السطحيون والعدو المستتر !
الكثير ممن أعرف، الذين يصحبون الكتب إلى مقاهيهم وكنباتهم وأسرتهم ليلا، باتوا يشعرون بأنّه من الصعب عليهم أن يستغرقوا فـي قراءة كتاب ما بشكل متواصل دون أن يُصابوا بالتشتت.. فالعقل -كما يُحدثني أبنائي كثيرا- بات يصبو إلى مكافآت سريعة كتلك التي يوفرها اليوتيوب والريلز والسوشال ميديا.
ينطلقُ كتاب «السطحيون»، الذي يدور حول ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا، لنيكولاس كار، ت: وفاء م. يوسف، منشورات صفحة ٧، من سؤال عميق حول إن كانت «التقنية عدوا مُستترا»، إذ بقدر ما يستبشرُ البعض ببداية عصر ذهبي، يأسفُ بعضٌ آخر على بدء عصر يتسم بالضحالة والنرجسية. فنحن فـي الحقيقة لا نلاحظ ما يدور فـي رؤوسنا بدقة إذ «تُغير التقنية أنماط الإدراك على نحو مُطرد، دون أي مقاومة تُذكر من قبلنا»!
هكذا نصبحُ أسرى تفكير «مُتقطع»، نفتقدُ بسببه الصبر على المشقة، فعملية التفكير «الشبكية» مختلفة تمامًا عن التفكير الخطي القديم الذي اعتدناه واعتاده أسلافنا.. يقول الكاتب فريدمان ديفـيس: «صنعتْ مني شبكة الإنترنت قارئًا أقلّ صبرًا، لكنها جعلت مني شخصًا أكثر ذكاءً أيضًا».
ولعليّ لا أنكر أنّي ارتعشتُ عندما قرأتُ ما نقله الكتاب عن أستاذ علم النفس جو أوشيا قائلا: «أي سببٍ يدفعني لقراءة نصّ مكتوب فـي حين يستغرق الأمر مجرد دقيقة أو دقيقتين على محركات البحث»!، إذ يُراهن أوشيا على أنّه يكفـي أحدنا الآن أن يتعلم كيف يكون «صيادا ماهرا»، فلا يعود للكتب أي لزوم!! فإن كان أستاذ جامعي يقول هذا، فلماذا علينا أن نلوم أبناءنا الذين يقومون بأغلب أنشطتهم اليوم بمساعدة شات جي بي تي!
نظن بأنّ التقنية «كوسيلة» غير مُهمة قدر أهمية «الطريقة» التي نتعامل بها معها، لكننا فـي الحقيقة نكذبُ على أنفسنا، عندما نتجاهل التأثير الذي تُمارسه علينا بشكل خفـي. كتب أحدهم ما قد يُمثلنا جميعا الآن: «أشعرُ بالضياع بدون زر المسح، وشريط التمرير، خاصية النسخ واللصق والتراجع ... أصبحتُ أُشبه معالج الكلمات»!
فـي الحقيقة إنّ أكثر ما يُشغلُ ذهني فـي هذه القصّة هو ما ستؤول إليه القراءة والكتابة فـي هذه الرحلة المُعقدة من فـيوض التقنيات. يُعرجُ كتاب «السطحيون» على قصّة نيتشه الذي تغيرت كتابته عندما اشترى آلة كاتبة، حيثُ لاحظ الأصدقاء تغير أسلوبه النثري: بات مُقتضبا شديد الإيجاز، وكأنّ قوة الآلة «حديدها» انتقل إلى الكلمات أيضا. فرد نيتشه حول ذلك قائلا: «معدات الكتابة تُشاركنا فـي تشكيل أفكارنا».. ليس هذا وحسب، فالكثير من عاداتنا اليومية فـي طريقها إلى التغير، لاسيما الطريقة التي تُفكر بها عقولنا الآن.. فهل لنا أن نتصور أن تُصبح سلوكياتنا «مُبرمجة» مثل: «الدارات» الميكروسكوبية المحفورة على قاعدة السيلكون فـي رقاقة الحاسوب!!
يدحضُ العلم اليوم فكرة أنّ أدمغتنا تُشبه الخرسانة التي تُصب وتُشكل فـي مرحلة الشباب، فالدماغ قادر على إعادة برمجة نفسه واكتساب حيل جديدة بسرعة فائقة. فالجينات التي تطبعنا لا تُحدد طرق تفكيرنا وإدراكنا وتصرفاتنا، إذ يمكن لكل هذا أن يتبدل من خلال طرق العيش المتباينة.. ولذا من الخطير أن نعرف أننا إذا توقفنا عن ممارسة بعض مهاراتنا العقلية بشكلها المألوف، فإننا لن ننساها وحسب، بل إن المساحة المخصصة لها فـي الدماغ ستُخصص للمهارات التي سنمارسها بدلا منها.
فبينما نُدرك بأنّ «أدمغتنا رقيب شديد الحساسية على تجاربنا»، ندركُ أيضا بأنّ التجارب التي نخوضها -ومنها هذا الاستحواذ الكلي من قبل الشبكة التي تلفنا بخيوطها اللزجة كل يوم وساعة ودقيقة- تتركُ بصمتها عليه كعلامة مُستمرة فـي النمو. فقد أثبت العلم بأنّ خلايانا العصبية- وفقا للمحفزات الخارجية- تكسرُ الروابط القديمة لتُشكل روابط جديدة، «فلم نعد عالقين فـي الخرسانة المتحجرة».
قد يظن البعض أنّ مرد ضعف التركيز والتشتت هو التقدم فـي العمر، لكن المسألة فـي حقيقتها تعود إلى أن تفكيرنا «لم يعد ينجرف وحسب، بل إنّه جائع، يتطلبُ تغذية بالطريقة التي تقترحها الشبكة، لكنه كلما تغذى أكثر أصبح جائعًا أكثر»، فحتى عندما نكون بمنأى عن شبكاتنا نشعرُ بأنّ هنالك ما يُوجعنا ويحملنا لأن نكون «مُتصلين»، هكذا نفقدُ طريقتنا القديمة فـي التفكير.. نتحول إلى «هالٍ» بشري جديد.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى