علم النفس.. خرافات وأوهام!

04 ديسمبر 2024
04 ديسمبر 2024

قبل عدة أيام قرأت منشورا فـي صفحة ثقافـية فـي إحدى منصات التواصل الاجتماعي، كان المنشور موجها للحديث عن كتب التنمية البشرية ومنشئها ومآلاتها ونتائجها، بل وتطرق للحديث عن المستفـيدين منها والمستعبَدين بها! هذا كله فـي جانب، وفـي الجانب الآخر علاقة التنمية البشرية بعلم النفس! والتقليل من علم النفس باعتباره شعوذة أو دجلا، فهل بين التنمية البشرية وعلم النفس رابط أو نسب؟ ومتى نقول عن الشيء إنه علمي أو غير ذلك؟ دعونا نتعرف على ذلك كله فـي هذه المقالة، التي أحاول فـيها تفكيك الفكرة وراء هذه العبارات، ومعرفة الدور الذي تؤديه حياتنا الحالية بمجالاتها المتطورة فـي رسم صور الأشياء.

تتسع رؤية المرء بقدر معارفه، وتنحسر وتضيق كلما قَصَرَ نفسه على علم أو فن لا يحيد عنه ولا يقرأ أو يطّلع على غيره، ورَغم أن التخصص شيء جميل ومُقدّر، فإن المرء ينبغي أن يكون كالفرجار فـي معارفه؛ قَدَمٌ راسخة فـي علم أو فن، والأخرى تجوب العلوم الأخرى قاطفة الثمار أو تتنشق روائح زهورها العطرة أو على الأقل تنظر إلى اختلاف الألوان وتباين الأفكار والآراء. وفـي العموم، فإن المرء الذي يحصر نفسه فـي زاوية دون غيرها، لا يرى العالم إلا كما تراه السمكة العالقة فـي حوض صغير، فتظن أن الكون كله فـي ذلك الحوض، فكيف إذا بلغت السمكة الوادي، أو البحر، أو المحيط! إننا كبشر نتواضع ونتكبر بقدر اتساع رؤيتنا أو ضيقها، فمتى كان المرء متقبلا للآراء بدءًا، فـيتفحصها ويطلع على ما فـيها ثم يأخذ بما يراه صحيحا نافعا وينبذ ما يراه سيئا ضارا؛ كانت نظرته إلى الأشياء والحياة أشمل وأعمق غورا وأبعد مدى، والعكس صحيح.

ينظر الناس إلى الأشياء الحادثة عليهم نظرة الشاك المرتاب، فتنبري فئة تشيطن كل جديد، وتهب فئة لتجربة الجديد فضولا وشغفا لمعرفته وتجربته. لم تعرف مجتمعاتنا العربية علم النفس الحديث إلا كما يعرف المرء عن جُزُر الواق واق التي يسمع بها ولم يرها، والتي لا يُعرف إن كانت خيالية أم أنها أسماء لبلدان تغير اسمها بعدما ذكرها الإدريسي فـي خرائطه وبزرك بن شهريار فـي كتابه عجائب الهند؛ وهذا ليس عيبا فـي حد ذاته، بل العيب أن ننتقص من شيء أو ننجرف وراء الرغبات والانحيازات والأوهام تقصيرا منا فـي البحث وكسلا من أن ننظر فـي الشيء بأعيننا ونقرأه بعقولنا، لا أن نكتفـي بالحُكم سَماعا دون تحقُّق ورَويَّة. تربو أقسام علم النفس على عشرة أقسام، وتنقص فـي غيرها من المصادر أو تزيد بناء على اعتبارات يحددها المؤلف من تضمين القسم التخصصي إلى قسم أشمل، أو من إخراج الجزء من الكل؛ وما يهمنا هنا هو أن أقسام علم النفس ليست واحدة إذن، وأن المعرفة التي أقصدها هنا، معرفة الممارسة والتطبيق لا السماع والمعرفة النظرية سطحية كانت أم عميقة.

إذا ما سألنا إنسانا يعرف القليل عن علم النفس عن كنهه وماهيته، فإن ما سيحدث غالبا هو أن تقفز إلى ذهنه مباشرة صورة إنسان مستلقٍ على الأريكة، وأمامه مُعالج نفساني يتحدث إليه ويشرّح كلامه وصولا إلى أسباب العِلل الأولى، وتفكيكها ومعالجتها بعد ذلك. وسبب ذلك أن هذه الطريقة هي التي اتّبعها أحد أشهر الشخصيات فـي التاريخ، وهو العالم النفساني النمساوي سيغموند فرويد. فقد كان فرويد مؤسسا لفرع من فروع علم النفس وهو التحليل النفسي، وهو الذي أحدث طفرة فـي علم النفس الحديث، وكما هي عادة المشاهير الذين تخترق شهرتهم الآفاق، فقد غدا فرويد وطريقته علامة (Brand) يستعملها الناس فـي شتى المجالات للإشارة إلى علم النفس، سواء فـي الأدب أو الفنون أو السينما أو حتى الفـيديوهات التعليمية. أما سبب شهرة فرويد، فإلى جانب إسهاماته العلمية؛ فقد كان أحد الفارين من النازيين، وكان يمزج فـي كتابته بين الأسلوب العلمي والأدبي فـي آن، كما أنه اشتهر بتقديسه للعائلة وتمسكه بها فـي مجتمع يقل فـيه الاكتراث بالعائلة. كما أن إصابته بالسرطان وديانته اليهودية، كلها أسهمت فـي تكوين هذه الشخصية التي تجعل من يقرأ سيرتها يتعاطف معها ويُعجب بها؛ يتعاطف مع ما لحق بفرويد من العذابات والمآسي، ويعجب بامرئ حقق ما حقق رغما عن تلك العذبات نفسها، وأشير هنا إلى أن هذا التعاطف منشؤه إنساني بحت لا علاقة له بنظريات فرويد أو ديانته.

يرجع فضل كثير من الكتب الشهيرة إلى المثقفـين الذين قرؤوا تلك الكتب ونفضوا عنها الغبار وأخرجوها للعالم يرفعونها فوق رؤوس الأشهاد ليعرف العالم الكنز الذي وجدوه، ويستفـيد منه وينتفع به. وقد حصل هذا مع كتب كثيرة لا يستطيع المرء حصرها، وليس كتاب ابن خلدون ومقدمته بنشاز عن هذه الكتب. ولكن المثقف أيضا، يمكن أن يكون ظلاميا كما يمكن له أن يكون تنويريا؛ فـيطمس ما لا يوافق هواه ورغباته وقناعاته، دون بذل لمجهود أو لمجرد تحقيق قناعة مبنية على الافتراضات والأحاسيس. وكما يُطلِق عليهم أحد الأصدقاء «القابضون على الجمر»؛ وهؤلاء هم الذين يرون كل ما لا يعرفونه إما وهما وزيفا أو شركا بالله، وإذا سألت عن العلل والأسباب التي دعتهم لذلك، لا تسمع جوابا بل ستلقى غضبا وعتابا لا تعرف له علاجا.

إن من يتوقع من العالم أن يظل ألف سنة فـي الوراء، بل فـي الحقيقة عشر سنوات فـي الوراء؛ فإنما يخدع نفسه ويعيش فـي وهم ليس له علاج. فما كان يتطلب مئات السنين والأعوام ليتغير ويتبدل، صار يتغير فـي أيام إن لم يكن فـي ساعات ودقائق. ما يدفعني لقول هذا بالذات، معرفتي بأن الكثير من الناس يظنون بأن علم النفس مجرد أوهام لا علاقة لها بالواقع، أو أنه موجَّه لتفتيت الدين والمجتمع!

ويُطلُّ الجواب الأسطوري برأسه كلما ذكر إنسان بأنه يشعر باكتئاب أو أعراض لأمراض نفسية أخرى ويريد أن يتلقى العلاج، «هذا بسبب بعدك عن الله» أو «هيّا لنذهب إلى الباصر أو المعلّم الفلاني»، وفـي الحقيقة فإن الأمراض التي تصيب الإنسان لا تنحصر فـي علاقة المرء بربه فحسب، وإلا لما مرض نبي أو عالِمٌ أو عابِد قَطُّ! أما من يذهب إلى المشعوذين فذلك هو الدجل والخرافة بعينها. دعونا نرجع إلى الوراء هنيهة، ما هو العلمي إذن؟ إننا نطلق لفظة علمي على الدراسة التي تُجرى بنظام دقيق يعتمد على معايير معينة ويتم جمع بيانات نتائج تلك الدراسة لتكوّن نمطا يستطيع المختص الرجوع إليها للتعامل مع الحالات التي تنطبق عليها تلك الأعراض أو البيانات. ومثال ذلك، الدراسات التي تُجرى على المدخنين وملاحظة علاقة التدخين بالسرطان، أو علاقة التنشئة فـي بيئة سيئة وشخصية الناشئ حين يكبر، وهكذا دواليك.

هكذا نتفق بأن علم النفس هو علم وليس دجلا أو خرافات أو أوهاما، أما علاقة علم النفس بالتنمية البشرية فهي علاقة مبنية على جهل مركّب. وهي تذكرني بعبارة «قال داروين بأن أصل الإنسان قرد!» وهي عبارة استعملها القس البريطاني صموئيل ويلبرفورس فـي مناظرته الشهيرة مع تلميذ داروين عالم الأحياء البريطاني توماس هنري هكسلي المعروف بكلب داروين لشدة دفاعه عن أستاذه وصديقه ونظريته، وقد استخدم القس فـي تلك المناظرة عبارات ساخرة وموجهة للانتقاص من العلم ولتأليب الناس على داروين بشخصه لا على نقد علمه وأطروحاته، ورغم أن داروين لم يقل هذه العبارة بتاتا ألبتة فقد بقيت يتداولها الناس حتى يومنا. ما أشبه اليوم بالبارحة! فأين علم النفس وأين التنمية البشرية؛ وهذا ما سنتناوله فـي مقالة قادمة.