عبدالرزّاق الربيعي

وسط ضجيج الحياة، وتشعّب منعطفاتها، وتشابك العلاقات الاجتماعية، نحتاج بين حين، وآخر لخلوة، نعيد خلالها ترتيب أوراقنا المبعثرة، ومراجعة الذات، وتأمّل موجوداتها، وإذا كان الفرد، بعد أن اندمج مع المجموع، وتناغم مع المحيط، صار من الصعب عليه أن ينتزع نفسه منه، ليتمتّع بعزلة مضيئة تمكّنه من كلّ ذلك، بحكم الارتباطات المتعدّدة، فلم يعد يتمكّن من الظفر بعزلة، مثلما في السابق، عندما كان من اليسير على الإنسان إغلاق الباب عليه، والاعتكاف، ولكن بعد التطوّر التكنولوجي، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، تعقّد الوضع، وانتُهكت الخصوصيّة الفرديّة، وصار الإنسان بين خيارين أحلاهما مرّ؛ الأوّل الجري مع الراكضين في مضمار هذه المواقع، مشاركا الجميع في مناسباتهم، وأفراحهم، وأتراحهم، والتعليق على ما يشغلهم، وفي ذلك هدر للكثير من الوقت!، أمّا الخيار الثاني، فهو الابتعاد عنها، وتحمّل عتب الأهل، والأصدقاء!

وفي النهاية لابدّ من انتهاج الخيار المناسب، ومصارحة الأصدقاء، كما فعلت الروائيّة، والمترجمة لطفية الدليمي، عندما كتبت منشورا في صفحتها اعتذرت به عن الظهور في الفضائيات، والندوات، والمقابلات عبر منصة زووم أو سواها، وشمل اعتذارها استقبال المكالمات على المسنجر الذي قالت إنه "خصّص للعائلة، والعمل، وقلة من المقربين. وبدقائق قليلة جدا" وأوضحت أنّها اتخذت هذا القرار، لأنّ وقتها ثمين، وانشغالاتها عديدة، وللعمر أحكامه، وكما تقول في منشورها "زهدت الروح فيما لايضيف للعقل إضاءة، أودهشة، أوثراء فكريّا، أو مزيدا من التساؤلات" مختتمة منشورها بقولها" المشكلة في مجتمعاتنا: ليست هناك مراعاة لخصوصية كل فرد منّا وعمره وانشغالاته ومتاعبه وكأن المرء كائن هلامي متاح للتشكل مع الطلبات في أيّ وقت"، وهنا مربط الفرس!، وهذا ليس وليد ظرف آني، فقد سبق أن تواصلتْ معي مؤسّسة ثقافيّة عمانية، لدعوتها لإلقاء محاضرة فيها، ونقلت للصديقة الكاتبة تلك الدعوة بتكليف من المؤسسة التي تكفّلت بتحمّل نفقات السفر على الدرجة الأولى مع مرافق، والإقامة، وتقديم مكافأة مجزية لها، ولكنّها اعتذرت برسالة يوم١٢ فبراير ٢٠٢٠، للأسباب نفسها، موجّهة كلمة شكر للمؤسّسة، ومديرها هذا الكرم، والرقي، والسخاء الروحي.

وطبعا، مثل هذه الدعوات الكريمة يسيل لعاب البعض لها، لكنّ كاتبتنا اعتذرت عن قبولها، رغم علمي أنها لاتملك مصدر دخل ثابت، سوى عوائد مقالاتها، وكتبها، وهو عائد شحيح، كما نعلم، لكن بالنسبة لها الانصراف لمشروعها الثقافي أحبّ إليها من السفر، والمشاركات التي تستنزف وقتها، فالكاتب يحتاج إلى التفرّغ لنتاجه، فالوحدة شرط من شروط الإبداع، ويذكر ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة): " قال الخليع: من لم يأت شعره مع الوحدة، فليس بشاعر"، والخليع هو أبو علي الحسين بن الضحاك الباهلي، الذي تتلمذ على يدي أبي نواس، في البصرة، وتعلّم منه الشعر، وأسراره، فالوحدة ضرورية، ليست فقط للشعراء، بل للكتّاب ايضا، يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي" أنا واحدٌ من هؤلاء البشر ، الذين يفضلون البقاء بلا رفقة ، ولكي أكون أكثر دقة، أنا شخص لا أجد في الوحدة أي أَلَم أو عناء. ولا أجد في قضاء ساعة أو ساعتين يوميا في الركض وحيداً بدون التحدُّث مع أحد ، وقضاء أربع أو خمس ساعات أُخرى في مكتبي وحيداً ، شيء صعب أو مُمل. حيثُ إنني لدي هذه النزعة مُنذ طفولتى ، فمثلاً عندما يكون لدي خيار ، كُنت دائما ما أُفضل قراءة الكُتب فى عُزلة تامة، أو الاستغراق فى الاستماع الى الموسيقى، عن تواجدي مع أي شخص آخر.فأنا دائما لدى أشياء لفعلها وحيداً".

فما أحوج الإنسان إلى خلوة روحيّة يمارس خلالها طقوسه الخاصّة، مثلما يفعل الكثيرون في المناسبات الدينية، كما هو الحال لدى الصابئة المندائيين في العيد الكبير بما يسمّى بـ"الكرصة" عندما يمكث أبناء هذه الطائفة في منازلهم لمدة 36 ساعة، ويمنع خلالها الدخول والخروج من ،وإلى البيت ، وكما يفعل الكثير لدينا في شهر رمضان المبارك ، وتحديدا في العشرة الأواخر، من أجل مداوة النفس الجريحة بنور الإيمان، ولملمة شتات الروح، يقول جلال الدين الرومي "انعزلْ، حتى تُلملم شتاتَ روحك"!