لماذا الحاجة للحوار المتوازن الخالي من الشروط والضغوطات؟

27 نوفمبر 2024
27 نوفمبر 2024

يعتقد بعض الكتاب والباحثين العرب أن الحوار مع الآخر، لا فائدة منه؛ لأن هذا الآخر وهو الغرب في الوقت الراهن، لا يقبل الحوار المتوازن، وإذا قُدر وانفتح للحوار، فإن هذا الحوار يفتقد أهم شروطه وهو «الندية»، فالغرب هو الأقوى عسكريًا وتقنيًا، واقتصاديًا، بما لا تقارن به أية دولة في عالمنا العربي، والإسلامي. مثل هذه العلاقة ليس لها أن تتيح المجال لإمكانية الحوار المطلوب؛ لأن الأقوى والمنتصر هو الذي سيفرض إرادته في نهاية المطاف، ومن ثم فإن مصطلح الحوار سيكون غطاءً مهذبًا لموقف الإملاء، لكننا نعتقد أيضًا بأن هذه النظرة للحوار غير دقيقة؛ لأن هناك التباسًا عند البعض في مفهوم الحوار عنه في التفاوض، فالتفاوض فعلًا يحتاج إلى الندية والتوازن، لكن الحوار في أحيان كثيرة، لا يحتاج إلى الندية أو التكافؤ، والأنبياء حاوروا أقوامهم من الحكام والمتكبرين والطغاة، وكان ـ عليهم السلام ـ الطرف الأضعف بمقاييس القوة والندية، ولكن الحوار والجدل والبرهان ثم الإقناع جعل لدعوتهم التأثير والأثر بعكس الجبابرة والطغاة، ولنا في دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو الأسوة الحسنة ـ كيف حاور المشركين وهو الطرف الأضعف، وبالحوار زعزع قناعاتهم الاعتقادية وانتصرت دعوته بتأييد الله عز وجل في النهاية، ولذلك فالحوار يطلب لذاته، بغض النظر عن المعايير والاشتراطات وإن كانت وجيهة ومقبولة، وهو كذلك مبدأ إسلامي أصيل، يجب أن نحرص عليه للحوار مع الآخر المختلف حتى وإن كان معاديا وكارها لمعتقداتنا وأفكارنا... إلخ.

لذلك حرص الإسلام أشد الحرص على حرية الفكر وشدد على فتح الآفاق الفكرية بصورة رحبة في جوانب التعبير، والنظر والتفكير، والتداول والاستدلال، فانطلقت حضارته العظيمة في كل أرجاء الدنيا وفي شتى المعارف الإنسانية، في الوقت الذي تراجعت الأخرى، وانزوت على نفسها بأفكار التخلف والجهل والاستبداد، بينما تتاح حرية الرأي في مستوى الإعلان والحجاج والاحتجاج، فإن العقل ينفتح على الرأي المخالف والمعطيات المضادة، وتتم في نطاق الحوار المقابلة بين الآراء فيسقط الضعيف ويصحّ القوي، وذلك أمر بيّن بالمشاهدة. أما الكبت والمنع من التعبير والمحاورة، فلا يثمر إلا الانغلاق على الرأي الواحد، والتشبث به والتعصّب له، فلا يكون العقل ناظرًا إلى الأمور إلا من زاوية واحدة فقد تخطئه الحقيقة أحيانًا كثيرة، ولا غرو حينئذ أن ينمو التعصّب للآراء والتشبث الأعمى بها في كل مناخ تصادر فيه حرية التعبير، وأن تنمو المرونة العقلية، وتقبّل التصويب في كل مناخ تشيع فيه هذه الحرية. وما أروع التربية النبوية في هذا الخصوص! فقد انتهجت نهج الانفتاح على مضادات الآراء بما أتاحته من حرية القول والاحتجاج والنقد، وقد اتخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- شعارًا له (أشيروا عليّ أيها الناس)، وهو شعار تربوي يهدف إلى تربية المسلمين على الفكر النقدي المقارن بإتاحة الحرية الواسعة في القول والحجة، وإلا فإن الحق بائن لديه إذ هو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.

وكذلك الأمر بالنسبة لحرية الرأي في مستوى التعبير والمناظرة، فإن من شأن الإعلان عن الرأي والدعوة إليه أن يكشف بما يصير إليه من الحوار عن عناصر الذاتية فيه، تلك التي قد تكون لصيقة الطبع الإنساني فيغفل عنها العقل لذلك، أو تكون وليدة القصد لتحقيق المآرب، فالحوار قد يكشف كل ذلك، ويعيد الأنظار في بحث الموضوع إلى معطياته الحقيقية من واقعه الموضوعي. وإننا لنكتشف في كثير من الأحيان أن أحكامًا نصدرها في قضية ما هي في حقيقتها من صنع الذات وإنما نسقطها على القضية إسقاطًا، وذلك حينما نطرح تلك الأحكام في ساحة الحوار. كانت النظرة الشاملة للإسلام هو إعطاء الناس الحرية في الاختيار والتفكير والتعبير لتكون القابلية لدعوة الدين نابعة من قناعة ذاتية بعيدة عن التأثير والإلزام، وتلك النظرة الإيجابية للحرية هي التي جعلت القبول كبيرا وعظيما من أمم وحضارات كثيرة كانت تعتبر سباقة إلى التحضر والتمدن، وكان الاقتناع مذهلا لهذا الدين، والسبب في ذلك الحرية الفكرية التي منحها الإسلام لأتباعه، بل إن الأغرب أن أمة التتار التي اجتاحت ديار العالم الإسلامي في فترة من الفترات، وكانت أمم وثنية دخلت في الإسلام طواعية مع انتصارها في هذا الاجتياح، وهو ما قلب النظريات الاجتماعية رأسا على عقب، مع أن فلسفات ومقولات صعود وهبوط الحضارات تؤكد على تأثر الشعوب بالهزائم فكريا وعقائديا، وحسب ما قاله العلامة ابن خلدون «إن المغلوب مولع باقتداء الغالب». لكن الإسلام خالف هذه الفلسفات والنظريات، لكون هذا الدين مؤيدًا بالوحي، ومدافعا عن حق التعبير والتفكير، والبحث عن اللقاء والتقارب كيفما كانت: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم). آل عمران: 64.

لذلك كان الإسلام السباق إلى الحوار مع الآخر والانفتاح عليه وفي أجواء من الحرية، ولم يكن هذا الحوار طارئًا أو اضطراريًا أو «براجماتيًا»، بل إن هذه المشروعية ثابتة بنصوص قرآنية، وأحاديث نبوية وسلوك نهجه الصحابة والتابعون والعلماء بعد ذلك، باعتباره أمرًا إلهيًا، فقد مارس المسلمون الحوار فعليًا على مستويات مختلفة مع شتى الحضارات والديانات تختلف في فكرها وفلسفتها مع الرسالة السماوية، لكن المشروعية الإسلامية ضمت هذا الحوار، واعتبرته فريضة ومنهاجًا، وبالتي هي أحسن، وأسهمت هذه الحوارات والمجادلات في خلق مناخ إيجابي ملائم لاستعراض الأفكار وطرح القضايا الخلافية، ومعالجة الإشكاليات بروح الحوار والجدل الحر، وأذاب هذا النهج الكثير من التحفظات التي ارتهنت في العقل المخالف في بداية الدعوة، وفتحت قلوبهم لهذا الدين وقيمه الجديدة، فكان الدخول فيه عظيمًا من كل الديانات والطوائف والأجناس بعدما عرفوا هذا الدين وفهموا حقيقته، وأدركوا وحدانية الخالق عز وجل، وكان هذا بسبب دعوة هذا الدين وحواره مع المخالفين.

ونعتقد أن الحوار مع الآخر، يعدّ الطريق الأمثل لحل إشكالية تضاد الأفكار وتصادمها، فعبر الحوار يستطيع البشر أن يوصلوا للآخرين ـ من بني جلدتهم ـ أفكارهم ومعتقداتهم، بالإقناع والتفاهم والاحترام المتبادل الذي يجر عند التجرد والعدل إلى الاعتراف ببعضهم البعض، وهذه هي القاعدة الأساسية التي يجب أن تتفق عليها البشرية ونخبها. فمع انقطاع الحوار تبرز التقاطعات البشرية كحقيقة ترتهنها النفوس الضيقة، كوسيلة لإيجاد حالة الصدام، وإثبات تسلطها وطغيانها على الآخرين. فمعظم الحروب الدامية والصراعات البشرية ما هي إلا نتيجة لانقطاع قنوات الحوار، وحلول أسلحة الصدام التي تتكلم بلغة واحدة غايتها تحطيم الآخر مهما كان الثمن، وكان الحوار والجدال في جو من الحرية هو السبيل إلى الحق والهداية، وهذا ما نصت عليه آيات في الكتاب المبين تدعو إلى البرهان فيما يطرح ويناقش [قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين] (البقرة آية ـ111) وكانت دعوته -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة مخالفيه: «خلوا بيني وبين الناس» حتى يعرفوا الحقائق، ثم بعد ذلك يختارون ما يقتنعون به بعد الحوار والمناظرة الحرة النزيهة. وهذه الأجواء الحرة من الحوار أصلها الإسلام، وشدد عليها في القرآن الكريم، وفي كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وعلى أسس ديمقراطية بمفهوم عصرنا الراهن، بغض النظر عن المصطلحات والمسميات من حيث التعدد في الآراء، والاختيار الحر النزيه للأشخاص الذين يتصدون للعمل العام، وكذلك القبول بنتائج الانتخابات.. حتى الشيخ أبو الأعلى المودودي -وهو أكثر العلماء المعاصرين انتقادًا لبعض النظريات الغربية بما فيها الديمقراطية ، قال في كتابه (مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة): كان الصحابة أكثر حبًا للديمقراطية وأشد الناس تمسكًا بالحرية الفكرية ولم يكن الخلفاء يكتفون باحتمال نتائج الحرية الفكرية من قبل الناس، بل كانوا يستثيرون هممهم. ولم يدّع أحد من الصحابة أنه لا يخطئ. وأبوبكر هو القائل: «هذا رأي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأ فمني واستغفر الله، وعمر هو القائل: لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. هذه هي المنطلقات التي ضمنها الإسلام واعترف بها للحرية الدينية والفكرية، ويستدل على ذلك من القرآن الكريم في قوله تعالى : «لا إكراه في الدين». وعن هذه الآية الكريمة يقول سيد قطب رحمه: (إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنسانًا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء).. وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. والإسلام ـ وهو أرقى تصور للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنساني بلا مراء ـ هو الذي ينادي بأن (لا إكراه في الدين)، وهو الذي يبين لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدين. فكيف ببعض المذاهب والنظم الأرضية القاصرة، المتعسفة وهي تفرض فرضًا بسلطان الدولة، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: «لا إكراه في الدين» نفي الجنس كما يقول النحويون، أي نفي جنس الإكراه، نفى كونه ابتداء فهو يستبعده من عالم الوجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مزاولته والنهي في صورة النفي ـ والنفي للجنس ـ أعمق إيقاعًا وأكد دلالة». والواقع أن حرية الرأي والفكر من الضرورات المهمة للبحث المعرفة والفكرية عموما، والتي من شأنها أن تفتح لآفاق النظر والابتكار والإبداع للعقل الإنساني الذي منحه الله عز وجل للبشر، منطلقًا لاستجلاء الحقائق ومعرفة الحق من الباطل باقتناع ومصداقية داخلية. ومن هنا اهتم الإسلام بالعقل لأنه نور للإنسان في استهداف الحق والركون إليه ومعرفة الخطأ والصواب قال تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (سورة النساء الآية 28 )، ولذلك ارتبط العقل بالحرية في الفكر الإسلامي، فلا يمكن أن تتحقق النظرة الثاقبة للحرية دون الرؤية العقلانية العادلة، ونتيجة للحرية الفكرية والعلمية في الإسلام انفتح العقل المسلم على المعارف الإنسانية، وازدهرت الحضارة الإسلامية، وانتشرت مضامين هذه الحضارة في كل أصقاع الأرض إبداعا وابتكارا، وهذا الإشعاع الحضاري يمكنه أن يعود كما كان في عهد ازدهاره، إن رجع المسلمون إلى المضامين الأولى لهذا الدين القويم، وابتعدوا عن الاستبداد والقمع والديكتاتورية.