فـــتاوى لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة
ليلة القدر بلغت من كمال الفضل ما لم تبلغه ليلة أخرى ولا زمان آخر
هل يمكن أن تبينوا لنا فضل ليلة القدر، ومتى يمكن للمسلم أن يتحراها؟
إنّ الله سبحانه وتعالى يرفع درجات من يشاء، ويفضل ما يشاء على ما يشاء، فهو يفضل الناس بعضهم على بعض، ويفضل الرسل الذين هم صفوة الناس وخاصتهم بعضهم على بعض كما نص على ذلك القرآن الكريم مع أنهم جميعاً مصطفون أخيار بلغوا من درجة الكمال البشري ما لم يبلغه غيرهم، وكذلك فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة على بعض كما هو واضح في تفضيله حرمه الآمن، وتفضيله المكان الذي بارك حوله وهو المسجد الأقصى وما حوله، وهذا مما دل عليه القرآن الكريم، كذلك فضل الله بعض الأزمنة على بعض، وقد يكون المفضل على غيره منه ما هو أفضل من غيره، فشهر رمضان كله شهر فضيل لأجل ما جعله الله سبحانه وتعالى فيه من البركة والخير، كما ينبئ بذلك قوله سبحانه : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، ولكن ليلة القدر هي مفضلة على سائر ليالي الشهر ولذلك بلغت من كمال الفضل ـ وهي كمال المخلوقات ـ ما لم تبلغه ليلة أخرى ولا زمان آخر، وناهيكم أن الله سبحانه وتعالى سماها ليلة القدر وسماها ليلة مباركة، فقد قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، وتسميتُها بِليلةِ القدْر يوحي بمكانتها وعظمتها، فإن القدر هو الشأن، في شأنها عظيم وسأوها جليل لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى . وقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة باسرها تدل على فضلها وميزتها وشرف وعلو شأنها إذ يقول سبحانه : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، فقد جعلها الله سبحانه وتعالى خيراً من ألف شهر من الشهور التي ليست فيها ليلة القدر، فمن يعمل الصالحات في هذه الليلة ويجتهد بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى يكون قد أحرز من الفضل مثل ما يحرزه لو عمل ذلك في كل ليلة من ليالي ألف شهر، وهذا فضل عظيم لا يزهد فيه من عنده مثقال ذرة من عقل، وهذه الليلة أخفاها الله تعالى في تضاعيف هذا الشهر الفضيل كما أخفى الله سبحانه وتعالى ساعة الإجابة من يوم الجمعة، وذلك من أجل أن يجتهد الإنسان في الدعاء في جميع ساعات يوم الجمعة، وكذلك أخفى الله سبحانه وتعالى كثيراً من الأشياء عن عباده لأجل أن يجتهدوا، ومن ذلك أن الإنسان لا يدري متى يموت، لأجل أن يكون في كل لحظة من لحظات العمر متهيئاً للقاء الله موطناً نفسه للانتقال من هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة الباقية، وكذلك قيام الساعة أمر لا يعلمه إلا الله، فكذلك ليلة القدر هي إحدى ليالي الشهر المبارك، أخفيت حتى لا يتكل الناس عندما يعرفونها فيعملوا الخير فيها وحدها ويدعوا عمل الخير في سائر الشهر، بل هم مطالبون بأن يتسابقوا إلى الخير في هذا الشهر الفضيل، وأن يضاعفوا جهودهم فيه أكثر مما كانوا يفعلون في غيره . فالنبي صلى الله عليه وسلم أُريها، ولكن خرج ليخبر بها أصحابه فتلاحى رجلان فرفعت ـ أي رفع علمها عنه صلى الله عليه وسلم ـ فلذلك قال على أثر ذلك : . فهي تلتمس في العشر الأواخر لا سيما الليالي الأوتار، وهي ليلة الحادي والعشرين وليلة الثالث والعشرين وليلة الخامس والعشرين وليلة السابع والعشرين وليلة التاسع والعشرين، وقد شاع عند عوام الناس وجهلتهم أن في هذه الليلة أشياء تبدو للناس فيترآؤونها بحيث تنقلب الأحوال رأساً على عقب، وقد تصور بعض العوام والجهلة أن الأشجار تتحول في هذه الليلة المباركة عن طبيعتها ويرى الناس ذلك كذلك تصوروا أن كثيراً من الأشياء تنقلب عن سننها المعهودة ، وتصوروا أن هذه الليلة عندما يكاشف الإنسان بها فإن كل ما يريده أو يخطر على باله يتحقق له وهذا ليس صحيحاً وإنما فضل هذه الليلة لما ذكره الله سبحانه وتعالى مما أودعه فيها من البركة حتى كان قيامها بمثابة قيام ألف شهر من سائر الليالي، فلو كانت هناك علامات ظاهرة كما يقولون لما خفيت تلكم العلامات عمن يقومون ليالي الشهر المبارك جميعاً، فهذه إشاعات لا أساس لها من الصحة، ولربما ظهر لبعض الناس بعض الأشياء كظهور الأنوار بسبب كثرة الملائكة الذين ينزلون فيها، وهذا أمر لا يكاشف به كل أحد، وإنما على الإنسان أن يحرص على اكتساب خيرها بغض النظر عن ظهور هذه الظواهر وعدمه، وذلك بأن يحييها بالتهجد وذكر الله واستغفاره والتبتل إليه سبحانه وتكرار الدعاء الذي علمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عندما سألته ماذا تصنع عندما ترى هذه الليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» . والنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن هذه الليلة هي إحدى ليالي العشر الأواخر من الشهر المبارك، كان يحرص على مضاعفة جهده في التهجد في العشر الأواخر، فكان يعتكف فيها وكان إذا دخلت شد مئزره وأيقظ أهله وأحيى ليله، ومعنى شد مئزره أنه كان يشمر عن ساعد الجد في العمل، لأن شد المئزر يكون عندما يُقبل الإنسان على عمل شاق، ومنهم من حمل شده مئزره على اجتنابه النساء فهو لا يواقع نساءه بسبب إخلاده إلى الاعتكاف، ومعنى إيقاظه أهله أنه كان يدعوهم إلى التهجد فيأمرهم ألا يناموا إلا بقدر ما يضطرون إلى النوم لأجل أن يشاركوا في الخير ولينالوا من ربحه العظيم، ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم يحيي ليله أنه يقضي ليله تهجداً بحيث يطوي فراشه في الليالي العشر حرصاً على اكتساب هذا الخير العظيم، فهكذا ينبغي للناس.
هذا وقد اختلف العلماء في ليلة القدر على نحو أربعة وأربعين قولاً، وهذه الأقوال كثير منها لا دليل عليه، فمنهم من قال بأنها ليست من ليالي رمضان رأساً وإنما هي ليلة في سائر ليالي العام، وهذا قول بعيد عن الصواب، لأن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} مع قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} إلا أن الذين ذهبوا إلى هذا الرأي قالوا: إن معنى نزول القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل نزول بيان فضله وميزته ومكانته إلا أن هذا القول بعيد عن التحقيق، ومنهم من قال الثانية ومنهم من قال الثالثة وهكذا، ومنهم من قال في الوسط ومنهم من قال ليلة السابع عشر، ومنهم من قال ليلة السادس عشر، وهذه الأقوال لا تتفق مع ما دل عليه الحديث الصحيح إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها إحدى الليالي العشر الأواخر والله تعالى أعلم.