتحقق ذلك حتى الآن، وما زالت الدعوة قائمة للباحثين، خاصة للأكاديميين منهم للبحث في هذا الموضوع.

يعتبر الاقتصاديون أن إنتاجية العامل هي أفضل مؤشر لتقييم الأداء سواء كان ذلك على مستوى المنشأة والاقتصاد الجزئي، أو على مستوى الاقتصاد الكلي. والإنتاجية هي المصدر الأساس للنمو الاقتصادي وللقدرة على المنافسة وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي في الدول. وعن أهمية إنتاجية العامل في تحسين مستوى المعيشة، يقول عالم الاقتصاد Paul Krugman الحاصل على جائزة نوبل: "إن قدرة أي بلد على تحسين مستوى المعيشة فيه مع مرور الوقت تعتمد بشكل شبه تام على قدرتها على زيادة المخرجات أو الإنتاج لكل عامل".

وإذا كان "الإنسان هو صانع التنمية وغايتها"، فإن الإنسان العامل هو أيضا العنصر الأهم في الإنتاجية، ويجب أن يكون هدفها تحسين مستوى معيشته وزيادة رفاهيته ورضاه. وفي حين إن الإدارة الجيدة وحسن التنظيم عاملان جوهريان في تحسين الإنتاجية على المستوى الجمعي، فإن إنتاجية العامل الفرد تعتمد، في رأيي على أربعة عناصر هي، التربية التي ينشأ عليها الإنسان، والثقافة التي يعيش فيها، والمهارات التي يتعلمها، والتقدير والاعتراف بالجهد الذي يبذله العامل ويكافأ عليه.

لذلك فإن تحسين إنتاجية العامل، وبالتالي زيادة إنتاجية الاقتصاد، تبدأ من البيت والأسرة عن طريق غرس قيم ومبادئ إعلاء شأن العمل لدى الإنسان وتنشئته على الأمانة والإخلاص منذ طفولته. كما أن تحسين الإنتاجية يعتمد بشكل كبير على ما يتلقاه الفرد من معارف ومهارات في مختلف المراحل التعليمية. لذلك من الضروري لزيادة الإنتاجية تحسين مستوى التعليم والارتقاء بالمهارات التي يتعلمها الطلاب بصفة مستمرة لتناسب متطلبات التطور في الحياة من مختلف جوانبها، حتى يتمكن في مرحلة لاحقة من عمره من الإسهام في صنع مستقبل أفضل للأجيال القادمة. وتعتمد الإنتاجية كذلك على الثقافة السائدة في المجتمع وما إذا كانت هي ثقافة تقدس العمل النافع وتشجع الاعتماد على النفس والتضحية من أجل الآخرين وتؤكد على إتقان العمل والإخلاص فيه، أم هي ثقافة تواكل وأنانية ولا مبالاة. ومن هنا يقع على عاتق كل المعنيين بالثقافة، سواء في الدولة أو في المجتمع توجيه الأفراد وإرشادهم و تحفيزهم نحو كل ما من شأنه إعلاء قيمة إتقان العمل والجد والإخلاص فيه. كذلك تعتمد الإنتاجية على مدى الاعتراف بجهد العامل وتقديره ومكافأته على ما ينجزه، سواء من قِبَل المؤسسة التي يعمل فيها أو من قبل الدولة أو المجتمع، لكي لا يحس بالغُبن وضياع الجهد، وينشأ بالتالي لديه نوع من اللامبالاة والحقد، خاصة نحو الذين هم في وضع وظيفي أو مادي أو اجتماعي أفضل من وضعه. وهذا الاعتراف والتقدير يجب أن لا يكون في إطار المنة والإحسان بل في إطار القانون، الذي يجب أن يكافئ المجد و يحاسب المقصر.

خلاصة القول إن الإنتاجية بقدر ما هي في المهارات والمعارف التي يتلقها الإنسان في المؤسسات التعليمية أو على رأس عمله في المؤسسة التي يعمل فيها، فإن جذورها هي في التربية والثقافة التي يتربى عليها وينشأ فيها، وهي كذلك تترسخ وتقوى بما يجده العامل من تقدير واعتراف له بما يبذله من جهد وعطاء على كل المستويات.

** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية