متى سيهزم الليبراليون العرب أنفسهم ؟

19 نوفمبر 2024
19 نوفمبر 2024

يبدو أن عامًا كاملًا من الإبادة الجماعية فـي غزة وعقودا سبقتها من العنف الممنهج ليست كافـية للمثقف الليبرالي العربي حتى يراجع موقفه من دولة الاحتلال. اعتدنا على تنويعات الاتهامات التي يسوّغون بها أفعال المحتل، من قبيل مراجعة التاريخ، وترويج سرديات مثل بيع الأرض أو استعادة الحق فـي الحصول عليها بعد أن طرد منها أصحاب الحق بها. وفـي أكثر سردياتهم نشازًا وإثارةً للشفقة عليهم، حديثهم عن مشروع إسرائيل للسلام فـي المنطقة.

قد نظن أن ما يحدث الآن قد جعل موقف هذا المثقف أكثر صعوبة، خصوصا بعد أن بدا الغرب الذي يعبده هذا المثقف أكثر تعقيدًا مما يظن حول الموقف مما يحدث فـي فلسطين، وتصبح تبعية الغرب فـي هذه الحالة مهددة، وهي شرط وجودي أساسي فـي علاقته بذاته، يستمد من هذا الشرط استحقاقه، وعلامات امتثاله للواقع والقوة والنور بدلًا من البربرية التي نشأ فـيها. لكنني لم أتوقع أن ألاحظ أن نمطًا ما يستحوذ على تفكير المثقف الليبرالي العربي ساهمت فـيه الأنظمة العربية بقمعها واستبدادها غير المحدودين، وبهذا حتى هذا المثقف هو -وإن بطريقة يؤسفني الاعتراف بها- ضحية الفضاء العام الذي نشأ فـيه.

صادفتُ إجازة الأسبوع الماضي، فتيات يقدمن أنفسهن على أنهن متحررات ومثقفات. كنتُ أشرت لأمر يتعلق بالمقاطعة، لأفاجأ بموجة غضب وانفعال منهن، وصدمة من موقفـي أنا التي كنّ يعولن عليه الكثير، بصراحة كان الموقف صعبًا بالنسبة لي، وكان صادمًا، لم أتخيل أن يحدث هذا فـي مسقط، الآن فـي هذا التوقيت، مع فتيات عربيات يعشن معنا ما يحدث لحظة بلحظة. حاولتُ تمالك نفسي، وبدأتُ بمحاولة أن أفهم ما الذي يدفع أحدًا للإيمان بأن إسرائيل بريئة، أبحث عن شيء آخر غير المسوغات التي حفظناها ظهرًا عن غيب منذ نكسة 1967 مرورًا بالثورة الإسلامية فـي المنطقة وصولًا للربيع العربي. طبعًا سردن لي، حكايات دعوات إسرائيل للسلام، وعن من بدأ هذه الحرب فـي السابع من أكتوبر وقد كان هذا متوقعًا، ما لاحظته باهتمام هذه المرة هو استخدام حجة: الشك فـي القصة السائدة.

لقد ساهمت الأنظمة العربية لعقود بطمس التاريخ المعاصر، وترويج سردية واحدة على حساب ما حدث بالفعل، إذ لم تكتف هذه الأنظمة بفرض السردية التي تلائمها فحسب بل محت وهددت أي بعث لأي قصة مختلفة، وأنا لا أتحدث هنا عن السردية الفلسطينية، لا بل أي شيء يتعلق بتاريخ أي دولة من هذه الدول وما مرت به. لقد رأينا هذه الممارسة حتى وقت قريب عندما اتخذت بعض الدول العربية قرار حذف أي إشارة للإسلاميين أو المبادئ الإسلامية من المنهاج المدرسي، ووضع مكانه نسخة وطنية تعزز القومية، وتنبذ هذا المكون المهم من هويتنا وثقافتنا، ظنًا من هذه الدولة أنها بهذا تحمي مستقبلها الذي يتوافق ومبادئ واستراتيجيات حكامها. ما لا تعرفه هذه السلطة، أن القصص المنبوذة، التابوهات، أو المسكوت عنها، المحرمات، تصبح مثيرة للفضول، فـي كونها مقصية بسبب تضادها المشروط مع السلطة، الأمر الذي يجعلها جذابة، ومثيرة للاهتمام والبحث والتقصي. وبما أن هنالك اتفاقا على أن التاريخ يكتبه المنتصر، يصبح تبني السرديات الهامشية، نوعًا من هزيمة السلطة، كما يصبح تهميش أي سردية، مانحًا الشرعية المطلقة تلك السردية بغض النظر عن حقيقتها! ألا يبدو الأمر مروعًا؟ وبهذا فإن نشأتهن فـي العالم العربي والإسلامي الذي يؤمن بحق الفلسطينيين فـي أرضهم ينطبق عليه ما ينطبق على ما قالته السلطة عن تاريخ بلدانها.

تفاجأتُ عندما امتد الحديث لأعرف أنهن زرن إسرائيل، لستُ بصدد السؤال عن القوانين التي تحول من دون ذلك، وكيف يمكن لمن زار إسرائيل أن يكون بيننا هنا، ما يهمني الآن ما رأينه فـي تلك الزيارة من اختلاف كبير بين الواقع الذي يعشنه وبين ما يحدث هناك، بين استقبال الإسرائيليين لهن كعربيات وبين ما يروج عن كراهية وعداء الصهاينة للعرب واحتقارهم لهم، على العكس من ذلك وجدنّ بلدًا مسالما، بتعليم ممتاز، وتطوير لا تحظى به الدول العربية، وثقافة واسعة، وتجارة مزدهرة والأهم من ذلك قوة كبيرة. لاحظوا أن كل ما بدأن بسرده معتاد عليه من المثقف الليبرالي العربي مجددًا، لكن أريد أن ألفت انتباهكم بشكل خاص، لتقديس مبدأ القوة، الأمر الذي يخبرنا عن مبادئ الليبرالية، وما تحلم به لعالمنا هذا. من يمتلك القوة يحق له الوجود، وهو المبدأ الذي يجب أن نحتكم إليه، أما الأخلاق والجماليات والواجب فهذه أشياء لا يشار لها على الإطلاق.