قلق التفاح ينزّ قصصا قراءة في مجموعة «حليب التفاح» ليحيى بن سلام المنذري
بسمة عروس -
•التفاح وأجناسه:-
حليب التفاح هي المجموعة الخامسة لصاحبها تطالع القارئ بغلاف أنيق يستوحي من العنوان بعضا من تجريديته ويتوسل ألوانا تجمع ما بين ليونة الحلم ولذعة الواقع وقتامة الشعور. ولئن ميزت اللغة في سر من أسرارها غير الخافية على الدارس اليقظ بين الحليب واللبن وما يحلب ويستحلب متخذة الحليب للسائل الذي يستخرج بفعل الحلب أو الاستحلاب ومن اللبن الحليب الابيض الذي تجود به الثدييات من الفصائل الحية، فإن في العنوان دلالة لا تخفى تشرّع لإضافة الحليب للتفاح والعدول عن استعمال اللبن حيث يبدو الحليب معنى موسعا يمكن أن يدل على السائل بشكل عام في حين يبدو اللبن معنى مخصوصا وحيث يبدو الحليب انسيابا تلقائيا لما في باطن الأجسام الحية من دفق الحياة ومن نسغ يسري فيها في مقابل معنى اللبن الذي يمخض ويأتي خاثرا ورائبا أوتعلوه الرغوة .
وهكذا فإن تدبّر المجازية في «حليب التفاح» قد لا يكون مفتاحا ملائما لولوج هذه المجموعة لأنها غدت من العنوان اختيارا معلنا يبوح بالكثير من أسرار الكتابة في حضوره الذي تعزّز داخل النصوص في لمحات خاطفة تلتقط فتشبع داخل القصة وتتحوّل إلى موضوعة أساسية وثيمة بانية. إن العنوان لا يفيد في الكشف عن مرتكزات في القراءة تشتغل على امتداد القصص ولكنه يعرب عن الفلسفة العامة للعمل بكامله وهي أن لا يلتفت الناظر فيه إلى العلامات الواضحة ويسرع في تدبّرها وإنما في أن يبحث عما وراء هذا النظام المخاتل من برامج لم تعلن عنها الإشارات والقرائن.
يرد التفاح في العنوان معرفة تحيل على فاكهة دلالتها الرمزية تخترق سجلات شتى لكنه في هذه المجموعة يتحول إلى مجمع للدلالة فيستعمل في المعنيين الرمزي والمجازي والمعنى الحقيقي فنلاحظ تواتر حضوره في اكثر من قصة وقد جاء هذا الحضور بصور مختلفة أولها ما كان في قصة «إهداء» حيث كانت المراوحة بين الكتابة أو التفكير فيها وقضم التفاحة علامة على التداخل بين فعل إدخال الطعام وإخراج المعنى . لقد كانت الكتابة مثل الطعام عملية استدخال فمثلما تستدخل الأطعمة ويتحول طعمها الى شعور بالامتلاء أو الانتشاء أو الحلاوة أو غيرها، تستدخل التجربة الذاتية أو الجماعية في المكتوب وتصير استطعاما للحظات أو مواقف إنسانية أو مشاهد ومن ذلك تأمل السائل الذي خرج من التفاح ووصفه أثناء الكتابة وتأمل باقي الثمرة وأثر القضم فيها كلما تقدم في جسمها محدثا تقعرات دائرية وهنا صارت التفاحة مثل المصفاة للكتابة والرفيق للكلمة بل ربما تغلغلت فيها وفي نفس المبدع حدّ أنها في آخر القصة تسأله مستنكرة تخليه عنها كمن يطالب بحقه أو من له على المسؤول دالة.
وتتحول التفاحة إلى موضوعة لخطاب يمزج ما بين النفحة الأيروسية والحكاية العجيبة في قصة «حليب التفاح» في تناص فريد مع القصة الأولى فالتفاح كما أسلفنا حاضر في كل المجموعة بدرجات وأساليب مختلفة مرة يأخذ شكل الموضوعة أو الثيمة ومرة يأخذ شكل الاستعارة أو الصورة ومرات يذكر بصفته الحقيقية لا المجازية. وفي قصة «حليب التفاح» تستعمل التفاحة دالا على الحب والإغراء والشهوة فيكون في المنزع الرمزي سبيل لتجريد فكرة الانجذاب للمرأة وتوابعها وسبيل لتوظيف الثيمة الكونية المعروفة التي تستعيد قصة بدء الحياة وتسترفدها في علاقة ثلاثية أعوانها ثالوث هو التفاحة والمرأة والرجل. ولا شك أن هذا المنزع يعمل على العودة بالكتابة إلى أصلها ومن هنا جاء الجمع بين قصة الفتى الذي خرج باحثا عن التفاح الأبيض الذي وصفه المطبب لوالده المريض، تفاح عجيب يحمله الكنغر في جيبه بدل أطفاله لما يكبرون وقصة الشهوة في مراوحة بين خطابين أحدهما رمزي والثاني يشبه الحكاية العجيبة ويستعيد أبرز ثيماتها كالطائر الذي يحمل في منقاره عودا ناريا ورحلة البحث عن الدواء العجيب وغير ذلك، وهنا نهضت العناوين الداخلية بدور التنسيق بين الخطابين وملء فراغات المعنى فعنوان «التفاحات الوردية» كان ملائما لوصف جمال الحب الدافق بين اثنين باعتباره عالما ورديا ساحرا وهنا تحضر الإشارة إلى السائل الطازج اللذيذ، فكأن الشهوة كالحياة دون ماء لا تكون. ولا أن نغفل في هذا السياق عن دلالات أخرى أبعد أهمية منها العنوان الذي يشير الى أن التفاح ليس سببا في طرد الجمال من الجنة والتفاحة التي تسقط إلى الأعلى حيث تكون دلالة التقابل بين فعل السقوط ومعنى الارتفاع الموجود في «الأعلى» والمفارقة بينهما محيلة على رسالة ضمنية تجادل التصور الأخلاقي لفكرة الحب وشهوة الجسد.
وتتواتر الإشارات إلى التفاح في مواضع مختلفة في هذه المجموعة أغلبها لا يقتضي ذلك ضرورة وهو ما يبرّر قولنا إن للدال «تفاح» موقعا يتجاوز مجرّد الإحالة على الفاكهة المعروفة أو رمزيتها ليصبح متخيّلا خاصا بالكتابة ومرجعية استند إليها القاص في نسج عوالم قصصه وربما كانت النسغ الأول الذي يغذي المحور الإبداعي الأساسي والنواة الصلبة التي منها تولدت فكرة العمل بكامله فمن الطريف حقا ملاحظة أن الكتابة تدعونا إلى تأمل أشياء كثيرة مما هو معروف في حياتنا اليومية ولا نلتفت إليه كالجمادات من أثاث غيره أو النبات أو الفكاهة أو الطعام بشكل عام وهو ما نلمس حضوره بصورة لافتة للانتباه في جل القصص مما يدفعنا إلى استنتاج أن هذه الأشياء تؤنسن وتصبح بؤرا دلالية وموضوعات للتفكير ولتخصيب التداعيات وليست مجرد عناصر مكملة . ففي قصة «ماهي الحكاية الأخيرة لشهرزاد ؟» عدا الإشارة في بداية القصة إلى تشبيه خدي بعض الشخصيات النسائية بالتفاح في قوله «يعجبني تورّد تفاحتيك» توظف أصناف الأطعمة للانتقال من طور إلى آخر في القصة ويكون لكل صنف طعم خاص يتناسب مع طبيعة الحدث الجاري علما وأن القصة كلها حول الموت المفاجئ والغريب للجارة أم حمدان الذي يصبح موضوعا للحديث الذي يتبادله زوجان هما راشد وجمانة كلما جلسا على مائدة الغداء. كل الحكايات تكون حول الطعام الذي لا تهمل القصة ذكره فهو مرة مكبوس الدجاج ومرة سمكة مشوية ومرة نجد الاكتفاء بالحديث عن العصير والغريب ان أم حمدان كانت تشرب العصير، عصير البرتقال لما داسها ابنها بالسيارة مسببا لها كسرا في الحوض وجمانة لما كانت تروي هذه التفاصيل كان زوجها يشرب نوع العصير نفسه ويستطعم حموضته مع حموضة الحكاية التي تنساب عبر شفتي شهرزاد، أو جمانة زوجته. نلاحظ المراوحة بين طعم الحكاية وطعم الطعام وكأن السرد صار يستهلك أو يستدخل ويدمج وهذا المنزع يبدو انه غالب على كل المجموعة فقوله في هذه القصة «الطعام بلا طعم» قبل أن يستعرض كل تلك الأطعمة التي يتناولها الزوجان في الغداء كان لشرح السبب الذي دعاهما الى إبعاد الهاتف الجوال عنهما لما يكونان بصدد الأكل ولكنه يفهم في معنى آخر وهو التنبيه إلى الطعم وقيمته فهو ليس فقط نكهة تملأ الفم إنه نوع من انواع الإدراك والمعرفة وتجربة كاملة بابعادها الحسية والذهنية والنفسية. وعلى هذا النحو نجد في القصة أشارت إلى طعم الأكل وصفته مثل قوله إن السمكة لم تكن مالحة وإلحاح الراوي على وصف ما يجول في رأس راشد من أفكار وشعوره وهو يمضغ قطعة من السمك فكل هذه التفاصيل والإشارات ليست مجانية وليست من فضول السرد بل ربما كانت جوهر الموضوع . للقصة طعم مثلما للطعام طعم والبحث عن سر الوفاة المريبة لأم حمدان لم يكن الغرض من حكاية شهرزاد بل كان الغرض التلميح إلى وضع من غياب الطرافة والدهشة في الحكاية، وضع يعانيه الحكاء في اجتهاده في العثور على بؤرة متوهجة فنيا تغريه بتجريب التيه في دهاليزها. لم تعد شهرزاد طريفة والتدريج في كشف جوانب من قصة وفاة أم حمدان وما كان قبل العزاء وما كان بعده يراوح بين ردة فعل الزوج راشد المترقب للحكاية والمستطعم لها مثل استطعامه لما تقدمه له زوجته من وجبات حكائية تجزئها بحسب الأحوال وبحسب الطعوم التي تقترحها عليه وتتابع تفاصيل القصة التي تأتي غير مرتبة الفصول والمكونات مثل وصفة طعام تمزج بين مكونات وألوان غذائية بعضها حار وبعضها حلو وبعضها بالغ الملوحة. لم تقتصر حيلة شهرزاد هنا على القصة فحسب فأضافت إليها ألوان الأطعمة التي تتفنن في طبخها مستدرجة زوجها مع كل لون إلى جزء من أجزاء قصة الجارة المتوفية ملائمة ما بين ما تعرضه منها وطبيعة الطعام الذي تقدمه لذلك كانت بعض هذه الأطعمة بمثابة لحظة فارقة في القصة وفي طبيعة الطعم الذي يشترك فيه الزوجان ومن ذلك أن وجبة مكبوس الدجاج والسلطة الخضراء التي وضعت منها جمانة شيئا في صحنها كانت مناسبة تماما لعرض الخبر الصادم وهو أن ابن أم حمدان هو المسؤول عن الكسر الذي أدى إلى وفاتها . فلكل طعام نكهة توافق ما في الخبر من نكهة، للصدمة نكهتها وللتشويق نكهته وللحزن نكهته وطعمه بل إن الصدمة والتشويق والحزن وغيرها كلها وجبات تبلع وتدمج مثل الطعام. لم تتقبل جمانة يوما أنها لم ترزق أبناء لذلك خلعت ألمها الظاهر والباطن على قصة أم حمدان وجزأت الحكاية بحيث تعرض منها كل يوم جزءا مبقية على باب الدهشة والتشويق مفتوحا، جزأتها حتى تصل إلى المقطع الذي يثبت مسؤولية ابن حمدان في وفاة أمه، شغلت نفسها بالحكاية وبالطعام، تنسج به عالما تعزي فيه نفسها عن فقد الولد. جلعت الولد مذنبا فوجدت سببا للامتناع عن التفكير في حرمانها من الأمومة.
يبدو التفاح استعارة مركزية في كل المجموعة، قاد اشتغالها إلى استتباع الحديث عن كل ما يستطعم ويؤكل ويبتلع، وتوظيفه داخل القصص. ففي قصة «الطاحن الأول» نلاحظ تمشيا مشابها نسبيا لما نجده في القصة السابقة حيث يحضر وصف الطعام فيذكر الرز وصحن الزبادي وتوصف عظام الدجاج والطريف أن تاج السن كان مختبئا وراء ورقة الخس في إشارة لا تخلو من رمزية أما في قصة «الخلاط الآدمي» يقع التركيز على وصف سلوك المدير وهو يأكل المكسرات ويشرب الكولا ويكون فعل قرمشة المكسرات بأنواعها ونزع القشر عنها قبل التهامها موضوع وصف مفصل يوازيه وصف اشتهاء الموظف هذه المكسرات التي يمنعه منها تسلط المدير وغطرسته في تلميح واضح إلى ما في المراتبية المهنية من امتهان للذات البشرية وصلف وسوء . يساير فعل التلذّذ بأكل الفستق ورميه في الفم، ما يصدر عن الموظف تجاه رئيسه من مشاعر يستبطنها ويعمل على كبتها فيتلمظ ريقه من اشتهاء المكسرات ومن ضغط مديره وإجبار نفسه على التظاهر بالولاء وعدم التأثر بالمشهد، حركة نحو الداخل توازيها حركة نحو الخارج لذلك تكون مكافأة الموظف نفسه في آخر القصة بحفنة مكسرات دلالة على المستقبل وهو تمرّد المسحوقين على رؤسائهم وتجاوز عقدة المراتبية في بعدها غير الإنساني.
ولعل أبرز مظهر لتداعيات الدال المركزي في هذه المجموعة أي التفاح ما نجده في قصة «هل في حقيبة الطفل فراشات؟» حيث يوظف هذا الدال في صياغة السؤال وفي ذلك دليل على انتشار هذا الحقل الدلالي في كل المجموعة وامتداده ولما كان السؤال مظهرا بارزا فيها فإنه امتد إليه أيضا فنجد من ضمن الأسئلة السؤال التالي «هل تمنى الطفل وجود شجرة تفاح في الحديقة ؟» وفيه نلاحظ أن التفاح صار علامة على أحلام الطفولة التي لم تجد طريقها إلى التحقق وهذا الموضع هو الموضع الوحيد تقريبا الذي يذكر فيه التفاح مرتبطا بشجرته لتكتمل الأيقونة التي تختصر عالم الطفولة بما فيه من دفء ووداعة وجمال ولاسيما إذا كان عالما يحلم به ويتوق إليه فهو عالم طبيعي غالبا، عالم مفتوح، عالم اخضر، عالم رمزه الشجرة والثمرة الحمراء دائرية الشكل وليس عالما حديديا أو حادا مدببا وقاتما.