التلفزيون العماني و50 عاما من «الخدمة العامة»
ربما يكون من حسن الطالع أن يتزامن الاحتفال بالعيد الوطني لسلطنة عمان الرابع والخمسين مع مرور نصف قرن على انطلاق التلفزيون العماني الذي يحتفل هذا العام بالعيد الخمسين (اليوبيل الذهبي).
كان من المتوقع أن يكون احتفال التلفزيون بعيده الخمسين أكثر صخبا، خاصة وأننا نعيش أجواء احتفالية وطنية تتوزع في مختلف محافظات وولايات عمان، وجاء احتفالا هادئا كاد أن يقتصر على تصريحات مهمة للمسؤولين في وزارة الإعلام حول الاحتفال وتاريخ التلفزيون نقلتها الصحف اليومية.
إن مرور نصف قرن على قيام وسيلة إعلامية حكومية ذات طابع تنموي، مثل التلفزيون العماني، واستمرارها وسط هذا التنافس الإقليمي والعالمي المحموم على وقت المشاهدين المحدود من خلال قنوات إقليمية أكثر انفتاحا وشبكات تسلية مدفوعة لا يكلف الاشتراك فيها سوى ريالات قليلة، وشبكات تواصل اجتماعي تقتل الإحساس بالزمن، أمر لا يتكرر كثيرا، وكان يستحق ما هو أكثر من ذلك. وقد شاهدنا قبل عامين فقط احتفالا مماثلا لصحيفة «عمان» بمرور خمسين عاما على صدورها، عقدت خلاله ندوة علمية موسعة شارك فيها باحثون عمانيون وعرب وعدد من الصحفيين الذين عملوا بها على مدار تاريخها، وصدرت أعمالها مؤخرا في كتاب، وكنا نتمنى أن يتكرر ذلك في احتفال التلفزيون بنفس المناسبة، خاصة وأن تأثير التلفزيون في النهضة العُمانية لم يقل عن تأثير الصحافة إن لم يكن أكثر.
على أي حال يمكننا نحن الاحتفال على طريقتنا بالعيد الخمسين للتلفزيون العُماني من خلال هذا المقال الذي نحاول من خلاله التأكيد على تميز تجربة التلفزيون في سلطنة عمان ودوره في النهضة المباركة.
في السابع عشر من نوفمبر من العام 1974 انطلقت الصورة الأولى عبر الموجات الهوائية لتلامس شاشات التلفزيون المحدودة العدد في ذلك الوقت في العاصمة مسقط والمحافظات القريبة منها، وتدشن تاريخا طويلا بين الوسيلة الجديدة آنذاك والمواطنين، وتؤرخ لمرحلة جديدة من مراحل تطور وسائل الاتصال الجماهيرية في سلطنة عمان ومحيطها الخليجي والعربي.
ولكي ندرك أهمية إنشاء التلفزيون في هذا التاريخ المبكر من عمر النهضة العُمانية المباركة التي أرسى دعائمها السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، يجب أن نتذكر أن وقت بداية البث التلفزيوني كانت وسائل الإعلام الحديثة في عُمان تقتصر على صحيفتين أسبوعيتين هما عمان والوطن، ومحطة إذاعية واحدة كانت قد بدأت البث في الثلاثين من يوليو 1970، وكانت تغطيتها تقتصر على مسقط، ولساعات محدودة، وفي العام نفسه بدأت بثًا إذاعيًا آخر في صلالة. ويجب أن نتذكر أيضا أن ظهور التلفزيون في السياق الخليجي والعربي سبق ظهوره في عُمان بسنوات تصل بالمقارنة ببعض الدول في المشرق والمغرب العربي إلى أكثر من عشر سنوات.
يؤكد ما سبق إيمان القيادة السياسية بالإعلام وتقديرها لدوره في المجتمع الناهض الحاجة الشديدة لتوفير الخدمات الإعلامية المختلفة، وتوظيفها في خطط النمو، وهو ما دفع إلى إنشاء التلفزيون ليعمل جنبا إلى جنب مع الصحافة والإذاعة المسموعة لتحقيق التحديث، إلى جانب فرض السيادة الإعلامية على أراضي الدولة، وتحقيق الأمن الإعلامي، خاصة وأن مواطني عُمان عاشوا قبل عصر النهضة سنوات طويلة من العزلة الإعلامية، لم تكن تقطعها سوى أعداد قليلة من الكتب والصحف كانت تصل بصعوبة إلى بعض النخب المثقفة، وعدد قليل من الإذاعات العربية الموجهة التي كان يمكن التقاط بثها في بعض مناطق سلطنة عمان.
من هنا نقول إن إنشاء التلفزيون في هذا التوقيت وتلك الظروف كان عملا جبارا لدولة كانت قد بدأت لتوها مشروعا ضخما للنهضة، ولم يكن لدى أبنائها سابق خبرة بالتكنولوجيا الجديدة التي يجب أن يتقنوا التعامل معها أو بالفنون التلفزيونية المختلفة التي يجب تقديمها على مدار ساعات البث اليومي. ومع ذلك وخلال سنوات قليلة استطاع التلفزيون العُماني أن يبني كوادره البشرية، وينوع قنواته ومحتوى برامجه التي تخاطب كل أفراد الأسرة العُمانية، كما استطاع أن يلاحق التطورات التكنولوجية باستمرار حتى يكون قادرا على القيام بوظائفه في إعلام الجمهور بما يجري على أرض سلطنة عمان ويحقق ترابط أجزاء المجتمع وينقل التراث الاجتماعي بين الأجيال.
كان التلفزيون إذن الضلع الثالث والضروري في مثلث الوسائل الإعلامية الضرورية لبناء نظام إعلامي في سلطنة عمان قادر على إشباع حاجات المواطنين الإعلامية، ومساعدة الحكومة في التوعية ببرامج النهوض والتحديث التي شملت مختلف جوانب الحياة في عُمان، والمشاركة فيها.
ومنذ انطلاقه كان أهم ما يميز التلفزيون العُماني هو ثبات خطه السياسي العام وارتباط هذا الخط بقيم وتقاليد أصبحت راسخة. ورغم التطورات التكنولوجية والبشرية الهائلة التي شهدها التلفزيون على مدى الخمسين عاما الماضية مازال التلفزيون العماني وفيا لمبادئه الأولى القائمة على تحري الدقة والموضوعية وتقديم إعلام مختلف خال من الشعارات الرنانة يعلي من وظائف الإخبار والتوجيه والتثقيف والتنشئة، ولا يتجاهل وظيفة التسلية في حدودها المقبولة دينيا واجتماعيا، وما زال حريصا على اتباع نموذج الإعلام التنموي الذي يلاحق المنجز النهضوي على أرض عمان ويقدمه إلى الناس، ويدعم كل محاولات البناء الوطني بعيدا عن الإثارة والتضليل التي اعتادت تلفزيونات أخرى الانسياق إليها.
إن مقارنة سريعة بين التلفزيون العُماني وما قدمه للوطن في خمسين عاما وما قدمته تلفزيونات عربية سبقته في الظهور يؤكد خصوصية التجربة العُمانية في العمل التلفزيوني. فمن ناحية واصل التلفزيون مسيرة التحديث على جميع المستويات. فعلى مستوى التكنولوجيا الجديدة يمكن القول إن تلفزيون سلطنة عُمان استطاع، بما أتاحت له الحكومة من إمكانات مادية، مواكبة التكنولوجيات الجديدة التي شهدتها صناعة التلفزيون على مستوى العالم. ويظهر ذلك في الحرص في مرحلة البدايات أن يبدأ التلفزيون بالبث الملون دون المرور بمرحلة البث بالأبيض والأسود الذي بدأت به كل التلفزيونات العربية التي سبقته. وبعد أقل من أربع سنوات استخدم التلفزيون ربما للمرة الأولى على مستوى دول الخليج البث بالأقمار الاصطناعية لتحقيق الربط بين محطتي مسقط وصلالة لتعملا ضمن قناة واحدة وهي تلفزيون سلطنة عمان. ومع ظهور وتطور البث فائق الجودة (اتش دي) استثمر التلفزيون في إنشاء مجمع الاستوديوهات الجديدة، وبدأ البث بهذه التقنية الجديدة في مطلع عام 2015 وتزامن ذلك مع تدشين الهوية الجديدة، وشعارات القنوات التلفزيونية، ومركز الأخبار. ومع التحول الرقمي الذي يشهده الإعلام أضاف التلفزيون العماني إلى قنواته الأربعة «العامة، والرياضية، وعُمان مباشر، والثقافية» منصات إلكترونية متعددة لعل أهمها منصة «عين» التي يمكن من خلالها متابعة البث المباشر، بالإضافة إلى حسابات قنواته على شبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب.
وعلى مستوى الكوادر البشرية المؤهلة استطاع التلفزيون العماني مع تراكم الخبرات البشرية على مدى تاريخه، أن يؤسس لنموذج خليجي في العمل التلفزيوني من خلال الاعتماد شبه الكامل على الكوادر البشرية العُمانية المؤهلة في جميع المهن والتخصصات التلفزيونية بداية من التحرير والإعداد وحتى الإخراج، مرورا بالتصوير والمونتاج، وأن يوفر لها الدورات التدريبية التي ترفع من كفاءتها في جميع المجالات.
ختاما نقول: إن التلفزيون العُماني بعمره الخمسينيّ وتسخير كل إمكاناته ليكون بحق «تليفزيون خدمة عامة»، يُعد أيقونة من أيقونات النهضة العمانية المعاصرة، وإن كان قد فقد بعض جمهوره لحساب شاشات الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة وحسابات المؤثرين والمشاهير، فإنه قادر بما لديه من إمكانات هائلة على تعويض ذلك من خلال تميز برامجه واستمرار ولاء قطاعات واسعة من الجمهور العُماني له.