«لقد كان العنف موجودًا دومًا. إنَّه اتِّصال»
--أَلْفْرد هِتْشْكُكْAlfred Hitchcock –
ينبثق القطار من اللامكان فجأة ويتحرَّك حثيثًا من المسافة القريبة، فيصبح في لمح البصر قريبًا -بصورة منذرة بالخطر- من الحشد البشري الذي لا حول له ولا قوَّة. يذعَر التَّجمع لذلك السبب الوجيه، ويحاول النَّاس غريزيًّا من خلال اتِّخاذ أوضاعٍ ومبادرات جسديَّة دفاعيَّة أن يناوروا ليجنِّبوا أنفسهم السَّحق تحت عجلات الخطر الماحق. هكذا كان الحال في مساء الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1895 حيث شاهد أول متفرِّجين سينمائيِّين في التَّاريخ أول فيلم سينمائي، وهو "وصول قطار إلى محطَّة" للأخوين لوميير Lumiere Brothers. وبذلك فإنه، وبصورة واضحة للغاية، عمَّد العنف والرُّعب اللذين عُويِشا جسديًّا ومباشرةً ميلاد السِّينما، فكانت الجسدانيَّة (corporeality) من أهم عناصر الاتصال بين المتفرِّج والشَّاشة؛ لكن ذلك العنف لم يكن – للمفارَقة --شيئا غير الإثارة التي تسبِّبها فوريَّة الاتِّصال النَّاجمة عن الأداة البصريَّة الجديدة. وإذا كان الجمهور الفرنسي في "عاصمة الأنوار" لأول فيلم سينمائي في التاريخ، قد هلعوا، في العام 1895، من صورة القطار المتحرِّك أمامهم، بحيث أنهم ظنَّوا أن القطار المجنون سيخرج من الشاشة ويسحقهم تحت عجلاته على مقاعدهم لا محالة، ولذلك تراجعوا إلى الخلف خائفين، فإن أقرانهم العُمانيِّين الذين كانوا يشاهدون إحدى النُّسخ السينمائيَّة التنويعيَّة على قصَّة عنتر وعبلة المعروفة في تراث الحب والفروسيَّة العربي، وذلك لأوَّل مرَّة سينمائيَّة جماهيريَّة في مدينة صُحار في سبتمبر عام 1970، قد فعلوا الشيء نفسه، إذ ذُعروا بدورهم من هول المُورياتِ قدْحًا المُثيرات نقعًا المنطلقات من خلفيِّة الكادر إلى مقدِّمته، فانكمشوا في أوضاع دفاعيَّة من قبيل حماية الجبهة بالقبضات، وتغطية الوجه بالكفوف، وذلك بغية اتِّقاء الخيول الهائجة التي بدت وكأنَّها ستخرج من الشَّاشة إليهم لتسحقهم تحت حوافرها. وفي هذه المقارنة بين ما حدث في باريس (في عام 1895) وما حدث في صُحار (في عام 1970) بفاصل زمنيٍّ قدره خمسة وسبعون عامًا ما يجعل من المعيش الجسدي للرُّعب السينمائيِّ قاسمًا كونيًّا وإنسانيًّا مشتَركًا.
وحقَّا فإنه بعد أكثر من قرن وربع من تلك الَّليلة التاريخيِّة في باريس، ونصف قرن على ما حدث في صحار، لا يزال العنف والرُّعب توقيعَين معتمَديْن للسِّينما عبر مختلف الأشكال والطُّرق. وسأجادل هنا أنَّ إحالتي التَّمَثُّلِيَّة لـ"قطار" الأخوين لوميير، وكذلك لما حدث في صحار، له صِلة بأفلام المخرج الأمريكيِّ آرثر بِنْ Arthur Penn.
ومع أنَّ أفلام بِنْ ليست من الأعمال المُعَمَّدَة بعدُ (وهذا تعليق مؤسف ليس حول نوعيَّة أفلام المخرِج نفسها، بل حول وضع الأكاديميا المؤسفة بعض إخفاقاته فيما يخصُّ الدِّراسات السينمائيَّة في الولايات المتَّحدة)، فإن الخطاب النَّقديَّ المهيمن فيما يتعلَّق بأعمال ذلك الفنَّان يتبع ميول ونزوات النَّظريَّة السِّينمائيَّة بدلًا من أن يُرينا درجة كافية من الحسَّاسيَّة الخاصَّة للمتطلبات المحدَّدَة، والأدوات الاستثنائيَّة، التي تطرحها أفلامه. ووفقًا لذلك فقد أصبح مْوْضَوِيًّا (من "الموضة") اعتبار بِنْ فنَّانا حداثيَّا ينبغي أن تُقرأ أعماله بوصفها بحوثا ميتا-سينمائيَّة وتعليقات بصريَّة تخص موضوعات الانعكاسيَّة الذَّاتيَّة، والأسطرة، وذلك من خلال صناعة الأفلام. هذه، على سبيل المثال، هي الطَّريقة الَّتي يُؤوِّل بها دوغلَس برود Douglas Brode المشهد الذي يلتقط فيه أعضاء عصابة بِرو صوراً فوتوغرافيَّة لبعضهم البعض في فيلم "بوني وكلايد" (1967)؛ فهو يحاجج بصورة مقنِعة للغاية أن "تصوير بعضهم البعض، والذي بدأ بوصفه محاولة جادَّة لتوثيق واقع تجربتهم، يتحول إلى تمرين على الأسطرة، وهذا ينطبق أيضا على المُخرِج الذي "يصوِّر" بوني وكلايد [في الفيلم]" (1). وفي سياق مشابه يصنِّف فوستر هِرْش Foster Hirsc بِنْ مخرِجا "تعديليًّا حرَّ الضَّمير" يسعى لأن "يضفي... نكهة حديثة بصورة جليَّة" كي يؤسس أجناسًا سينمائيَّة مثل المُخْبِر الخصوصيِّ، وأفلام الغرب الأمريكيِّ، وأفلام العصابات (2). وبالمِثل فإن ماثيو بِرنستاين Matthew Bernstein يجري تحليلا نصيَّا دقيقا صَبورا لفيلم "بوني وكلايد" مستهلًّا إياه باقتراح أنَّ "اللقطات الخمس الأولى [في الفيلم] تشكِّل واحدًا من أجرأ المشاهِد الممتدَّة [sequences] وأكثرها تنافرا في تاريخ السِّينما الأمريكيَّة"، وهذا زعمٌ لا يتوانى بِرنستاين عن الكَدِّ لإثباته في بقية دراسته (3). وهناك نقاشات بارعة ومهمَّة بصورة مساوية عن أفلام بِنْ تركِّز على التَّأدية (بمعنى performance، وليس على الأداء بمعنى acting) بوصفها هويَّة، والهويَّة بوصفها تأديةً، وعلى الجنسانيَّة بوصفها تأديةً، والتَّأدية بوصفها ممارسة جنسيَّة. وما قام به برود، وهِرْش، وبِرنستاين، وغيرهم من غوصٍ "عميق" في أفلام المخرِج هو مضيء بالطَّبع، ومثمر، وجدير بكلِّ الثَّناء. بَيْدَ أن ما يستوقف المرء بصورة غريبة أنَّ هذا النَّوع من مناولة التَّضمينات الدَّقيقة المختبئة تحت سطح أفلام بِنْ يبدو وكأنه قد استأثر بنصيب الأسد في النِّقاشات النَّقديَّة، بينما– للمفارَقة- لا يزال البعض مما هو "واضح" من جوانب أفلامه مقصيَّا بصورة ملحوظة من أي تحليل نقديٍّ نظاميِّ وشامل، وتجليَّات العنف في تلك الأفلام هي بالتأكيد واحدٌ من الجوانب التي لحقها البخس.
لا أدّعي هنا أنَّ العنف في أفلام بِنْ لم يُدرَس أبدا وعلى الإطلاق؛ فالحقيقة أن هناك عددا من المقالات الانطباعيَّة (على طريقة النُّقاد السِّينمائيين في الصُّحف اليوميَّة والمجلَّات السَّيَّارة)، وكذلك الأبحاث الأكاديميَّة في المطبوعات المتخصِّصة حول ذلك. لكني أقول إنَّ الأمر لم يُدرَس بما فيه الكفاية والعمق، وأن هكذا دراسة وافية ستكون مهمَّة بصورة حاسمة إذا ما كنَّا بصدد الانطلاق لتحليل الجوانب الأكثر تشابكاً وتعقيداً في أفلام بِنْ مثل جلاء العنف بصورة غير تقليديَّة وغير قياسيَّة؛ أي أنِّي لا أعني الوفرة الدمويَّة والإثاريَّة التي نعرفها في أفلام العنف بوصفها نوعًا سينمائيًا، وأفلام الرُّعب باعتبارها نوعًا سينمائيَّا، وتنويعاتهما واشتقاقاتهما وتفرُّعاتهما التَّجنيسيَّة، فما هو "جليٌّ"، إذا ما دُرِس بصورة غائرة قد يبوح بما يقع وراء نطاق الظَّاهريِّ.
وفي هذا يستوقفني روبِن وُدْRobin Wood حين يقول: إن أفلام بِنْ "تنقُل "إحساسًا" فيزيقيًّا إلى المتفرِّج"، فذلك "الإحساس الفيزيقيُّ"، وهو تجلٍّ للفوريَّة الجسديَّة، يتركَّز حول "جوهر فنِّ [بِنْ]، أي "الوعي الحادُّ بالتَّعبير الفيزيقي، وتوكيده" (4). تجعلني محاججة وُدْ هذه أستحضر "قطار" الأخوين لوميير المؤسِّس (وستجدينا نفعا خيول عنترة بن شدَّاد العبسي أيضا)، لكن ذلك "التَّعبير الفيزيقيَّ" يبدو لي عبارة مُخَفَّفة ومائعة بعض الشيء لما كان في بال وُدْ؛ فهو، من أجل أن يدعم محاججته، يضرب مثالا حادًّا مأخوذا من فيلم بِن "المطارَدة". ما يحدث هنا أن المرأة الهستيريَّة والثَّملة ميري فُلَر (أدَّت دورها مارثا هايِر Martha Hyer) تحشو فمها جزءًا من عقد اللؤلؤ الذي كانت ترتديه وتعُّض عليه (5). ينبغي منَّا هنا أن نفهم عبارة وُدْ "التَّعبير الفيزيقيُّ" في سياق قوله إن أفلام بِنْ تحتوي على "المعالجة الأكثر تعقيدًا ونضجًا للعنف في السِّينما الأمريكيَّة" (6). وحقًّا فإنه بينما يكون "التَّعبير الفيزيقيُّ" دالًّا على نفسِه بنفسه بوصفه أحد مكوِّنات التعبير في المثال المضروب من فيلم "المطارَدة"، فإنَّ من الواضح أنَّ ذلك التعبير يبوح أيضًا بتدميريَّةٍ مباشرةٍ وعنف بيِّنٍ. وللمادة صلة.
(1). Douglas Brode, Money, Women, and Guns: Crime Movies from Bonnie and Clyde to the Present (New York: Citadel, 1995), 19.
(2). Foster Hirsch, Film Noir: The Dark Side of the Screen (New York: Da Capo Press (1981), 205.
3). Matthew Bernstein, “Model Criminals: Visual Style in Bonnie and Clyde,” in Lester Ferman, ed., Arthur Penn’s Bonnie and Clyde (Cambridge: Cambridge Film Handbooks, 1999), 101.
(4). Robin Wood, Arthur Penn (New York: Frederick A. Praeger, 1970), 6.
(5). المصدر السَّابق نفسه، 7.
.(6) المصدر السَّابق نفسه، 12.
--أَلْفْرد هِتْشْكُكْAlfred Hitchcock –
ينبثق القطار من اللامكان فجأة ويتحرَّك حثيثًا من المسافة القريبة، فيصبح في لمح البصر قريبًا -بصورة منذرة بالخطر- من الحشد البشري الذي لا حول له ولا قوَّة. يذعَر التَّجمع لذلك السبب الوجيه، ويحاول النَّاس غريزيًّا من خلال اتِّخاذ أوضاعٍ ومبادرات جسديَّة دفاعيَّة أن يناوروا ليجنِّبوا أنفسهم السَّحق تحت عجلات الخطر الماحق. هكذا كان الحال في مساء الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1895 حيث شاهد أول متفرِّجين سينمائيِّين في التَّاريخ أول فيلم سينمائي، وهو "وصول قطار إلى محطَّة" للأخوين لوميير Lumiere Brothers. وبذلك فإنه، وبصورة واضحة للغاية، عمَّد العنف والرُّعب اللذين عُويِشا جسديًّا ومباشرةً ميلاد السِّينما، فكانت الجسدانيَّة (corporeality) من أهم عناصر الاتصال بين المتفرِّج والشَّاشة؛ لكن ذلك العنف لم يكن – للمفارَقة --شيئا غير الإثارة التي تسبِّبها فوريَّة الاتِّصال النَّاجمة عن الأداة البصريَّة الجديدة. وإذا كان الجمهور الفرنسي في "عاصمة الأنوار" لأول فيلم سينمائي في التاريخ، قد هلعوا، في العام 1895، من صورة القطار المتحرِّك أمامهم، بحيث أنهم ظنَّوا أن القطار المجنون سيخرج من الشاشة ويسحقهم تحت عجلاته على مقاعدهم لا محالة، ولذلك تراجعوا إلى الخلف خائفين، فإن أقرانهم العُمانيِّين الذين كانوا يشاهدون إحدى النُّسخ السينمائيَّة التنويعيَّة على قصَّة عنتر وعبلة المعروفة في تراث الحب والفروسيَّة العربي، وذلك لأوَّل مرَّة سينمائيَّة جماهيريَّة في مدينة صُحار في سبتمبر عام 1970، قد فعلوا الشيء نفسه، إذ ذُعروا بدورهم من هول المُورياتِ قدْحًا المُثيرات نقعًا المنطلقات من خلفيِّة الكادر إلى مقدِّمته، فانكمشوا في أوضاع دفاعيَّة من قبيل حماية الجبهة بالقبضات، وتغطية الوجه بالكفوف، وذلك بغية اتِّقاء الخيول الهائجة التي بدت وكأنَّها ستخرج من الشَّاشة إليهم لتسحقهم تحت حوافرها. وفي هذه المقارنة بين ما حدث في باريس (في عام 1895) وما حدث في صُحار (في عام 1970) بفاصل زمنيٍّ قدره خمسة وسبعون عامًا ما يجعل من المعيش الجسدي للرُّعب السينمائيِّ قاسمًا كونيًّا وإنسانيًّا مشتَركًا.
وحقَّا فإنه بعد أكثر من قرن وربع من تلك الَّليلة التاريخيِّة في باريس، ونصف قرن على ما حدث في صحار، لا يزال العنف والرُّعب توقيعَين معتمَديْن للسِّينما عبر مختلف الأشكال والطُّرق. وسأجادل هنا أنَّ إحالتي التَّمَثُّلِيَّة لـ"قطار" الأخوين لوميير، وكذلك لما حدث في صحار، له صِلة بأفلام المخرج الأمريكيِّ آرثر بِنْ Arthur Penn.
ومع أنَّ أفلام بِنْ ليست من الأعمال المُعَمَّدَة بعدُ (وهذا تعليق مؤسف ليس حول نوعيَّة أفلام المخرِج نفسها، بل حول وضع الأكاديميا المؤسفة بعض إخفاقاته فيما يخصُّ الدِّراسات السينمائيَّة في الولايات المتَّحدة)، فإن الخطاب النَّقديَّ المهيمن فيما يتعلَّق بأعمال ذلك الفنَّان يتبع ميول ونزوات النَّظريَّة السِّينمائيَّة بدلًا من أن يُرينا درجة كافية من الحسَّاسيَّة الخاصَّة للمتطلبات المحدَّدَة، والأدوات الاستثنائيَّة، التي تطرحها أفلامه. ووفقًا لذلك فقد أصبح مْوْضَوِيًّا (من "الموضة") اعتبار بِنْ فنَّانا حداثيَّا ينبغي أن تُقرأ أعماله بوصفها بحوثا ميتا-سينمائيَّة وتعليقات بصريَّة تخص موضوعات الانعكاسيَّة الذَّاتيَّة، والأسطرة، وذلك من خلال صناعة الأفلام. هذه، على سبيل المثال، هي الطَّريقة الَّتي يُؤوِّل بها دوغلَس برود Douglas Brode المشهد الذي يلتقط فيه أعضاء عصابة بِرو صوراً فوتوغرافيَّة لبعضهم البعض في فيلم "بوني وكلايد" (1967)؛ فهو يحاجج بصورة مقنِعة للغاية أن "تصوير بعضهم البعض، والذي بدأ بوصفه محاولة جادَّة لتوثيق واقع تجربتهم، يتحول إلى تمرين على الأسطرة، وهذا ينطبق أيضا على المُخرِج الذي "يصوِّر" بوني وكلايد [في الفيلم]" (1). وفي سياق مشابه يصنِّف فوستر هِرْش Foster Hirsc بِنْ مخرِجا "تعديليًّا حرَّ الضَّمير" يسعى لأن "يضفي... نكهة حديثة بصورة جليَّة" كي يؤسس أجناسًا سينمائيَّة مثل المُخْبِر الخصوصيِّ، وأفلام الغرب الأمريكيِّ، وأفلام العصابات (2). وبالمِثل فإن ماثيو بِرنستاين Matthew Bernstein يجري تحليلا نصيَّا دقيقا صَبورا لفيلم "بوني وكلايد" مستهلًّا إياه باقتراح أنَّ "اللقطات الخمس الأولى [في الفيلم] تشكِّل واحدًا من أجرأ المشاهِد الممتدَّة [sequences] وأكثرها تنافرا في تاريخ السِّينما الأمريكيَّة"، وهذا زعمٌ لا يتوانى بِرنستاين عن الكَدِّ لإثباته في بقية دراسته (3). وهناك نقاشات بارعة ومهمَّة بصورة مساوية عن أفلام بِنْ تركِّز على التَّأدية (بمعنى performance، وليس على الأداء بمعنى acting) بوصفها هويَّة، والهويَّة بوصفها تأديةً، وعلى الجنسانيَّة بوصفها تأديةً، والتَّأدية بوصفها ممارسة جنسيَّة. وما قام به برود، وهِرْش، وبِرنستاين، وغيرهم من غوصٍ "عميق" في أفلام المخرِج هو مضيء بالطَّبع، ومثمر، وجدير بكلِّ الثَّناء. بَيْدَ أن ما يستوقف المرء بصورة غريبة أنَّ هذا النَّوع من مناولة التَّضمينات الدَّقيقة المختبئة تحت سطح أفلام بِنْ يبدو وكأنه قد استأثر بنصيب الأسد في النِّقاشات النَّقديَّة، بينما– للمفارَقة- لا يزال البعض مما هو "واضح" من جوانب أفلامه مقصيَّا بصورة ملحوظة من أي تحليل نقديٍّ نظاميِّ وشامل، وتجليَّات العنف في تلك الأفلام هي بالتأكيد واحدٌ من الجوانب التي لحقها البخس.
لا أدّعي هنا أنَّ العنف في أفلام بِنْ لم يُدرَس أبدا وعلى الإطلاق؛ فالحقيقة أن هناك عددا من المقالات الانطباعيَّة (على طريقة النُّقاد السِّينمائيين في الصُّحف اليوميَّة والمجلَّات السَّيَّارة)، وكذلك الأبحاث الأكاديميَّة في المطبوعات المتخصِّصة حول ذلك. لكني أقول إنَّ الأمر لم يُدرَس بما فيه الكفاية والعمق، وأن هكذا دراسة وافية ستكون مهمَّة بصورة حاسمة إذا ما كنَّا بصدد الانطلاق لتحليل الجوانب الأكثر تشابكاً وتعقيداً في أفلام بِنْ مثل جلاء العنف بصورة غير تقليديَّة وغير قياسيَّة؛ أي أنِّي لا أعني الوفرة الدمويَّة والإثاريَّة التي نعرفها في أفلام العنف بوصفها نوعًا سينمائيًا، وأفلام الرُّعب باعتبارها نوعًا سينمائيَّا، وتنويعاتهما واشتقاقاتهما وتفرُّعاتهما التَّجنيسيَّة، فما هو "جليٌّ"، إذا ما دُرِس بصورة غائرة قد يبوح بما يقع وراء نطاق الظَّاهريِّ.
وفي هذا يستوقفني روبِن وُدْRobin Wood حين يقول: إن أفلام بِنْ "تنقُل "إحساسًا" فيزيقيًّا إلى المتفرِّج"، فذلك "الإحساس الفيزيقيُّ"، وهو تجلٍّ للفوريَّة الجسديَّة، يتركَّز حول "جوهر فنِّ [بِنْ]، أي "الوعي الحادُّ بالتَّعبير الفيزيقي، وتوكيده" (4). تجعلني محاججة وُدْ هذه أستحضر "قطار" الأخوين لوميير المؤسِّس (وستجدينا نفعا خيول عنترة بن شدَّاد العبسي أيضا)، لكن ذلك "التَّعبير الفيزيقيَّ" يبدو لي عبارة مُخَفَّفة ومائعة بعض الشيء لما كان في بال وُدْ؛ فهو، من أجل أن يدعم محاججته، يضرب مثالا حادًّا مأخوذا من فيلم بِن "المطارَدة". ما يحدث هنا أن المرأة الهستيريَّة والثَّملة ميري فُلَر (أدَّت دورها مارثا هايِر Martha Hyer) تحشو فمها جزءًا من عقد اللؤلؤ الذي كانت ترتديه وتعُّض عليه (5). ينبغي منَّا هنا أن نفهم عبارة وُدْ "التَّعبير الفيزيقيُّ" في سياق قوله إن أفلام بِنْ تحتوي على "المعالجة الأكثر تعقيدًا ونضجًا للعنف في السِّينما الأمريكيَّة" (6). وحقًّا فإنه بينما يكون "التَّعبير الفيزيقيُّ" دالًّا على نفسِه بنفسه بوصفه أحد مكوِّنات التعبير في المثال المضروب من فيلم "المطارَدة"، فإنَّ من الواضح أنَّ ذلك التعبير يبوح أيضًا بتدميريَّةٍ مباشرةٍ وعنف بيِّنٍ. وللمادة صلة.
(1). Douglas Brode, Money, Women, and Guns: Crime Movies from Bonnie and Clyde to the Present (New York: Citadel, 1995), 19.
(2). Foster Hirsch, Film Noir: The Dark Side of the Screen (New York: Da Capo Press (1981), 205.
3). Matthew Bernstein, “Model Criminals: Visual Style in Bonnie and Clyde,” in Lester Ferman, ed., Arthur Penn’s Bonnie and Clyde (Cambridge: Cambridge Film Handbooks, 1999), 101.
(4). Robin Wood, Arthur Penn (New York: Frederick A. Praeger, 1970), 6.
(5). المصدر السَّابق نفسه، 7.
.(6) المصدر السَّابق نفسه، 12.