إذا كان رحيل مفكّر بحجم صادق جواد سليمان أوجعني، فالوجع الأكبر يتمثل في أن الكثير من فكره رحل معه! ولم يدوّن في كتب، يوازي ما أنتجه من أفكار يمكنها أن تسهم في صياغة رؤية معاصرة للمشروع النهضوي العربي، وتنشيط الحوار الحضاري، الذي شغله منذ مطلع التسعينيات، مع ظهور الصراعات، والتكتلات العالمية الكبرى، فكان من أبرز مؤسِّسي مركز الحوار العربي في واشنطن عام 1994م، أقول: لم يترك غير مقالات، وبحوث باللغتين العربية والإنجليزية، حاول من خلالها استقصاء جذور المشكلات التي يواجهها عالمنا المعاصر، ووجد أن الحلول تكمن في الفكر، والفلسفة، وقد كشفت كتاباته، ومحاضراته، ومشاركاته في الندوات عن حصيلة معرفيّة، عكست قراءاته العميقة في الأديان والثقافات المختلفة، والفكر الإنساني، والفلسفات القديمة، والمعاصرة، وكثيرا ما كانت أفكاره تخرج من إطارها النظري، لترسم له مسار سلوكه، فعاش أشبه بالمتصوفة، مديرا ظهره لمباهج الحياة، مكتفيا ببهجة المعرفة، لم يكن مهتما بمأكله، ومظهره الخارجي، ولكنه عندما يتكلم يبهر السامعين، وهذا ما شاهدته عندما تحدّث في أمسية جمعتنا في مركز "الحوار الإنساني" بلندن، فحين صعد المنصة، أحسب أن الجمهور لم ير غير شيخ نحيل طاعن في السن، يرتدي الدشداشة العمانية، وعصابة يلفّ بها رأسه، وبصوت خفيض أقرب ما يكون للهمس، تحدّث محللا واحدة ابن زريق البغدادي التي قرأها عن ظهر قلب:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقّا ولكن ليس يسمعه
فإذا به يستحوذ على أسماع الجمهور الذين صفّقوا له بحرارة، ولسان حاله يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
ومثلما كان بارعا في الحديث، كان يجيد الإصغاء، ويترك المتحدّث يقول كلّ ما لديه، ثمّ يتكلّم بهدوء، ليبدي وجهة نظره المخالفة، لما سمع، ودائما ما تكون الحكمة العمانيّة حاضرة، ومما أذكره من تلك الرحلة، قبل أكثر من عشر سنوات، مرورنا بأحد الشوارع في كمبردج، فشاهدنا متسولا يفترش جانب الرصيف، وبحضنه كلب، وأمامه قارورة جعة، فبادر أحد الأصدقاء، وتصدّق عليه بما يتيسّر، وأردت أن أعرف تعليقه على ذلك الموقف، فسألته: هل يعدّ ما قام به زميلنا صدقة؟ فقال: لم لا؟ علينا أن نقف مع عمل الخير مهما كان وجه الصرف، ووضع المقابل، سدّ الحاجة الإنسانية، بكلّ أشكالها عمل يستحقّ أن نحيي من يقوم به.
وكان يراهن على الوعي المجتمعي، ويؤكد على العناصر الداعمة لارتقاء الفكر، وضرورة إثراء رصيدنا المعرفي، فهذا من شأنه، كما يقول في واحد من أحاديثه "تطويِر قدراتنا العملية، وتمكيننا من إنجاز تقدم كمي ونوعي معا في ترادف واتساق وتأصيل المعرفة كقيمة مُتصدرة بين القيم التي نعتد بها، ونحتكم إليها، ونستبصر بمعطاها في تدبير ما يَعنينا من شؤون عامة وخاصة".
وكان ينظر للأحداث من زاوية مختلفة، فعندما حلّت الجائحة، وفرضت على الكون نظاما جديدا وهو التباعد الاجتماعي، رأى العكس ، فالجائحة لم تجعل البشر متباعدين، سوى في الحيز الجغرافي، أما لو نظرنا إليها من منظور أوسع، فقد قرّبت بين الشعوب، من حيث أن الوباء جعل البشرية تواجه مصيرا مشتركا وهذا التحول من شأنه أن يسهم في إثراء الحوار الحضاري الذي ظلّ شغله الشاغل، ووجد به كل الحلول.
هذه الأفكار كانت تفيض من أحاديثه، في لقاءاتنا التي بدأت منذ سنوات بعيدة، عندما اعتدنا الانضمام لجلسة يرتّب لها د.عبدالكريم جواد في مقهى بمنطقة " الخوير" مساء كلّ خميس، بمشاركة دائرة ضيقة من الأدباء، والفنانين، وكنا نصغي لأفكاره التي تتدفق من لسانه، في نسق أقرب ما يكون للثقافة الشفاهية، ويبدو أن الباحث بدر العبري انتبه لهذا، فقام بتسجيل عدد من الحلقات بقناته "أنس"، ونشرها في (اليوتيوب)، وكان لنا نصيب من محاورته، بصحبة الشاعر وسام العاني في برنامجنا "كتاب مفتوح" مساء 18 من مارس الماضي لمركز حدائق الفكر للثقافة، بحلقة حملت عنوان "مداخل فلسفيّة في الفكر المعاصر"، ويومها تجلّى، وتدفّقت أفكاره كماء نهر ينساب عذوبة، وحين يرحل مفكّر بهذا المستوى المعرفي، حاملا معه إلى مثواه الأخير معارفه، ومغامراته الفكرية، ومخطّطا، وفصولا لرواية عكف على كتابتها منذ سنوات باللغة الإنجليزية، لابدّ أن نستحضر مقولة تنسب لأمادو تعود جذورها لمثل أفريقي هي "عندما يرحل رجل مسنّ فكأنما تحترق مكتبة بأكملها"، ويكون واجبا علينا، كأفراد، ومؤسسات جمع أحاديثه، ومقالاته، لتأخذ مكانها في مكتبة الفكر الإنساني، التي ستضاء بفكره النيّر.
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقّا ولكن ليس يسمعه
فإذا به يستحوذ على أسماع الجمهور الذين صفّقوا له بحرارة، ولسان حاله يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور
ومثلما كان بارعا في الحديث، كان يجيد الإصغاء، ويترك المتحدّث يقول كلّ ما لديه، ثمّ يتكلّم بهدوء، ليبدي وجهة نظره المخالفة، لما سمع، ودائما ما تكون الحكمة العمانيّة حاضرة، ومما أذكره من تلك الرحلة، قبل أكثر من عشر سنوات، مرورنا بأحد الشوارع في كمبردج، فشاهدنا متسولا يفترش جانب الرصيف، وبحضنه كلب، وأمامه قارورة جعة، فبادر أحد الأصدقاء، وتصدّق عليه بما يتيسّر، وأردت أن أعرف تعليقه على ذلك الموقف، فسألته: هل يعدّ ما قام به زميلنا صدقة؟ فقال: لم لا؟ علينا أن نقف مع عمل الخير مهما كان وجه الصرف، ووضع المقابل، سدّ الحاجة الإنسانية، بكلّ أشكالها عمل يستحقّ أن نحيي من يقوم به.
وكان يراهن على الوعي المجتمعي، ويؤكد على العناصر الداعمة لارتقاء الفكر، وضرورة إثراء رصيدنا المعرفي، فهذا من شأنه، كما يقول في واحد من أحاديثه "تطويِر قدراتنا العملية، وتمكيننا من إنجاز تقدم كمي ونوعي معا في ترادف واتساق وتأصيل المعرفة كقيمة مُتصدرة بين القيم التي نعتد بها، ونحتكم إليها، ونستبصر بمعطاها في تدبير ما يَعنينا من شؤون عامة وخاصة".
وكان ينظر للأحداث من زاوية مختلفة، فعندما حلّت الجائحة، وفرضت على الكون نظاما جديدا وهو التباعد الاجتماعي، رأى العكس ، فالجائحة لم تجعل البشر متباعدين، سوى في الحيز الجغرافي، أما لو نظرنا إليها من منظور أوسع، فقد قرّبت بين الشعوب، من حيث أن الوباء جعل البشرية تواجه مصيرا مشتركا وهذا التحول من شأنه أن يسهم في إثراء الحوار الحضاري الذي ظلّ شغله الشاغل، ووجد به كل الحلول.
هذه الأفكار كانت تفيض من أحاديثه، في لقاءاتنا التي بدأت منذ سنوات بعيدة، عندما اعتدنا الانضمام لجلسة يرتّب لها د.عبدالكريم جواد في مقهى بمنطقة " الخوير" مساء كلّ خميس، بمشاركة دائرة ضيقة من الأدباء، والفنانين، وكنا نصغي لأفكاره التي تتدفق من لسانه، في نسق أقرب ما يكون للثقافة الشفاهية، ويبدو أن الباحث بدر العبري انتبه لهذا، فقام بتسجيل عدد من الحلقات بقناته "أنس"، ونشرها في (اليوتيوب)، وكان لنا نصيب من محاورته، بصحبة الشاعر وسام العاني في برنامجنا "كتاب مفتوح" مساء 18 من مارس الماضي لمركز حدائق الفكر للثقافة، بحلقة حملت عنوان "مداخل فلسفيّة في الفكر المعاصر"، ويومها تجلّى، وتدفّقت أفكاره كماء نهر ينساب عذوبة، وحين يرحل مفكّر بهذا المستوى المعرفي، حاملا معه إلى مثواه الأخير معارفه، ومغامراته الفكرية، ومخطّطا، وفصولا لرواية عكف على كتابتها منذ سنوات باللغة الإنجليزية، لابدّ أن نستحضر مقولة تنسب لأمادو تعود جذورها لمثل أفريقي هي "عندما يرحل رجل مسنّ فكأنما تحترق مكتبة بأكملها"، ويكون واجبا علينا، كأفراد، ومؤسسات جمع أحاديثه، ومقالاته، لتأخذ مكانها في مكتبة الفكر الإنساني، التي ستضاء بفكره النيّر.