صناعة العطور
اعداد :حمادة السعيد -
هذه الحلقات المكتوبة إنما هي إشارات سريعة وعاجلة، للفت الأنظار إلى قضية مهمة في زمنِ البطالة؛ لتوجيه أنظار الباحثين عن العمل إلى المهن والحرف وعدم احتقارها أو التهوين من شأنها، فلقد حثّ الإسلام على العمل أيًّا ما كان نوعه، شريطة أن يكون بهذا العمل نافعًا لنفسه والآخرين غير ضار لأحد، ويكفي هؤلاء الذين يعملون بالحرف والصناعات شرفا وفخرا وعزة وكرامة أن أشرف خلق الله وأفضلهم وهم الأنبياء والرسل قد عملوا بحرفة أو امتهنوا مهنة.
ولقد أشار القرآن الكريم في آياته إشارات واضحة ومباشرة أو ضمنية تفهم في مجمل الآية إلى بعض الحرف والصناعات، كذلك حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحين يشير القرآن تصريحا أو تلميحا إلى أمر ما فهو أمر مهم وعظيم؛ فالقرآن لا يتحدث إلا عما فيه سعادة وصلاح حال البشرية، ومن الصناعات التي أشارت إليها السنة النبوية ضمنيا صناعة العطور التي ظهرت جليا من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ».
وعن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عليه السلام: «لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ الطُهْور، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، ويَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأخْرَى). وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمِسْكُ، فَقَالَ: «هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ» وعن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَى سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ الْمِسْكَ فَمَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ»عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا نَجِدُ حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ». وهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وجاء في فقه السنة لسيد سابق: الحث على التطيب بالمسك وغيره من الطيب الذي يسر النفس، ويشرح الصدر، وينبه الروح، ويبعث في البدن نشاطا وقوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة) رواه مسلم والنسائي وأبو داود، وعن نافع قال: كان ابن عمر يستجمر بالألوة غير مطرأة، وبكافور يطرحه مع الألوة ويقول: هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم والنسائي. و(الألوة) العمود الذي يتبخر به، (غير مطرأة) غير مخلوطة بغيرها من الطيب.
وإذا كانت السنة المطهرة حافلة بالحديث عن الطيب واستحباب استعماله؛ ففي ذلك إشارة ضمنية إلى أهمية هذه المهنة التي كانت منتشرة كما كانت دول مشهورة بمدخلات هذه الحرفة وتلك الصناعة التي لاقت انتشارا واسعا في العقود الأخيرة وهو ما يقودنا للبحث والتحري حول أي هذه العطور، وأي أنواع الطيب التي يحل استخدامها وهي دعوة ضمنية أيضا لتعلم المسلمين تلك الحرفة وألا يتركوها لغير المسلمين؛ حتى لا يدخلوا فيها محرما ككثرة الكحول مثلا ، فعندما سئل الشيخ ابن باز عن كثرة الجدل حول التطيب بمادة الكولونيا، فهل يُشرع للمسلم المتوضئ أن يجدد وضوءه منها أو يغسل ما وقعت عليه من جسده؟ فقال الطيب المعروف بالكولونيا لا يخلو من المادة المعروفة بـ (السبرتو) وهي مادة مسكرة حسب إفادة الأطباء، فالواجب ترك استعماله، والاعتياض عنه بالأطياب السليمة. أما الوضوء منه فلا يجب، ولا يجب غسل ما أصاب البدن منه؛ لأنه ليس هناك دليل واضح على نجاسته.
وقال الشيخ محمد صالح المنجد في فتوى له: الأطياب التي يقال إن فيها كولونيا أو أن فيها كحولاً لابد أن نفصل فيها فنقول: إذا كانت النسبة من الكحول قليلة فإنها لا تضر، وليستعملها الإنسان من دون أن يكون في نفسه قلق، مثل أن تكون النسبة خمسة في المائة أو أقل من ذلك، فهذا لا يؤثر. وأما إذا كانت النسبة كبيرة بحيث تؤثر فإن الأولى ألا يستعملها الإنسان إلا لحاجة، مثل تعقيم الجروح وما أشبه ذلك.
أما لغير حاجة فالأولى ألا يستعملها، ولا نقول إنه حرام، وذلك لأن هذه النسبة الكبيرة أعلى ما نقول فيها إنها مسكر، والمسكر لا شك أن شربه حرام بالنص والإجماع، لكن هل الاستعمال في غير الشرب حلال؟ هذا محل نظر، والاحتياط ألا يستعمل، وإنما قلت: إنه محل نظر، لأن الله تعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) فإذا نظرنا إلى عموم قوله: (فاجتنبوه) أخذنا بالعموم وقلنا: إن الخمر يجتنب على كل حال، سواء كان شربا أو دهنا أو غير ذلك، وإذا نظرنا إلى العلة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) قلنا إن المحظور إنما هو شربه؛ لأن مجرد الأدهان به لا يؤدي إلى هذا، فالخلاصة الآن أن نقول: إذا كانت نسبة الكحول في هذا الطيب قليلة، فإنه لا بأس به ولا إشكال فيه ولا قلق فيه، وإن كانت كبيرة فالأولى تجنبه إلا من حاجة، والحاجة مثل أن يحتاج الإنسان إلى تعقيم جرح وما أشبه ذلك.
واستعماله من الجمال الذي يحبه الله تعالى، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنه، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس.
وبالتالي فبيعه جائز ولا حرج على بائعه، وإذا كان من النساء من تشتريه وتستخدمه عند خروجها من البيت ليشم الرجال رائحتها فالإثم عليها ولا إثم على البائع لأنه مباح شرعا، لقوله تعالى:«وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» [الأنعام:164 . ولقوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر:38 .
إلا أن يعلم أو يغلب على ظنه أن المشتري أو المشترية له ستستعمله على الوجه المحرم، أو كان الغالب على أهل البلد ذلك، فلا يجوز له البيع حينئذ، لأن ذلك من باب الإعانة على المعصية. وقد نص أهل العلم على حرمة بيع العنب لمن عُلم أنه سيعصره خمرا وهذا مثله.
بل إن السنة المطهرة تعرضت لبائع المسك وهو أحد أنواع العطور في قول النبي صلى الله عليه وسلم (مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) وعلق ابن بطال في شرح صحيح البخاري إنما أدخل المسك في هذا الباب ليدل على تحليله إذ أصله التحريم؛ لأنه دم، فلما تغير عن الحالة المكروهة عن الدم، وهو الزهم وبفيح الرائحة صار حلالا بطيب الرائحة.
فهذا هو هدي نبينا فمن اتبع هذا الهدى عاش كريما.